الثلاثاء 7/10/1445 هـ الموافق 16/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الإنسان في لوحات التشكيلية المغربية عزيزة القادري. مقاربة سيكو-سيميائية....د. حميد لشهب

قدمت قراءات متعددة للوحات تشكيليات وتشكيليين مغاربة كُثُر، وأعترف منذ البداية بأن لوحات الأستاذة عزيزة القادري كانت بمثابة تحدي كبير لي، نظرا لكثافة رموزها واستعصائها على التفكيك وإعادة الجمع، لكي تبوح بكنهها الحقيقي وعمق معناها.

تحتوي كل لوحة على حدة، على الأقل تلك التي شغلتني ذات يوم وأنا مشدود لها وهي معلقة أمامي أثناء فطور يوم من أيام رمضان، تستفزني وتُناظرني وتدعوني في نفس الوقت للقبض على أهداب مكنوناتها السيميائية.

بكلمة مقتصرة، إنها لوحات تتحمل أكثر من مستوى تحليل، وكل تحاليلها وقراءاتها تقود شبه حتميا إلى فضاء سيكولوجي رحب، يُعد الإنسان محوره الأساس ومركزه بامتياز. الإنسان في عمقه الوجودي العام، بكل تمثلاته عن نفسه وعن الآخرين وعن الكوكب الأرضي وعوالم لربما تكون حقيقية ولربما تكون خيالية. ويتكرر هذا في الكثير من لوحاتها، وتمثل اللوحتين اللتان استقر اختيارنا لقراءتهما هنا عينة منها.

 

وقال العلماء والمفسرون أن الدائرة ترمز إلى الدنيا أو قد تشير إلى المرأة ،وقد تشير الدائرة إلى الأيام أو السنوات أو الشهور بمعنى أشارة إلى حركة ودوران الأيام ،وفى بعض الأحيان تشير الدائرة سنة ستكون مليئة بتحقق العديد من الأمنيات والأحلام ،كما أن الدائرة تشير إلى الأمان والحماية والحصانة ورؤية الدائرة فى منام الرجل قد ترمز إلى الزوجة أو البيت أو المعيشة ،والله أعلم.

 

منذ غابر الأزمان، أي منذ البدايات الأولى للإنسان في التعبير الرمزي عما يشغله نفسيا ولا يستطيع التعبير عنه بمفردات، كانت الأشكال الهندسية تساعده على التعبير الغير اللفظي. ومن هذا الباب الواسع دخلت هذه الأشكال عالم التشكيل وسمحت فيما بعد بإمكانية قراءة الرموز التشكيلية وتفسيرها ولمس بُعدها الجمالي والتقنيات التي تسمح بتشكيل هذا المعنى الجمالي المجرد، وهنا نعتبر ضمنيا التشكيل عملية بناء مؤسس على هندسة قَبلية، مصرح بها أو ضمنية، وعلى خيال وموهبة تُشكل البعد الفني لأية لوحة كانت.

 

تبقى الدائرة من الأشكال الهندسية التي فرضت وجودها بدون منازع في الحقل التشكيلي. فهي الشكل الهندسي الوحيد الذى يرمز إلى الكمال. ليس لها أضلاع كباقي الأشكال الهندسية الأخرى

 

عندما نتأمل في هدوء لوحتي التشكيلية القادري، نجد بأن دوائرها مليئتين بنبض الوجود الإنساني، تمتزج فيها الطبيعة/الأرض (لون التراب القريب من البرتقالي) بجماليات الكون الحسية والمرئية والانفعالية والفكرية. وهنا بالضبط يستقر الإستفزاز الإدراكي الواعي الذي تُمارسه اللوحتين على المشاهد لها. كما أنها تُخضع المتأمل لرؤى القضاء والقدر ومصير حياة الإنسان بصفة عامة. فهي تارة ولادة، وأخرى نهاية، ولا يمكن الإقرار النهائي في نفس اللوحة، أيتعلق الأمر بالبداية (الولادة) أم بالنهاية (مصير الإنسان المحتوم). هناك تداخل وتفاعل وتكامل بين اللوحتين في هذا الإطار، إلى حد الدوخة الواعية، التي تصيب متصوفا انخرط على حين غفلة في رقصة وجودية دائرية، كتلك التي يؤديها الدراويش.

 

تتحرك اللوحة الأولى كالعين بسرعة ضوئية فائقة بحركات دائرية لا نهائية في نهائيتها، تماما كما تتحرك العين الباطنية للإنسان في نهائيتها بحثا عن اللانهائي، الذي شغل ويشغل وسيشغل الإنسان، إن على مستوى الجبر أو الهندسة أو مصيره كإنسان من لحم وعظم.

