جلسنا في مطعم "أبو فوزي" وفي يد كل واحد منا وجبة فلافل طازجة. كانت المذيعة على شاشة التلفاز أمامنا تستعرض، بنبرة حزينة، آخر المستجدات في قضية مقتل الفتاة يارا أيوب، وتعدد سلسلة النشاطات الاحتجاجية التي جرت ضد تلك الجريمة على طول البلاد وعرضها. والى طاولة مجاورةجلست مجموعة من الشباب الذين لم يبدوا اهتمامًا بتفاصيل النبأ، لكنهم كانوا يتحدثون عن تمادي "بنات اليوم" في تصرفاتهن اليومية التي وصلت، برأيهم، إلى حد الوقاحة والانحطاط. كان أصغرهم سنًا يحاول بحذر ، أو هكذا بدا لي، أن يقنع أصدقاءه بأنهم يبالغون؛ فالعالم قد تغيّر ، وهو لا يشعر بحرج أذا لبست الفتيات "على الموضة " وخرجن للعمل. قاطعه زميله بحركة عصبية كادت تغطس شاربه في بحر من الطحينة ، ورفع حاجبه وهمهم بصوت يخنقه الفلافل، ففهمنا أنه يطلب من صديقه أن يخرس وألا يتفلسف ! لأننا، هكذا قال بحزم بعد أن بلع: "بنضل عرب ولسنا في أوروبا وبناتنا مش داشرات ولازمنُفهمهن بالمنيح أو بالعاطل " .
حاولت ألا أسمع النقاش وأن أركز فيما كانت المذيعة تنقله من تفاصيل حول اعتقال بعض المشبوهين في قضية القتل وبعض المعلومات والاحصائيات عن عدد الضحايا من النساء، الذي بلغ منذ بداية هذا العام أربعاً وعشرين.
فجأة صرخ من كان أقربهم علينا وأعلن، بعد أن وضع وجبته على الطاولة بحركة استعدائية ومد سبابته نحو السماء وأقسم انه سيقتل أخته فيما اذا أصرت على أن تسافر لتحتفل مع صديقاتها في اسطنبول بعد تخرجها من المدرسة الثانوية ، قال ودفع رأس سبابته نحو عيني صديقه وصرخ، " مش فارقة اذا على حسابها او حساب أهلي .. فهمت ولا أفهمك ؟ " .
نظرت في وجه صديقي ففهمني .
تركنا المطعم جائعين وفي صدرنا غصة، ومضينا نفتش عن فسحة من أمل وتذكّرنا ما تعلمناه في كلية الحقوق في سنتنا الجامعية الأولى.
هزت قضية قتل الشابة يارا أيوب، ابنة السادسة عشر، أركان المجتمع العربي في إسرائيل وجرّت في أعقابها ردود فعل لا في الجش ، قريتها الجليلية الوادعة، فحسب، بل في معظم القرى والمدن العربية. لم تحمل مشاهد الحراك الشعبي ضد جريمة قتل يارا أي عناصر احتجاجية جديدة ومختلفة جوهريًّا عمّا شاهدنا بعد عمليات قتل فتيات عربيات أخريات نفّذت في مواقعنا في الأشهر أو في السنوات الماضية؛ وذلك على الرغم مما بعثته موجات الاحتجاج ، هذه المرة ، من إشارات مطمئنة، قد توهم المراقبين عن بُعد بأننا أصبحنا مجتمعًا يقدس جميع أبناؤه حياة بناته ويحترمون حقوقهن بالعيش بحرية وبكرامة.
أقول ذلك وأقر بأهمية كل صوت ارتفع وسيرتفع ضد جرائم قتل النساء، لكنني، مثل كثيرين منكم، أعرف بأن يارا لن تكون آخر الضحايا، فمن وما قتلها وقتل وسيقتل غيرها ما زال يعيش ويتوالد بين ظهرانينا.
أشغلت قضية العنف الممارس بحق النساء العربيات على صنوفه ، ومأساة قتلهن على خلفية ما يسمى "بشرف العائلة" كثيرين من قادة المجتمع ومن نخبه العاملة والمتعلمة. ورغم جميع المتغيّرات التي حسّنت من مكانة المرأة داخل المجتمع العربي في اسرائيل، ورغم ما حققته القطاعات النسائية من مكاسب وحقوق ثمينة، فما زال كثيرون من أبناء ومن بنات هذا المجتمع يحملون داخل خلاياهم ذلك "الجين الصحراوي" البدائي المسؤول عن انتشار تلك المفاهيم الخبيثة والتي تقضي بأن "ولادة البنت تعني ولادة مشروع للفضيحة" وبأنّ موتها، بناء على ذلك، هو الضمانة الأكيدة لستر القبيلة ولصون شرفها الهلامي المقدس.
لن أتناول هنا أسباب تفشّي ظواهر العنف في واقعنا المستفز مثلما فعل غيري، وبعضهم أجاد وحلل وعزا هذه الظاهره لعدة مسببات مثل غياب دور السلطة المركزية وتقاعس الشرطة الإسرائيلية واهمالها في مكافحة الجريمة ومعاقبة الجانين وفقر مجتمعاتنا وتحوّلها إلى مجتمعات استهلاكية تنافسية واتساع دوائر النشاطات النسوية وانفراج هوامش حرّياتهن الفردية في عالم انحسرت فيه سلطة الرقابة الذكورية المباشرة، وما الى ذلك من فيض أكاديمي، سبر أصحابه غور الظاهره بتعميم ملتبس أحيانًا وشرّحوها بأزاميل من معرفة بقيت تأثيراتها على الغالب، لأسفي ، سطحية وفوقية ولم تلامس بواطن آفة القتل باسم شرف العائلة، ولا مفاصلها الموبوءة، كما ثبت من عدد القتيلات ومن خلفيات قتلهن.
