يسحرني عالم القصّة القصيرة، كما الرواية، فهو عالم مدهش ولا يقل خطورة عن عالم الشعر، وفي اعتقادي أنّ الفنّ القصصي هو المحكّ الذي يعرف به الأديب، ويتوّج أعماله. وقد حاول شعراء كثيرون كتابة القصّة فلم يفلحوا. وهناك شعراء كبار، مثل نزار قباني وسميح القاسم ومحمود درويش، لم يكتبوا القصّة، فانحصرت أمجادهم في عالم الشعر، وهو نصف الأدب وليس هو الأدب كله.
سافرت مع قصّة الأديب نبيل عودة "كنت معها" على طريقة الفلاشباك، أي استحضار الماضي، فأخذني في رحلة جميلة، مع مغامرته التي تعود إلى زمن غابر، ربما 25 عاماً، لكنها مغامرة تلح وتطرق على أبواب ذاكرته.
وأرسل إليّ نبيل عودة هذه القصة بعد أن قرأ واحدة من قصائدي: "من أجل عينيك الحياة أبيعها"، وكان لي شرف أن يكتب نقداً انطباعياً عن القصيدة، ويزف إليّ قصّته، التي ذكرتني كما ذكّرته، وأعادت إلي قبساً من حنين إلى الماضي.
تقوم القصّة على بنائية الأفعال الماضية، ذكريات مع امرأة حبيبة، جمعته فيها لحظات شغف، فلا نكاد نقع على أفعال مضارعة، لأن الماضي يمخر عباب الزمن ليحضر أمامه، متلبساً جملاً قصيرة، مختصرة، توجز الحدث. وليس أفضل من الجمل القصيرة للتعبير عن أناقة الجسد القصصي، خصوصاً إذا كان الحديث عن المرأة، فالكاتب في استذكارها، قصير الأنفاس، يلتقط اللحظة بأصابعه ويخاف أن تفلت منه.
إنها المرأة التي أحبها وسكر بها، حتى تفوح من النص رائحة النبيذ المعتق، فكم مرة انتشرت من جسدها رائحة النبيذ، والخمرة الطيبة التي تسكر، لكنها تتلاشى:
"وملأت الهواء حولي بخمرها، بعبقها، برحيقها، بطعم النبيذ الفاخر المعطر بفعل الزمن، يبعث بمجرد التفكير فيه تخديراً لذيذاً يجري في الشرايين، يتدفق مع دمي لكل أطرافي ولا يتوقف"...
ومثلها:
"تشابهت كل القبل وبقي لقبلتها طعم النبيذ المعتق"...
والقدر يقف بالمرصاد للحبيبين، ليتحول العشق الذي تفتح كوردة برية، إلى عذاب وألم داهمين، وقلما يحدث أن يكون الحب للخلود. وأجمل ما في الحب بعد أن يتلاشى أن يترك شيئاً من بقاياه، من لقاءاته الحميمة، ومن أماكنه وأزمنته على مقعد حزين!
هنا الحب لا يختفي، بل يظل يختلج ماضياً في الحاضر، وأياماً تتواصل...
لقد خاب أمل الشاب المراهق، بعدما ضاعت رغبات الشباب، وتفرقت كما تتفرق الغيوم البيضاء فوق أسوار المدينة، فالواقعية التي أرى أن نبيل عودة شغوف بها، تفرض نفسها على النص، ليشيع جو التشاؤم والخيبة عليه. فالفوارق الاجتماعية تتمثل في مجتمع نبيل والمرأة التي أحبها، ليصبح الفارق حجر عثرة، وهكذا يفترق الحبيبان، لا لشيء مهم، بل لأن المرأة خضعت للظروف الاجتماعية الضاغطة. ولماذا العتب على نبيل، من غير أن نفهم خلفيته السياسية، ونعرف كم هو ملتزم بالمنهج الواقعي في الحياة والثقافة؟
إنه التعارض في التفكير بين شخصيتين، كأني بهما جبران المندفع في عاطفته، والذي يعتبر أن الحب ممكن في الخيال، بينما تعارضه مي زيادة الواقعية، العقلانية حتى الجمود في تفكيره الجامح، ويصبح البُعد في المسافة هو الخصم والحكم بينهما.