 

تُغمس هذه اللوحة في دورانها المتفرج عليها في فضاء خاص، يمنح للدائرة ارتباط خاص بالقدر والمصير التقليدي للتشاؤم والتفاؤل، الشر والخير، للفناء والخلق، للموت والولادة، للفوضى والتناغم، الانسجام للجمود، الحركة المستمرة دون انقطاع. فلسفيا قد تعني هذه الدائرة دوامة الغموض والفراغ والبحث واللاجدوى والتفكير العبثي والخواء المنهك، إنها تعبير مُرهِق للفكر.

 

توظف الفنانة هنا مرونة التشكيل الفكري والبصري والخيالي والطبيعي في الفكر والمعتقد وفي الواقع والحياة للدائرة كعنصر هندسي غني بمفاهيمه في كل توجه وتفعيل معنوي وإدراكي، وهو ما جعل الدائرة فضاء قابلا للتشكيل وإعادة التشكيل، دائرة متكاملة الجماليات والقراءات والانطباعات بين كل ما يندمج في فلكها وعمقها وفراغها. ولا غرابة في ذلك، لأن الدائرة حملت في كل ثقافات العالم منطقا مفاهميا متناقضا ومتداخلا وكثيفا في الهندسات التركيبية للفضاء التشكيلي وقراءاته

 

ترمز هذه الدائرة الحلزونية، التي تُشبه إلى حد كبير العين، إلى التغير والتغيير والنمو والحركة ببطئها المنقلب والتفاعل الحسي مع الطبيعة، كما في أعمال الأمريكي ويل كلوغلي. ويروِّض هذا الشكل اللامتناهي كمتاهة بصرية الحالات النفسية الجوانية،  ويفجّر إشعاعات ضوئية لونية تتدافع بين الإضاءة والعتمة لتقترب أكثر من السكون. ولا يدري المرء، ما إذا كان الإنسان الموجود في هذه الدائرة الحلزونية خارج أم داخل، آت أم ذاهب، الفرضية السيميائية اليت قد نقدمها هنا هو أن هذا الإنسان يوجد في "مومو عين" الفنانة، وهذا التعبير الجميل في اللهجة المغربية يعني تثمين شخص ما واعتباره مهم أهمية العين عند شخص ما. وضعت الفنانة الإنسان كنقطة وسط هذه الدائرة الحلزونية، معبرة بذلك عن كونه المحرك الأول للروح، وسمى الفيثاغوريون هذه النقطة باللوغوس.

 

نلمس هنا تعبيرا سورياليا للفنانة، يقترب إلى صوفية ابن عربي، لما تدل عليه (النقطة العليا = الإنسان) وهي من المصطلحات التي اهتمت بها السوريالية، حيث يقول عنها بريتون فيما معناه بأنها ما يدفع الى الاعتقاد بوجود نقطة روحية ينعدم فيها التناقض بين الحياة والموت، الواقعي والخيالي، الماضي والمستقبل. ولا يُفيد في شيء البحث عن محرك آخر للفاعلية السوريالية غير الأمل في تحديد هذه النقطة، حيث يلتقي العالم الداخلي الذاتي والشخصي والعالم الخارجي الملموس. تتجمع فيها طاقات طالما حلم نيتشه باسترجاعها وعاش فيها التصوف العربي في نظرية الحلول وفي نظرية وحدة الوجود. وفيها يتم التحرر من عالم الظواهر والعقلانية والموضوعية وعمليات الحساب والتكميم والتقييم، وفيها تتم المعرفة. فيها يتجاوز الإنسان غربته/استلابه كما حدد ذلك إيريك فروم ويفوز بذاته الحقيقية الأصلية والأصيلة. وما يعزز هذا التأويل هو طريقة وقوف الإنسان في بداية أو في نهاية هذه الدائرة الحلزونية للفنانة.

 

تذكر اللوحة الثانية للفنانة القادري بالقصة الميثولوجية اليونانية "أطلس"، الذي يحمل قبة السماء على كتفيه. كان أطلس من بين العمالقة الذين اكتسحوا الجبل الأولمبي الذي كان يحظى بمكانة عظيمة في الميثولوجيا الإغريقية، وأمره الإله زيوس بحمل قبة السماء، وليس الأرض كما هو شائع، بل خُصصت نحوتا من معادن مختلفة لتغذية هذا التصور، ما تزال قائمة إلى اليوم. وهنا يطرح سؤال مزدوج: ما علاقة هذه اللوحة بأطلس من جهة وباللوحة الأولى للفنانة التي حاولنا سبر أغوارها فيما سبق من جهة ثانية؟

 