في التعميم نقمة، ولذا وكيلا أقع فيما أحذر منه أؤكد أنني سأكتب في مقالتي عن جرائم القتل التي يقترفها الذكور بحق النساء في عالم أتاح لهم، كذكور، حق التحليق على أجنحة الشهوات وفرض على النساء واجب العيش كمخلوقات من زجاج شفاف ومن عفة سماوية.
يجني العنف العام ضحاياه من دون أن يفرق بين ذكر وبين أنثى؛ فحين يلقي المجرم قنبلته على بيت أو على حانة أو على احتفال فستصاب النساء مثل الرجال، وستكون الدولة هي المسؤولة الأولى عن محاربة هذه الاعمال وسيبقى تقاعس الشرطة وعجز القضاء عوامل مساعدة على تفاقم أوضاعنا، تمامًا مثل اهمالهم لشكاوى النساء المعتدى عليهن داخل البيوت وعدم حمايتهن من أزواجهن أو أقاربهن، كما يفترض وكما هو متوقع منهم.
بخلاف تلك الحالات، فأنا على اعتقاد أننا كمجتمع عربي مسؤولون عن وجود ظاهرة القتل باسم "شرف العائلة" ويبقى دور الدولة محدودًا ، لا سيما بعد أن رفضت أجهزتها التنفيذية والقضائية احتساب هذه الذريعة "كقيمة أخلاقية" موروثة عن اجدادنا ، العرب الأوائل، والتي من شأنها ، بمقتضى عرف شرقي سائد، أن تعفي من يدّعيها من المسؤولية الجنائة.
حاول المئات من القتلة العرب، واليهود الشرقيين، تجنيد "شرف العائلة" في معرض تبريرهم لماذا قتلوا أمهاتهم أو خواتهم أو بناتهم؛ فهم كرجال قوّامون على نساء العائلة والحمولة والقبيلة، يعتبرون أن معاقبة " الخارجات " عن المألوف والموروث واجب مقدس لا يمكن للدولة أو لغيرها أن تحاسبهم عليه. ولقد رفضت الدولة قبول هذه الادعاءات وأدانت هؤلاء القتلة ككل القتلة الجنائيين رغم ما كان يواجه الشرطة، أحيانًا، من عقبات نتيجة لتستر العائلة على الجاني وعدم تعاونها في الكشف عليه .
كانت أصوات تلك المجموعة التي جاورتنا في المطعم حاضرة بيني وبين صديقي، فهذا الذي أقسم أنه سيقتل اخته " المتمردة " لن يكون أول الجناة، فلقد سبقه من " استفزوا" وقتلوا بناتهم أو أخواتهم لأنهن لبسن لباسًا " فاضحًا" أو أحبببن كما أحبت "بثينة وعزة وليلى" أو أصررن على ممارسة حقهنّ في السفر وهن عزباوات .
لقد تعلمنا عن قاتل اخته الذي حاول أن يقنع قضاة المحكمة العليا بأنه تصرف باسم الواجب ودفاعًا عن "شرف العائلة" وتذكّرنا كيف جاءت أمه لتشرح للقضاة لماذا لا يُعتبر ابنها ، في عرف المكان، مجرمًا . ومثلها فعل شيخ الحمولة الذي شهد امام القضاة وأصر على أن الشاب يعتبر في عرفهم " بطلًا"؛ فلو لم يتخلص من اخته، لأنها نوت السفر مع صديقاتها، لفقدت كل " القبيلة " شرفها ولعاشت بعارها الذي لا يمحوه إلا الدم.
رفضت المحكمة هذه الطعون كلها ، جملة وتفصيلا، وأكد قضاتها، كما فعلوا خلال كل العقود الفائتة، على أن الاختلافات الحضارية بين فئات المواطنين في الدولة "لن تكون ذريعة لاخضاع النساء وقمعهن باسم شرف العائلة ولن يُقبل ذلك أبدًا كمسوغ لعمليات قتل النساء التي تنفذ بسهولة غير انسانية وغير معقولة.." .
أختلف مع من يقول : تنوّعت الأسباب والقتل واحد وأسبابه متشابهة، وأرى أن محاربة القتل باسم "شرف العائلة" هي مهمة مختلفة تتم محاربتها من داخل مجتمعاتنا، ونخطيء حين ندمجها مع قضايا العنف والقتل الاخرى. ولقد أكّدت بعض الأكاديميات والناشطات والناشطين الاجتماعيين العرب على أن "سوسنا، في هذه المسألة، منا وفينا" واذا لم نعترف بهذه الحقيقة ومضينا في تملق الواقع ، فإن موسم حصاد الحرائر سيستمرّ ؛ فجذور الخناجر مغروسة في تربية الأجيال ومقابض السيوف عند أصحاب المواقع والمنابر فهم يذودون عن القتلة لكي يحافظوا على قيمة "شواربهم" ويظفرون بنعمة أن تكون ذكرًا في مجتمع ما زال بعض أفراده يؤكدون أن البنت عورة والشرف معلق على خاصرة وردة.