ومن جملة التناقض بين الشخصيتين، مواقف نبيل الثورية، بينما المرأة محافظة في مجتمع تقليدي، تنظر إلى "الثوري" نظرة الشك والريبة، وتعتقد أن حياتها معه ستكون انعكاساً لواقعه المضطرب:
"قالت لي ان مبادئي الثورية هي تغطية ناجحة لعبثي.
قلت: وهل تنفي المبادئ الثورية الحب؟!
قالت: ولكنك عابث.
كان حكمها غير قابل للاستئناف..."
المسافة بين نبيل ومحبوبته ليست بين الشرق والغرب، بل هي أمتار قليلة، كما يوضح في قصته، لكنها أمتار قاتلة، فيها الشك، والغيوم الرمادية والعاصفة التي لا تبقي ولا تذر من معبد الحب، لتبقى منه كومة رماد وذكرى تنفخ فيها رياح العشية فتؤلم وتتألم.
وكم هو رائع هذا الأديب، يحملنا في رحلة على جناح الوقت، كما في الأفلام التي تخترق الزمن، فنعيش معه، ونرافقه من غير ملل، بل تسحرنا الفكرة الموجزة، والتعبير الدقيق عن الواقع، وقد تكون الإطالة في القصة نوعاً من الخضوع لهذا التأني في السرد... وفي السياق يظهر التحليل النفسي العميق للشخصيّتين، ولا أحد سواهما في القصة، ما عدا كومبارس لا يكاد يظهر. فلله درك أيها النبيل كيف جذبتنا إلى نص يقوم على بطلين فلا نعاني الضجر ولا نفلت السياق من قبضتنا!
إن التحليل النفسي يُظهر النبيل نموذجاً لكل فتى في ريعان الشباب يقع في غرام امرأة جميلة، فتجتاح عقله وكينونته، ويهيم بها، وصولاً إلى أن يطلب يدها. وتحليل نفسية المرأة يظهرها عقلانية أكثر منه، تراعي الضغوط المفروضة عليها من المحيط، وتفضل أن تضحي بمغامرتها على مذبح الواقع. وتلك خسارة ما بعدها خسارة، فلولا هذا التناقض في الشخصيتين، لكانت الحياة سارت على ما يرام، ولكن ما أقساها حياة!
وعندما يلتقي نبيل بالمرأة نفسها بعد زمان طويل، يتذكر وينفعل، وينتقم من السمك المقلي، فيأكل بشراهة:
""كنت جالساً مع مجموعة اصدقاء في مطعم غير بعيد عن شواطئ البحر في عكا ورائحة السمك المقلي الزكية تخدرني. فهو ملاذي بعد فقدانها، السمك والنبيذ الابيض المائل للاصفرار. ربما فقداني لها بطريقة لا تختلف عن تملص السمكة من يد صيادها، جعلني انتقم من الاسماك ... او أحبها أكثر".
إنه الانتقام والثأر في العقل الباطني لنبيل، في غياب القدرة على الثأر من الطرف الآخر. تماماً كما أن تقطيع الخبز أثناء تناول الطعام يدل على الرغبة في الانتقام من الوالد. إذن الخبز هو الأب في العوارض النفسية والعصابية... والسمكة التي يهشمها نبيل ويأكل منها الكثير هي المرأة ذاتها، ولتناولها بشراهة دلالتان: الثأر من الزمان، والشهوة لأكل المعشوقة، ولكن من أين لك أن تعلق في صنارتك أيها المحب الخائب والحزين؟!
شكراً لك أيها الصديق الأديب، لأنك وفرت لي فرصة الاستمتاع بقصتك، وليقل ما يقوله النقاد، ألم يخالف بيار كورناي مذهبه ويثبت أن الأدب حرية؟ ألم يخرج الواقعيون من أقفاص الرومنطيقية المكررة؟ وأنت تثبت أن الأدب حرية ولا شيء أغلى منها... تلك هي المرأة التي نحبها ونعشقها، ونشرب من نبيذ شفتيها، ولا نثأر منها.
*(د. جميل الدويهي اديب مهجري موسوعي: ناقد، قاص، روائي وشاعر (لبناني) مقيم في استراليا وله موقع ثقافي مميز باسم "أفكار إغترابية")
رابط لقصة نبيل عودة "كنت معها" في مدونتي: http://nabilodi.blogspot.com