السبت 11/10/1445 هـ الموافق 20/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
حين يقاضي أصحاب السجل الفاضح في اقتراف جرائم الحرب الكيميائية الشعوب المقهورة ...جورج كرزم

 يعدُّ استخدام الأسلحة الكيميائية والجرثومية في الحروب والتجارب العسكرية والعلمية من أخطر وأبشع الجرائم ضد الإنسانية وأكثرها همجية، ويجب أن ينال مستخدموها أقصى العقوبات الرادعة.  لكن المفارقة المستفزة أن من يمتلكون ترسانات مرعبة من الأسلحة الكيميائية والجرثومية والنووية تكفي لتدمير الكرة الأرضية بأكملها عشرات المرات، كالنظام الأميركي على سبيل المثال، والذي يمتلك أضخم مخزون عالمي من الأسلحة الكيميائية والنووية، هم الذين ينصبون أنفسهم قضاة وجلادين على الشعوب المسحوقة والمقهورة، ويطلقون الأحكام الاعتباطية الحاقدة والجاهزة ضد الحكومات والأنظمة السياسية غير الموالية لهم، ملصقين بها تهم اقتراف جرائم القتل الجماعي بالسلاح الكيميائي، دون تشكيل لجان تحقيق دولية محايدة.     

 

في نيسان 2017، وبعيدا عن أي تحقيق دولي محايد، أدانت أميركا وحلفاؤها النظام السوري باستخدام غاز الأعصاب (السارين) في بلدة خان شيخون، وسارعت إلى قصف قاعدة الشعيرات السورية.  وتكررت مسرحية الكيميائي مؤخرا في بلدة دوما بالغوطة الشرقية؛ إذ ألصقت حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا التهمة الجاهزة ضد النظام السوري باستخدامه غاز الكلور، وتكثفت حملات الشيطنة والتشويه ضده استنادا إلى مزاعم العصابات التكفيرية مثل "جيش الإسلام" الوهابي ومنظمات "إنسانية" موالية لتركيا والولايات المتحدة (منظمة "الخوذ البيضاء")، فأصدرت أميركا وفرنسا وبريطانيا الحكم ضده بعنجهية واستكبار قل نظيرهما، دون إجراء تحقيق مستقل مهني وشفاف، أو إبراز الأدلة الجنائية الموثقة والصلبة من ميدان الجريمة المزعومة؛ علما أن خبراء روس أكدوا بأنهم لم يجدوا أي أثر لغاز الكلور في منطقة الجريمة المزعومة.

واستنادا إلى معطيات ومعلومات استخبارية إسرائيلية مزعومة، توجت الأحكام البلطجية بشن عدوان ثلاثي أميركي بريطاني فرنسي ضد سوريا في فجر الرابع عشر من نيسان الماضي؛ أي في ذات اليوم الذي يفترض فيه وصول بعثة التحقيق الدولية التابعة لمنظمة حظر استخدام الأسلحة الكيميائية إلى سوريا بناء على طلب الأخيرة.  أي أن "معاقبة" سوريا استبق مجرد عملية البدء بالتحقيق الدولي، لابتزاز بعثة التحقيق والضغط عليها للخروج بالنتائج المطلوبة على مقاس الدول المعتدية، وفي استخفاف وازدراء صارخين للمنظمات الدولية ولـِما يسمى بالشرعية الدولية و"المجتمع الدولي" والأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي الذي لم يصدر عنه أي قرار لمعاقبة سوريا عسكريا؛ بل إن "ماتيس" وزير الدفاع الأميركي أعلن قبل الهجوم بيومين أنه لا يملك أدلة جوهرية صلبة على استخدام السلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية؛ وما هو متاح مجرد "مؤشرات على مثل هذا الهجوم الكيميائي مصدره الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي"!. 

الحكومة الأميركية تسمم مواطنيها عمدا

من المثير للاشمئزاز، أن النظام السياسي الأميركي الذي يتفنن في إصدار الأحكام المتغطرسة ضد الحكومات والدول باقترافها "جرائم حرب"، هو ذاته صاحب السجل الفاضح في اقتراف جرائم حرب كيميائية وجرثومية ونووية موثقة ومثبتة ضد العديد من شعوب العالم في شرق أسيا واليابان وفيتنام والعراق وأفغانستان وأميركا اللاتينية وغيرها؛ بل وضد شعبه الأميركي نفسه.  فمؤخرا تم الكشف عن جريمة جرثومية بشعة اقترفتها الحكومة الأميركية في الخمسينيات ضد شعبها داخل الولايات المتحدة، وذلك في إطار تنفيذ أكبر التجارب الحربية الجرثومية ضد البشر في التاريخ المعاصر؛ حيث تمت في تلك التجارب محاكاة حرب جرثومية على الآلاف من الأميركيين المسالمين.

