يحتفل شعبنا ومعه أحرار العالم بالذكرى الرابعة والخمسون لإنطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، التي فجرها جيل المؤسسين بقيادة الشهيد الرمز "ياسر عرفات" في 1 كانون ثاني 1965م، بينما يكتسب المشهد السياسي والاجتماعي الفلسطيني مزيداً من القتامة والغموض الخطر الذي يهدد باضمحلال المكتسبات الاستراتيجية التي حققتها فتح على مدار الخمسين عاماً الماضية، بسبب تراجع قوتها وضمور حضورها في الشارع الفلسطيني، بعد أن تحملت مسئولية ووزر أخطاء السلطة التنفيذية مع بدء تطبيق اتفاق أوسلو، بحكم أن السلطة الفلسطينية هي البنت الشرعية لحركة فتح، وهذا ما تجسد في نتائج انتخابات المجلس التشريعي التي نظمت بتاريخ 25 كانون الثاني 2006م، حيث خسرت فتح فيها أغلبيتها التاريخية لصالح حركة حماس ولم تحظى إلا بـ 43 مقعداً من أصل 132 بينما هيمنت حماس على 76 مقعداً.
بعد ذلك، سيطرت حركة حماس على قطاع غزة في عام 2007م، وخسرت فتح حاضنتها التاريخية وخزانها البشري منذ فجر انطلاقتها؛ وفي لحظاتٍ قليلةٍ تمّ طردُ أبنائِها خارج مكاتبهم ومقراتهم ليحل بها آخرون، إن هذهِ الخسارة هي الجُزء المكمّلُ لخسارةِ فتح في انتخاباتِ المجالسِ المحليّة في عام 2005م والمجلس التشريعيّ عام 2006م؛ بصرف النظر عن الأسباب الكثيرة التي أدت إلى استفحال ظاهرة الضعف الفتحاوي ومنها:
1- تحولها من حركة مناضلة إلى حزب حاكم، بكل ما يصاحب هذا التحول من تبعات خطيرة مست البرامج والسياسات.
2- نشوء حالة صعبة من التعارض بين منطق الثورة ومنطق حزب السلطة.
3- شيوع وضع غير صحي قوامه المنافسة بين الحرس القديم وجيل الشاب.
4- تخلي فتح عن خزانها البشري المقيم في الشتات، وخسارتها قهراً للخزان المماثل في قطاع غزة.
تسبب هذه العوامل وجميعها نشأت بعد التوقيع على اتفاق أوسلو، بالعديد من الخسائر التي تواصلت بعد سيطرة حركة حماس على السلطة في غزة، وفي مقدمتها تخليها عن متابعة ملف اللاجئين في الشتات بشكل لائق وفعال، تم ذلك بعد موافقتها على نقل المكتب الرئيسي للأونروا من بيروت إلى غزة، ما أوحى بأن اللاجئون هم المقيمون في غزة والضفة الغربية فقط، مع العلم أن 50% من شعبنا الفلسطيني يقيم في الشتات، وفي مخيمات اللجوء في دول الجوار العربي لفلسطين، ما فسح المجال لحركة حماس وغيرها بالسيطرة على غالبية مخيمات اللاجئين في لبنان، وهذه خسارة تضاهي خسارة حركة فتح لساحة قطاع غزة.
بعد استشهاد الرئيس المؤسس "ياسر عرفات" هبط مؤشر رصد الخيبات درجات إضافية نحو الأسفل مسجلاً خسائر جديدة لا تحتمل، بسبب الفراغ الكبير الذي تركه غيابه؛ واندلاع نيران الخصومة الداخلية التي خرجت للعلن خلال التحضير لانتخابات المجلس التشريعي 2006م، وتفرد واحتكار القيادة الجديدة للحركة بكل خيوط العمل واستشراء الفساد في أوساط الحركة والسلطة، وتعطل العملية السلمية وعجز السلطة عن مواجهة السياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، بالمقابل نجاح البرامج الاقتصادية والاجتماعية لحركة حماس وغيرها من قوى المعارضة التي بدأت تنهش قاعدة فتح وتتسبب بضمورها وضعفها، وتواصل تبعات تلك المشكلات المتفجرة تنذرنا جميعاً بضرورة العمل على حلها بطرق منتجة تسهم في إعادة الحركة إلى سابق عهدها.
