قليل هم المخرجون المدهشون الذين لا يتخلون عن ذواتهم لحظة والانحياز لها فى كل فيلم يقدمونه، حتى ولو بمشهد كاشف لعشق السينما بجنونها وخطاياها وحياتها المليئة بالمغامرة.
ومن هؤلاء المخرجين بيدرو المودوفار، الذى يعشقه جمهور مهرجان كان وانا واحد منهم، أشاهده بشغف وهو يحرك أفكارنا تجاه الماضى، هل ما اتخذناه حقا فى الحياة طريق الصواب أم الخطأ، أو فى منطقة وسطى بينهما، فى فيلمه الجديد الذى ينافس على السعفة الذهبية «المجد والألم» يقدم المؤلف والمخرج الإسبانى المودوفار ملخصا ناعما لطفولته ولحياته فى إسبانيا وأسلوبه كسيرة ذاتية للماضى الشخصى والسينمائى دون الإخلال بمضمون فيلمه الدرامى، وكأنه يحيى نفسه والسينما برسالة حب وإعجاب رائعة.
المخرج الذى يقترب من السبعين يروى قصة حبه لأمه التى تجسدها فى الفيلم بينلوبى كروز، من خلال علاقتها بابنها «سلفادور مالو» الذى هو المخرج نفسه، وحرصها على تعليمه، والذى يجسده فى مرحلة لاحقة انطونيو بانديراس.
حيث يجتمع الألم والمجد فى العديد من فترات مختلفة من مهنة مميزة فى الغالب، الذى عمل لأول مرة مع المودوفار منذ عام 1982 فى متاهة العاطفة عام 1982، يبلغ هنا من العمر 60 عاما، وهو كاتب مسرحى يكافح إبداعا رغم اعتلال صحته لنرى سرد حكايته التى تشير إلى كيفية تدفق الماضى والحاضر والحقيقة والخيال إلى بعضنا البعض، نرى سلفادور فى مشهد رائع يجلس تحت الماء فى حوض السباحة معزولا عن العالم، صورة مبكرة مناسبة لكيف يعيش داخل أحلامه المحتومة، وبالطبع كان لتدخينه الهيروين تأثير كبير على مجرى حياته المفعمة بالألم والأمل، وفى إحدى الليالى عند اكتشاف نص كتبه سلفادور عن ماضيه، يصر صديقه ألبرتو على تأديته كمونولوج فى مسرح صغير فى مدريد. وهكذا فإن الرجلين قادران على إحياء نبضاتهما الإبداعية الفاشلة فيما بينهما. ويظهر الأرجنتينى فيديريكو (ليوناردو سباريليا)، الذى كان على علاقة مع سلفادور قبل سنوات عديدة للمساعدة فى تقديم حكاية الألم والمجد المشهد الأكثر روعة، وفيه تنجرف أفكار سلفادور بانتظام نحو الماضى، ويبدو أن جميع ذكريات سلفادور تأتى من خلال أفلام المودوفار.
فى الفيلم الذى اتسم بأسلوب لامع بالتحولات بين الماضى والحاضر، تتفق رؤية المودوفار للعالم تماما مع وجهة نظره العملية وتبقى مساحة صغيرة للكشف الطازج أو الجرىء وهى الصفات التى تحدد عمليا الأفلام التى صنعت سمعته، على سبيل المثال عندما تتحول أصابع عازف البيانو فى المطعم إلى أصابع كاهن يعزف على البيانو بأصابع مهددة، ومشاهد تسلسل رقمى طويل حول المعاناة البدنية لسلفادور من الربو وطنين الأذن والصداع والعديد من الصور الأخرى كالمسح بالسينية، كما لو كان هذا فيلما عن تشريح آلام الإنسان وأساطير أجسادنا، على الرغم من جمال تصويرها. فى الواقع إن مشاهدة الفيلم الذى يدور حول الألم أكثر من المجد يبدو كحياتنا.
فى مشهد آخر هزلى، نرى سلفادور وصديقه البرتو لم يذهبا إلى حفل تكريم، ويقوم مقدم الحفل بالاتصال بسلفادور ليتحدث بالتليفون للجمهور الذى ينتظره، ويتطرق الحديث عبر الهاتف إلى مناقشة بين البرتو وسلفادور حول قضاياهما الشخصية ليسمعها الجميع، هذه طريقة ذكية للمودوفار لمعالجة موضوع حياته الخاصة التى يتم بشكل مستمرتداولها من قبل وسائل الإعلام.
يتطلب «الألم والمجد» بصريا العديد من المشاهدات، لأن اهتمامه بالتفاصيل رائع للغاية، والتى هى عبارة عن فوضى جميلة، مشاهد الطفولة، التى تتميز بالسماء الزرقاء، والأوراق البيضاء النقية التى ترفرف على خطوط الغسيل، هى الأشياء الجميلة التى تنطلق من الخيال الحنينى، بحيث لا يشعر المشاهدون كثيرا من فقر ما بعد الحرب الأهلية الإسبانية حيث تتألف الأشكال الهندسية المرئية لكل مشهد بعناية فائقة.
الاداء مع بينلوبى كروز كان متوهجا فى تلقائيته رغم مشاهدها القليلة، وكاريزما انطونيو بانديراس وصدقه المثير للإعجاب، وحضور اكسير إيتكسينديا، سيسيليا روث، وجود أنثوى وثانوى مثير للغاية لجولييتا سيرانو، ونورا نافاس، ويبدو أن الجميع استمتع بالعمل مع المودوفار فى طرح مشاعرهم، فطاقة ألبرتو وحماسه من أجل الحياة وحزن فيدريكو الملموس على حد سواء يقفان فى تناقض صارخ مع ذاتية وفن سلفادور الذى يواجهه بانديراس، فى أداء رزين، وقد شاهدناه كممثل داخل العمل يرتدى ملابس المودوفار الخاصة، ويتم تصفيف شعره ليبدو قريبا من المخرج المتألق بخياله الذاتى كما أن هؤلاء جميعا كانوا أبطالا فى أعمال مودوفار السابقة، أكسيير إكسيانديا (العروس)، بينيلوبى كروز (الجميع يعلمون)، ليوناردو سباريليا (الكشف)، نورا نافاس (أثناء العاصفة)، سيسيليا روث (الملاك)، جوليان لوبيز (خسارة الشرق)، رائول أريفالو (مائة عام من المغفرة)، إيفا مارتين (البحر البلاستيكى)، سوسى سانشيز (مرض الأحد)، جوليتا سيرانو (التحذير)، بينما بانديراس أحد أهم الممثلين فى فيلموغرافيا المودوفار(متاهة من العواطف، ماتادور، قانون الرغبة، نساء على وشك الانهيار العصبى، تعادلنى!، الجلد الذى أعيشه).
خالد محمود
بوابة الشروق