أميركيون كثيرون لن يستغربوا لدى سماعهم بأن حكومتهم أجرت واحدة من أكبر التجارب ضد البشرية في التاريخ، من خلال محاكاة هجوم كيميائي على الآلاف من الأفراد الآمنين.  لكن الصدمة المفجعة للرأي العام الأميركي أن هذا الهجوم تم في سان فرانسيسكو بكاليفورنيا حيث لقي الناس حتفهم وأصيبوا بجروح خطيرة نتيجة تسميمهم من قبل حكومتهم.  ففي عام 1950 نفذت الحكومة الأميركية هذا الهجوم من خلال رش مدينة سان فرانسيسكو بجرثومة Serratia marcescens مستهدفة آلاف المدنيين الأبرياء.  مجلة "ديسكوفر" (Discover) الأميركية العلمية ذكرت بأن التجربة أجريت باعتبارها "اختبارا لقابلية التعرض لهذه الجرثومة، ولتحديد المناطق سريعة التأثر في حال وقوع هجوم إرهابي بيولوجي" (مجلة "ديسكوفِر": goo.gl/SZhQq9).

سمي ذاك الهجوم الجرثومي بـِ"عملية رش البحر"، وتم اختيار سان فرانسيسكو كهدف لأنها قريبة من المحيط ولأنها تتمتع بجغرافيا فريدة ومبان شاهقة وكثافة سكانية عالية.  طيلة ستة أيام في سبتمبر 1950، استخدمت البحرية الأميركية خراطيم عملاقة لرش كميات كبيرة من جرثومة Serratia على طول ساحل سان فرانسيسكو، ما أدى إلى تلقي سكان المدينة البالغ عددهم (آنذاك) 800 ألف، جرعات كبيرة من المادة الجرثومية التي تعرض لها أيضا سكان التجمعات السكانية المجاورة، وتحديدا ألباني، بيركلي، دالي سيتي، كولما، أوكلاند، سان لياندرو، وسوساليتو (المصدر السابق).

وفي حين أصرّ الجيش الأميركي على أن جرثومة Serratia marcescens "نادرا ما تتسبب بأمراض"، أشارت مجلة "ديسكوفِر" إلى أن عددا من الأمراض الخطيرة وبعض الوفيات المأساوية تم الإبلاغ عنها نتيجة الهجوم الجرثومي-الكيميائي الذي شنته الحكومة الأميركية.  ومن أبرز الأمراض التي أصيب بها الضحايا: التهابات حادة جدا في المسالك البولية مقاوِمة للمضادات الحيوية المحدودة المتاحة في تلك الحقبة؛ ومضاعفات مرضية خطيرة في القلب بسبب استيطان جرثومة Serratia في صمامات القلب.

رغم أن هذه التجربة كانت واحدة من أكبر التجارب، إلا أنها لم تكن المرة الوحيدة التي سممت فيها الحكومة الأميركية مواطنيها عمدا.  ففي أكتوبر 2017 دعا ثلاثة أعضاء في الكونغرس الأميركي إلى مساءلة الحكومة حول إجراء تجارب سرية في الخمسينيات، شملت جميع أنحاء البلاد، وتضمنت اختبارات لمواد مشعة على الفئات الضعيفة والفقيرة.  الكاتبة والأستاذة ليزا مارتينو تايلور كشفت مؤخرا عن هذه الحقائق في كتابها "وراء الضباب: كيف استهدف برنامج أسلحة الحرب الباردة الإشعاعية الأميركيين الأبرياء":

 مارتينو تايلور اكتشفت بأن مجموعة صغيرة من الباحثين عملت على تطوير أسلحة إشعاعية؛ وفي وقت لاحق عملت على تطوير أسلحة مركبة باستخدام مواد مشعة إلى جانب أسلحة كيميائية أو بيولوجية.  وقالت مارتينو تايلور: "في معظم الحالات استهدفوا أكثر الفئات ضعفاً في المجتمع...استهدفوا الأطفال والنساء الحوامل في مدينة ناشفيل، واستهدفوا الأقليات والمرضى في المشافي".

