الجمعة 10/10/1445 هـ الموافق 19/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
' وهذه الدّار لا تبقي على أحد'…. الإعلامية امال إدريس

إلى من اختار العيش العزيز أو الموت الكريم، إلى من صبر وصابر ورابط ولا يزال، إلى الصحفي الناقد، والمناضل الفذ، والكاتب الحر، الى مؤلف كتاب "حفريات في ذاكرة الزمن"، إلى الحقوقي والمدافع الشرس عن حرية التعبير، إلى الطاهر العبيدي الذي عاش معاناة من سلب منهم الوطن وحرموا من دفء الأرض بسبب آرائه المعارضة لنظام القمع :  ماذا عساني أقول لأواسيك في فقدان والدك المغفور له بإذن الله تعالى، محمد العبيدي، بعد أن فارق الحياة فجر سبت 22 سبتمبر 2018 ؟؟؟

قدرك أيها الزميل الفاضل أن تعيش على وقع سنوات الجمر التي أبت أن تفارقك وسكنت سنين عمرك. عمر قضيت جله في المنفى لأنك رفضت الانخراط في سياسة القطيع.

ضريبة النضال دفعتها غالية، أنت والوالدة الكريمة الحاجة فاطمة التي تعيش بلا ذاكرة وتوقف بها الزمن وهي تناجي وتنادي على إبنها "المنصف" بعد أن تمكن من الفرار من براثن العدوان وهرب من قاعة المحكمة ذات يوم من أيام جانفي 1992 ليعود بعد جانفي 2011 إلى حضن أمه علّه يخفف حرقتها ولكنها ومن فرط لوعتها سقطت مغشيا عليها من شدة الفرح. وكانت نتيجة الصدمة فقدانها لذاكرتها لتستفيق وهي تنادي "أين أنت يا منصف؟ هل أنت جوعان؟ هل أنت عطشان؟ أين أخذوك؟ وفي أي مكان ألقوك؟؟؟ " ولئن عاد ليعقوب بصره بعد ملاقاة إبنه يوسف فإن الذاكرة لم تعد لفاطمة التي ظلت تطعم الحمام الزاجل وتحمله رسائل إلى إبنها المغترب.

ضريبة الدفاع عن حقوق الإنسان دفعتها باهظة، أنت والوالد الراحل، محمد العبيدي الذي التحق بالرفيق الأعلى وقد أنهكته قسوة الفراق والحيرة على إبن لم يره لمدة أكثر من عشرين سنة، بأيامها ولياليها.. بساعاتها ودقائقها ولحظاتها التي بدت له دهرا...

الضريبة لم تستثن الأخت الصبورة "حبارة" التي آثرت أن تكرس حياتها لحمل أثقال لا يعلمها إلا من خلقها ،من بينها خدمة أم وأب اكتويا بلوعة الفراق وانتظار أخ قد يعود وقد لا يعود. الثمن دفعته عائلة العبيدي بأسرها دون استثناء.

المرحوم محمد العبيدي من شدة خوفه عليك حين كنت مطاردا من أجهزة البوليس و معتقلا في دهاليز السجون , حثّك على الفرار وقال لك: 
"ارحل.. اذهب.. هاجر الى ارض الله الواسعة وأنا راض عنك يا فلذة كبدي،  يا وحيدي وسندي في الحياة.. رافقتك السلامة ودعواتي وتضرعي لله كي ينجيك كما نجّى يونس من بطن الحوت...".

آثر أن تكون في المنفى على أن تكبل بقيود الطاغوت الذي لا يرحم أو أن تدفن حيا في قبر قد لا يعرف له مكان.

زرته مؤخرا قبل ان يرحل الى الرفيق الأعلى، حين سمعت انه يشكو من توعك صحي فإذا به حين رآك استفاق وانفرجت أساريره ونسي مرضه وأدخلت على قلبه البهجة والسرور وقضيت معه عيد الإضحى، حاملا معك كنّشا صغيرا أودعته كل ما كان يرويه لك من أمثال وحكم ومقولات مأثورة، كانت آخر عهدك معه ، كما كان عيده الأخير على وجه الأرض. ربما كانت تلك رغبته الأخيرة، ودّعك بعين الرضا وبدعوات الخير وبإحساس أب يرى إبنه الوحيد للمرة الأخيرة.

يعجز المرء عن وصف ما تعرضت له هذه العائلة من معاناة ويقف تحية إكبار لصبرك أيها المناضل الفذ، يا من اختارت لك أمك إسم "المنصف" لكأنها شعرت مسبقا أن الظروف لن تنصفك يوما وأنك ستظل في المهجر بسبب النكران ربما أو بسبب ترفعك عن نيل الكراسي والمناصب وانصرافك الى مهنة المتاعب، لتكرس حياتك في خدمة القلم.  أجل القلم الذي أقسم به المولى عز وجل "نون والقلم وما يسطرون".

كتاباتك كادت أن تؤدي بك الى الهلاك، كيف لا وأنت من تعرضت لعملية اغتيال في قلب عاصمة فرنسا والملف موثق لدى الشرطة في باريس لمن هيأت له نفسه التشكيك في الأمر.

الوالد المغفور له مسجى وأنت تقارع الصعاب في المهجر راكضا بين أروقة المطار تناشد الطائرة كي تقلع في وقتها لتلتحق بجنازته وتودعه الوداع الأخير، حتى الطائرة لم تنصفك وتأخرت عن موعدها أربع ساعات، ولكن القدر أبى إلا أن تدفن والدك بيديك، ربما كان يدعو في سره أن لا يوارى الثرى إلا بحضورك...

ماذا نقول حين تخوننا العبارات وتلفظ الكلمات أنفاسها !!!! 
ليس لنا من مغيث سوى قول رب العالمين "صبر جميل والله المستعان"

2018-09-24