الجمعة 10/10/1445 هـ الموافق 19/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
مسرح وهران ... ميلادٌ جديد لرميمِ مدينةٍ عتيقة ...! ... بقلم: د.هدى درويش

  أثارتني ذات ظهيرة حين اجتمعتُ لساعات ـ و أنا أجول  بهو   المسرح و قاعاته في ضيائها الخافت ـ بروح المسرحي الجزائري المغتال ’’ عبد القادر علولة’’ , صوره التي تسكن الحيطان بشكل رهيب و كأنه مرّ من هنا للتو بسيجارته و قهوته ثقيلة المذاق ... ’’عبد القادر’’ الذي نكلّت به ايادي الظلاميين غدرا خلال العشرية السوداء التي كادتْ أن تغرق الجزائر في دوامة عميقة من الدماء و الفتن, و لم يكنْ ’’ علولة ’’ سوى احدى القامات التي شمرتْ عن سواعدها حتى تمسح عن وجه ’’ وهران’’ الأبية غبار الزمن و تراكم بعض المغالطات على جبينها منذ أصبحتْ في نظر العالم معقلا للراي و للروكيات الشعبية بعيدا عن ملامحها

الحقيقية و أرستقراطيتها الثقافية التي وُضعتْ لها  منذ الوجود الفرنسي في الجزائر  ... و من قبله الاسباني و العثماني و الروماني و البربري ... وهران بمعالمها و مثقفيها و حركيتها النشطة تعتبر ثاني عاصمة للجزائر ... مسرحها الذي يحمل اسم ’’ عبد القادر علولة’’ بساحة أول نوفمبر بقلب شوارعها العتيقة ,على بعد أمتار من  واجهة بحرها التاريخية و الذي هو وليد احدى أقدم الدور الأوبيرالية في الشمال الافريقي من تصميم المعماري ’’ أيناز  ’’ وفقا للطرار الإيطالي الباروكي القديم ... و تم افتتاحه عام 1907 تحت مسمى ’’ أوبرا وهران ’’,بعض أجزائه مغطاة بالقرميد الأحمر , يفترش حوالي مائة متر من الطول  و على مدخله منارتان كبيرتان يتوسطهما تمثال ضخم يمثل ’’الهة الفن ’’تحمل بيدها قيتارة و على جانبيها تماثيل صغيرة آخرى تمنح واجهة المبنى عمقا فنيا و جماليا لا يضاهى  

     سنين قبل اضفاء طابع المؤسسة الرسمية عليه , كان مسرح وهران متواجد على ساحة العطاء الفني بفضل الفرقة التي كانت تنشط أنذاك تحت تأطير المسرحي القديم ’’ ولد عبد الرحمن كاكي’’ و منذ سنة 1963 عند صدور قرار جمهوري بترسيم المسارح الوطنية مباشرة بعد نيل الحرية , لم يتميز كثيرا باستقلاليته في التسيير الفني أو الاداري لبقائه فرعا في كنف المسرح الوطني و هذا ما جعل من بعض الصعوبات تطرأ خاصة على مستوى الحاجيات المادية و متطلبات مواكبة عجلة الابداعات المسرحية في المغرب الكبير و العالم و هذا ما طرح بقوة فكرة استقلال المسارح الجهوية بالجزائر و تحول ’’ مسرح وهران’’ بموجبها عام 1967 الى المسرح الوطني للغرب الجزائري لينتظر فرصته الفعلية حتى عام 1972 ليشهد نقلة جذرية تتمتع بتحرر تام في المجالين المالي و الفني و لم يتوقف منذ ذلك الحين عن دفع عجلة الزخم على الخشبة بمساهمة كوكبة من الكتاب و المخرجين و الكوميديين ذوي سمعة وطنية و عالمية .

يزخر الخزان الفني لهذا المنبر بمسرحيات تختلف طبوعها من الكلاسيكي الى الواقعي الى الملهاة و التي اسسّ لها رجال عظماء شرعّوا أبوابه أمام التنوع حسب اختلاف الطبوع و المدارس و جعلوا من عملية التوزيع تعتمد في سيرها على قاعدة واحدة واسعة و شمولية تعتبر الانتاج المسرحي الهادف هو الركيزة الأساسية في استراتيجية  مسرح المدينة و المعتمدة في بلوغ أهدافه في تمرير رسائل نبيلة بناءة و لم يتأخر يوماً في وضع كل التسهيلات الضرورية لمسرح تلتف حوله كل القوى الحيّة من مختلف شرائح المجتمع المدني رغبة للوصول الى جمهور واسع نخبوي ... 

عاد مسرح وهران الى الحياة و لا يمكن لأحد أن ينكر دوره الفاعل الذي تقاعس في فترة سابقة بسبب الاهمال  و الركود و الروتينية و عدم الاجتهاد في الوصول الى ابداع حقيقي يجعل منه شريانا نابضا يعيد للمدينة العتيقة توهجها و يعيد النخبة المثقفة  من الظلال الخفية الى الواجهة ... لقائي بالسيد ’’ مراد سنوسي’’ و هو اعلامي متأصل في مدرسة الكفاح التي بنى على بديهياتها اسما غنيا عن التعريف , يشهد له منذ تواجده بالمؤسسة الوطنية للتلفزيون الجزائري الى توليه قبل عام ادارة مسرح بحجم ’’وهران’’ ... يتحدث عن مساره و عن عاتق المسؤولية التي يلتزم بمسلماتها كل من ينتمي فخرا و اجتهادا لهذه البلياد الرفيعة : ’’ هذا المبنى أصبح الآن جزءًا من روح وهران الثقافية و انني أشعر بالمسؤولية العظيمة التي تربطني به بمحبة العطاء و هو ما يشغلني لحظة كتابة الورق و حين أحاول أن ألبسه طابع هذه الخشبة في أن يكون ميلادا حقيقيا لحقبة توارت و نحاول ارجاعها بكل الأساليب و مهما كان ثمن العناء في ذلك ... وُجدَ هذا المبنى ليكون عظيما و ليحمل اسم مدينة مشعة مذ توّسدتْ هذا الجانب من الشاطئ ... حياة المسرح جوهر وجودي و انساني و فنيّ ... يجسد الألم بصورة أو بأخرى على ركح لا يتردد في الصراخ بواقع شارعنا و تفاعلنا مع ما يدور حولنا من أحداث و مآسٍ و تغيّرات , و فاعليته تكمن في القدرة الخارقة على تجسيد الحقائق دون خوف , دون تردد , دون توقف ... ’’ ثم يضيف عن العوائق التي ما زالت تعترض درب الفرق الشبابية الحالمة و النشطة هنا بصورة دائمة : ’’ لا شيء يعيق وصولنا الى الحلم الكبير , هذا المسرح كباقي منابر الوطن الثقافية دفع ثمن الارهاب طويلا و فقد قامات كثيرة  لكنه ما زال يحيا و يتنفس ... هنالك أعمدة تولد باستمرار و سوف لن يزيدنا الوجع الذي مضى سوى عمقا تاريخيا و اصرارا ... ’’

2018-06-05