بعض الضحايا كانوا نساءً حوامل فقيرات في مدن ناشفيل، شيكاغو، وسان فرانسيسكو، اللواتي تم إعطائهن خليطا كيميائيا اشتمل على الحديد المشع، دون علمهن؛ وذلك خلال أول زيارة لهن للطبيب أثناء فترة الحمل.  كما أن آلاف الطلاب تعرضوا لحقول مشعة تم إنشاؤها في بعض المدارس الثانوية والجامعات بولاية كاليفورنيا.

في الخمسينيات، عندما تم رش الحقول في مدينة سانت لويس بالمواد الكيميائية المشعة، قالت ماري هيلين بريندل (عمرها حاليا 73 عاماً) لوكالة اسوشييتد برس، بأنها بينما كانت تلعب "البيسبول" مع أصدقائها، شاهدت سربا من الطائرات الخضراء تحلق فوق رؤوسهم بارتفاعات منخفضة، ورشتهم جميعًا بمسحوق كيميائي دقيق يلتصق بالجلد.  ومنذ ذلك الحين، قالت برينديل بأنها تعاني من سرطانات الثدي والغدة الدرقية والجلد والرحم، كما أن شقيقتها توفيت بسبب نوع نادر من سرطان المريء. "أنا فقط أريد تفسيرا من الحكومة الأميركية: لماذا تفعلون ذلك بالناس؟"  تساءلت برينديل.

الأدلة الدامغة تثبت تورط الحكومة الأميركية الفيدرالية في تسميم مواطنيها عمدا في مناسبات عديدة. المجرمون المسؤولون عن تنفيذ هذه الأعمال الوحشية ضد شعبهم، لم يخضعوا حتى اليوم للمساءلة حول الهجمات التي تسببت بمشاكل صحية خطيرة لآلاف الأميركيين طوال حياتهم.

 

تلفيق الأكاذيب

حين لا يتورع النظام السياسي الأميركي عن استخدام السلاح الكيميائي والجرثومي والإشعاعي ضد شعبه، فما الغرابة إذن في أن يستخدم ذات النظام سلاح الإبادة الجماعية ضد شعوب أخرى وبأشكال أفظع بشاعة؛ ما يفسر هيجان تلك الطغمة العسكريتارية الحاكمة في الولايات المتحدة واختبائها خلف دخان كثيف من الأكاذيب الملفقة ضد الشعوب والحكومات التي ترفض الخنوع لسياساتها ومشاريعها؛ في محاولة لإخفاء حقيقة سجلها الكيميائي-الجرثومي-الإشعاعي المشين، وإسقاط التهم الجاهزة على الآخرين.  ألم يُبْنَى الاحتلال الأميركي للعراق وتفتيته ونهب ثرواته، على أكاذيب أسلحة الدمار الشامل؛ فكانت النتيجة أن جاءت الدبابات الأميركية بنظام سياسي طائفي فاسد وحاقد سرق مئات مليارات الدولارات.  

وبسبب الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 (دون أي قرار دولي من مجلس الأمن)، وقبلئذ الحصار التجويعي الوحشي الذي استمر نحو 13 عاما، فقد استشهد أكثر من مليوني عراقي، ناهيك عن مئات الآلاف الذين أصيبوا بالسرطانات جراء الأسلحة الأميركية المحتوية على اليورانيوم المستنفذ المشع. 

"سكوت ريتر" كبير المفتشين عن أسلحة الدمار الشامل في العراق والموظف الكبير في وكالة المخابرات الأميركية (CIA) وصاحب كتاب "العراق سري للغاية" (Scott Ritter, Iraq Confidential, 2010)، كشف بأن الولايات المتحدة احتلت العراق عام 2003 "لتدمير أسلحة الدمار الشامل التي لا وجود لها أصلا" واستخدمت الأسلحة النووية المشعة التي قتلت الآلاف.  وقبلئذ، فرضت الولايات المتحدة على الشعب العراقي حصارا تجويعيا طويلا، بذريعة العمل على تدمير أسلحة الدمار الشامل في العراق، وكانت الولايات المتحدة نفسها قد استخدمت مبيدات حشرية فسفورية عضوية (مثل درسبان، ديفيبان، ديزكتول، مالاثيون وليندين) كغازات أعصاب ضد الشعب العراقي في حرب الخليج عام 1991، ما تسبب بانتشار الأمراض العصبية والسرطانية (كرزم، جورج. المبيدات الكيميائية والحرب القذرة، 1999).

