ليس من السهل أن يغير الإنسان أصوله وجذوره أو أن يتخلى عن انتماءه، ولكن الظروف الموضوعية تجعله مضطرا لذلك التغيير، وربما وجود قوى تعمل لمصالح ذات أهداف بعيدة المدى للتغريب، لأنه لا يعقل أبدا أن تقوم حكومة بجلب مئات الآلاف من المواطنين إلى بلادهم في وقت كانوا يحاربونهم ويتآمرون عليهم قبل فترة وجيزة، دون أن تكون هناك مصلحة آنية أو مستقبلية من الأمر.
هذه الحالات تجعل المواطن في حالة بؤس، يصبح في حالة لا يرى ضوءً في نفق الحياة المظلم في وطنه، فتصلح في ذهنه نمط الحياة الغربية، ويفضل ما كان يحرص عليه بكل شرف مقابل الحالة الجديدة، بل يفضلها على ثوابته وأعرافه، هنا يكون الرجل بلا اختيار ولا موقف، يكون مستسلما بكل كيانه لأعراف الغرب، لا يأسف على ما سيفقده، بسبب موقفه الغير مدروس، وسبب حبه للحياة المرفهة هناك كما يتصورها حتى لو فقد بسببها الثوابت الاجتماعية والوطنية والأخلاقية التي يكون مستعدا للتنازل عنها. اغلب المواطنين المهاجرين اليوم بلا هدف ولا تخطيط، بل هي استجابة لنمط من العقل الجمعي ومسايرة بريق النمط الغربي، وحب المجازفة، ولكن مع الأسف مجازفة بالمستقبل الجديد المبهم، والمجازفة بمستقبل لا يرى لنفسه في ضل دولة غريبة عنه بكل القياسات، ربما سيكون مكتفيا بتقليد الغرب بطريقة عيشهم ولبس الثياب والأكل والشرب والتعامل، ليس أكثر من هذا، مقابل الكثير الذي سيفقده ولا يمكن أصلاح مستقبله خلال الهجرة كما أراها، أذن ما العمل؟ فلا توجد فرص عمل ولا مستقبل في أوطانهم ولا وجود بارقة أمل في المرحلة الآنية؟ فعندما يشعر المواطن انه يعيش بواقع حزين ومؤلم فسرعان ما ينتابهُ شعور وطموح أن يغير هذا الواقع، ويبحث عن ما هو أفضل، وأحيانا ينجح ويتحقق الحلم وأحيانا يفشل ويتمنى أن يرجع إلى حيث ممن بدء. والمواطن عبر زمن طويل قد عانى حقبة مظلمة واحتلالات بربرية وحكومات مقيتة، فكانت أبشع وأفظع من البشاعة نفسها، لذلك عندما يفكر المواطن من التخلص من واقعه ويشد الرحال إلى أي وطن أخر، فعليه أن يفكر أولا في حالة فشله بالوصول للهدف أن يكون مصيره الموت، فبعد الحروب والمشاكل والاضطرابات والاقتتال الداخلي في الأوطان، وكلما سارت الأحداث فيها من سيئ إلى أسوء زاد التفكير عند البعض بالهجرة عن وطنه، والشخص الذي يهاجر ويصل إلى أي بلد في الغرب يفكر بعد ذلك بان ينقذ عائلتهُ وأقاربهُ وأصدقائهُ وتبدأ الرحلة الشاقة ويتحول المهاجر إلى بضاعة يشتر ويباع بين المهربين من جهة ومن قسوة الأقدار من جهة أخرى. فالمواطنين الذين كانوا متجهين من اليونان عبر البحار، وقبيل أن يصلوا إلى مبتغاهم، غرقوا وغرقت معهم أحلامهم، فهم رفضوا العيش في حياة مليئة بالحروب والإضرابات فكسروا حاجز الخوف وتحدوا الصعاب وأبحروا ضد التيار ولم يكن بحساباتهم أن هذه الأجساد ستكون وجبات لسمك القرش وهذه الحادثة تناولتها وسائل الأعلام، أما التي لم تعرض على وسائل الأعلام كثيرة، معنى حجم المأساة التي أحلت بهؤلاء، هي اكبر من حجم الإعلام نفسه فلا يمكن للشاعر هذا أن كل مواطن فكر بالهجرة للغرب يحمل معه قصة والحقيقة أن يعطي وصف حقيقي لقصيدته ما لم يكن هو جزء من الحدث.