تواترت لوحة أطلس الحامل للكرة الأرضية على ظهره عند العديد من التشكيليين منذ القدم. ولعل لوحة التشكيلي الفلسطيني سليمان منصور "جمل المحامل" من أبرزها على صعيد العالم العربي. وإذا كان "أطلس" يمشي ولا يظهر عليه أي أثر للتعب في حمله للأرض، فإن حامل الكرة الأرضية للفنانة القادري يظهر وكأنه يكابد لرفع الأرض ليضعها على كتفيه. وتمثل هذه المكابدة الوضع الإنساني الحقيقي في الحياة على هذه الأرض. ومن الجزئيات المهمة التي يجب الإنتباه لها في هذه اللوحة هو غياب ملامح الوجه مثل العينين والأذنين والفم والأنف، بل لا يمكن للإنسان أن يجزم بأن الحامل رجل أم أنثى. فثقل الرمز يوحي باشتراك الجنسين معا في هموم وجودية أثقل من الأرض.

 

يُعتقد بأن تسمية جبال الأطلس أتت من اليونانية، بل يُقال أن أطلس تحول إلى السلسلة الجبلية المغربية المعروفة بهذا الإسم؛ على الرغم من أن الأمازيغ يتوفرون كذلك على شرح آخر لتسمية هذه الجبال هكذا، وهي بالأمازيغية أَنْنتِيل + أس"، والتي تعني مقبرة الشمس. إذا افترضنا هذا نجد ارتباط هذه اللوحة بأطلس البربر، لأن حركات الذي يحاول أو التي تحاول رفع الكرة الأرضية توحي بحفرة، قبر، واللون البرتقالي للأرض يوحي في العمق إلى غروب الشمس، وبهذا يكون أقرب للشمس منه للأرض، ويلتقي الأطلس البربري بالأطلس الإغريقي، ما دام أو هذا الأخير يحمل قبة السماء وليس الأرض.

 

هناك علاقة وطيدة جدا بين اللوحة الأولى واللوحة الثانية للفنانة عزيزة القادري، على الرغم من أننا لا نفترض بأنهما شُكِّلتا في فترة كرونلوجية متتابعة. كل ما نفترضه هو أنهما يتبادلان التأثير فيما بينهما، بل يدوران في دائرة واحدة. فإما أن إنسان اللوحة الأولى حمل الأرض بعد خروجه (ولادته، خلقه)، أو أنه تعب من حملها وهرب في نفق حلزوني مُبتغيا الخلاص. وهنا بالضبط نلمس من جديد البعد الفني الراقي للتشكيلية القادري في نظرتها للواقع الإنساني. هناك قبول طبيعي للحمل الثقيل للحياة، وهو ثقل يخففه أمل الخلاص. فالإنسان بمشاكله الوجودية المتعددة يعيش في نوع من التماهي على أرض رحيمة، على الرغم من قساوتها. بمعنى أن الفنانة هنا، تقدم بديلا إيجابيا عن معيش أرضي قد يُنهك الإنسان، ويُنهكه، لأن الحياة ليست فقط مسرات وبهجة، بل أيضا حزن ونكد.

 

لربما لم نوف اللوحتين ما تستحقهما من قراءة وتحليل، لربما كان من الممكن الإعتناء أيضا بالألوان التي اختارتها الفنانة، لأنها التعبير الحي عن البعد السيكولوجي للوحتين، بل إثبات بأن لعب الفنانة على أوتار السلب والإيجاب في حياة الإنسان وارد بما فيه الكفاية عندها. من طبيعة الإنسان البحث في الحياة عن الجانب الإيجابي فقط، بل يصيبه الضجر عندما تلطمه في بعض المرات بشيء سلبي، وأقصى ما يتمناه هو الوصول إلى حالة توازن بين الكفتين؛ وهو توازن مضن جدا، لأنه عبارة عن تأرجح بين الكفتين. من هنا فإن حركة الأرجوحة للحياة، أي في أقصى تقدير نصف الدوائر، هي المصير الحقيقي للإنسان، وليس اكتمال الدائرة. ولربما عبر الشكل الدائري الحلزوني للفنانة في اللوحة الأولى على هذه الفكرة أكثر، مما يُمكنا شرحه باستفاضة هنا.

 

الفنانة المغربية عزيزة القادري هي فنانة متعددة المواهب، بالإضافة إلى قرضها للشعر، فإنها عالمة اجتماع، تقلبت في وظائف مختلفة، وعلى الرغم من ذلك لم تترك فرشاتها وألوانها وأقمشة لوحاتها جانبا، بل صقلت موهبتها التشكيلية تدريجيا وشاركت في معارض تشكيلية متعددة وحصلت عام 2013 على جائزة الفن التشكيلي التي تُمنح من طرف الأكاديمية الأوروبية للفنون بباريس.

2019-07-14