قائمة الجرائم الكيميائية الأميركية طويلة، لكننا نكتفي هنا بالإشارة إلى ملايين الفيتناميين الذين لا زالوا يعانون حتى يومنا هذا من السرطانات والولادات المشوهة بسبب الأسلحة الكيميائية الأميركية.  ففي الستينيات وأوائل السبعينيات، استخدم الاستعمار الأميركي ضد الثورة الفيتنامية مبيد الأعشاب 2,4-D بكثافة، كمكون أساسي في السلاح الكيميائي المعروف بـِ "العنصر البرتقالي"  Agent Orange السام والمسرطن (مبيد الأعشاب 2,4-D  يشكل نحو 50% من مادة العنصر البرتقالي)؛ فدمر وأباد أدغالا وغابات وقرى بكاملها أثناء ملاحقته للثوار.  وقبل ذلك، في الخمسينيات، استخدم الاستعمار البريطاني ذات المبيد (المكون الأساسي في سلاح Agent Orange) ضد الثوار في ماليزيا.

جوقة التحريض والشيطنة

بالإضافة للولايات المتحدة الأميركية، من الملاحظ أن الأعضاء الآخرين في جوقة الأنظمة السياسية الغربية التي تسوق نفسها باعتبارها حملا وديعا، وتساهم في حملات التهديد والوعيد للانتقام من جريمة الكيميائي المزعومة في الغوطة الشرقية- أولئك المنتمون إلى تلك الجوقة الغربية، هم ذاتهم من اخترع اصلا السلاح الكيميائي وكانوا السباقين إلى استخدامه وإبادة الملايين من البشر بسببه.  فالاستعمار الفرنسي اقترف أبشع جرائم الحرب الكيميائية أثناء احتلاله الجزائر؛ فقتل آلاف الجزائريين بهذا السلاح الإجرامي؛ بل إن فرنسا هي أول من استخدمت الأسلحة الكيميائية في القرن العشرين، وتحديدا خلال الحرب العالمية الأولى التي سقط خلالها أكثر من مليون شخص جراء الغازات السامة التي استخدمتها فرنسا وبريطانيا.

أما دولة الاحتلال الإسرائيلي فقد بَزَّت الجميع بممارستها أبشع أشكال النفاق السياسي والأيديولوجي المثير للإشمئزاز، زاعمة بأنها قلقة على الشعب السوري الذي تقصفه حكومته بالغازات السامة، فبادرت، في حركة عسكرية استعراضية، إلى قصف سوريا (قاعدة T4)؛ علما أن إسرائيل هي من الدول القليلة جدا في العالم التي رفضت وترفض التوقيع على اتفاقية حظر استخدام الأسلحة الكيميائية التي دخلت حيز التنفيذ عام 1997.

والأخطر مما سبق أن إسرائيل التي رفضت وترفض التوقيع على معاهدة الحد من الانتشار النووي، هي الدولة الوحيدة في منطقتنا العربية التي تمتلك ترسانة نووية عسكرية مرعبة (كما يؤكد ذلك العديد من الخبراء الأجانب) تشكل تهديدا وجوديا ليس فقط على مجرد الوجود الفيزيائي البشري للشعوب العربية والإسلامية في المنطقة؛ بل أيضا على جميع أشكال الحياة البرية والنباتية والحيوانية والبحرية. 

لسنا بحاجة إلى التذكير بالمحارق البشرية الجماعية التي اقترفها الاحتلال الإسرائيلي في حروبه ضد أهلنا في قطاع غزة، وبخاصة في عدوان تموز-آب 2014 الذي اقترف خلاله مجرمو الحرب الإسرائيليون مجازر همجية ضد شعب أعزل محاصر ومجوع.

استخدم الاحتلال الاسرائيلي أبشع الأسلحة الفتاكة المحرمة دوليا في حروبه العدوانية على غزة، مثل الأسلحة الكيميائية والقذائف الحارقة (الفسفورية وغيرها)؛ الأمر الذي يفسر العدد الكبير من الشهداء الذين وصلوا، خلال عدوان 2014، إلى مشافي قطاع غزة جثثا متفحمة، أو أشلاء ممزقة.  علاوة على القنابل العنقودية التي تصنف عالميا باعتبارها من أسلحة الدمار الشامل.  وقد استخدمت "إسرائيل" في ذلك العدوان، وبكثافة كبيرة، النسخة المطورة تحديدا من القنابل العنقودية الأميركية الصنع التي تعرف اختصارا بـِ DIME (الدايم)؛ ويضاف إلى ذلك  القنابل الفراغية والارتجاجية التي أدت إلى تسوية عدد كبير من المباني والمنازل الغزية بالأرض. 

2018-05-21