وهذا منال لن يُطال، إلا بإطلاق عملية إصلاح داخلية واسعة النطاق، تشمل مراجعة السياسات والاستراتيجيات والتفاهم بين مختلف أقطاب وأطياف الحركة للتوافق على برنامج عمل قادر على المنافسة والتصدي للتحديات الكثيرة، بدءاً بإنهاء الخصومات الداخلية فوراً وإعادة القيادات والكوادر الذين تم فصلهم دون وجه حق إلى مواقهم ليأخذوا دورهم إلى جانب إخوتهم، ضمن عملية استنهاض شاملة للبرامج الأصلية للحركة، واستدراك الانهيار بمزيد من التعاضد الداخلي، الذي لا يوجد لفتح طريق غيره لتسلكه إذا كان قادتها الحاليون معنيون بنجاتها من أفخاخ الشطب والحذف التي تحيط بها من الجهات الأربعة.
هذا من جانب، من جانب آخر على قادة فتح المبادرة إلى إتمام المصالحة مع حركة حماس لمنع انزلاق قطاع غزة نحو مزيداً من المجهول في ضوء ما يحاك له من ترتيبات ستجعله الضحية الأولى لصفقة القرن الأمريكية، وسلخة نهائياً عن التراب الوطني الفلسطيني تمهيداً لإقامة دويلة غزة التي سيكون جزء منها في شبه جزيرة سيناء، ليكون الإصلاح والمصالحة عملية شاملة ومتسقة ولا تستثني احداً، لأن الخطر يتطلب تواجد الجميع في الخط الأول من خطوط المواجهة، على أن تبدأ هذه المصالحة من الداخل الفتحاوي كما ذكرت.
وتتوسع لتشمل الكل الوطني والإسلامي؛ لتعود فتح موحدة قوية كما كانت، وطي صفحة الماضي وإضافة تجربة الخصومة الداخلية لسجل العبر، التي تجاوزتها الحركة سابقاً بمزيد من الصلابة والنجاح، وستتجاوزها حالياً بنفس الطاقة من العزم، لتبقى منبعاً للحكمة ومصباحاً ينير ظلمة الدرب الذي ما زال طويلاً، على أن تنتهي هذه العملية بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية ضمن موعد زمني محدد وقريب.
فحركتنا في هذا الوقت من عمر الأمة مدعوة أكثر من أي وقت مضى للملمة صفوفها وتحديث خطابها السياسي والإعلامي كجزء من خطة التصدي لتنكر إسرائيل للاتفاقيات الموقعة مع منظمة التحرير، وإحساسها بالتفوق والنصر السياسي والعسكري، بسبب تمكنها من اختراق العمق العربي المصاحب لانهيار العراق وسوريا وليبيا واليمن.
يعني ذلك أن عبء المواجهة عاد من جديد ليقع على عاتق منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة حركة فتح، لهذا فهي مطالبة بحشد ولملمة الكل الفلسطيني حتى تتمكن من اجتياز المرحلة بنجاح، لتعود قوة إقليمة ودولية ضاغطة يحسب لها ألف حساب
وبهذه المناسبة العظيمة لا يسعني إلا إعادة وتكرار الترحم على شهداء شعبنا كافة، وفي مقدمتهم الشهيد الرمز "ياسر عرفات" الذي ترك لكل منا قبساً منيراً من طيف ذكراه العطرة، تملء عالمنا وتمدنا بما يلزمنا من طاقة لنواصل صمودنا وثباتنا، الذي سيكون له أثراً حاسماً في لملمة صفوفنا وبلسمة جراحنا، متمنياً السلامة والنجاة للجرحى والحرية للأسرى والأسيرات، والعودة للمبعدين واللاجئين.
جهاد طمليه
عضو المجلس التشريعي