قبل أيام تحدثت مع صديق فلسطيني يقيم في بلجيكا ومن الأحداث التي رواها لي والتي بقت في ذاكرته أثناء رحلة الهجرة نحو المستقبل المجهول هي تلك السيدة السورية التي تعرف عليها أثناء أبحارة من اليونان لإيطاليا ومن ثم لبلجيكا، فيقول هذا الصديق لقد كانت تلك المرأة على أبواب ولادة فتحدت هذه السيدة الصعاب وأصرت إلى أن تكمل مشوارها ومتابعة الطريق رغم أنوف المهربين وفي رحلة شاقة ومحفوفة بالمخاطر والصعاب، وفي زاوية ما بالمركب الذي كان يقلنا حدث ما لم تتمناه أن يحدث، فهذه السيدة التي تحمل بين أحشائها الابن البكر وبالتأكيد لطالما حلمت طوال تسع شهور وهي تنتظر بشوق لحظات الولادة ولم يخطر ببالها أن القدر قد كتب من على هذا المركب، فتمت الولادة على ضوء قداحة تشتعل أحيانا وتطفئ أحيانا وربط الحبل السري للجنين بقيطان احد الأحذية وبعد أن وصلنا تقريبا إلى السواحل الإيطالية، كان المهربين وعددهم خمسة، لم يصدقوا ما رأت أعينهم لان عدد الركاب قد زادوا واحد عندما وصلوا إلى ايطاليا، وبعد أن أجروا تعداد لعدد المهاجرين على مركبهم، عندما انطلقوا من السواحل اليونانية، لأنها استطاعت أثناء الصعود لسطح المركب، أن تخفي مظاهر الحمل وبعد أن عرف المهربين أن سطح مركبهم المعد للتهريب فقط قد أصبح هذه المرة صالة عمليات ولادة. ويضيف صديقي المهم بالأمر فيما بعد هو أن أي مهاجر بعد أن يصل إلى أي بلد أوربي ويتحقق له الحلم الذي لطالما انتظرهُ فهو يبدأ بمراحل يمر بها بشكل ترتيبي وتكلم لي عن تجربته المتواضعة التي مر بها، في بلجيكا وهي في البداية يسجل اسمه عند دائرة الهجرة البلجيكية، ومن ثم ينتظر المقابلة الأولى ومن ثم الثانية وبعدها يصدر قرار الإقامة الذي يرتبط بقرارات سياسية أحيانا ولهُ علاقة أحيانا بقانون الاتحاد الأوربي المهم عبر هذه السنوات ممكن يحصل على قرار الإقامة خلال شهر أو تطول المدة تصل أحيانا لخمس سنوات وبعدها يصدر قرار الإقامة ومن هذا التاريخ يكون مقيماً في مملكة بلجيكا، وتبدأ رحلة الأحلام الوردية فيبدأ في المدرسة لتعليم اللغة البلجيكية وبعدها يستلم شقته والتفكير في تأثيثها واستلام قرض يساعدهُ مادياً ويشترك بسلفه لتحقيق ما تبقى من أحلامه وأجراء معاملة لم شمل إذا كان متزوجاً ويسافر السفرة الأولى لسوريا، ومعهُ وثيقة سفر حقيقية ليست نفس الوثيقة التي دخل بها. خلاصة القول أن الحياة الصعبة التي يحيياها المواطن في وطنه، لا يفتأ حلم الهجرة يداعب عقول بعض المواطنين يدفعهم إلى ذلك صعوبات كثيرة تواجههم في وطنهم الأم، من بينها التكافؤ في الحصول على فرص العمل والدخل المحدود وتدني الخدمات الاجتماعية ونقص الحريات والفقر والبطالة علاوة على الاقتتال والنزاعات والحروب الأهلية والمشاكل العائلية وعمليات الثأر والأمية، وعادة ما ترتبط أحلام المهجر في رؤوس المواطن بالثراء السريع والكفاءة العلمية والوجاهة الاجتماعية، إضافة إلى متعة الانتماء إلى الحضارة المنتصرة، وهو الأمر الذي يوقعهم كثيرا ضحية لإعلانات الهجرة المضللة التي تنشر في الجرائد، وتستغل الطموح الزائد وقلة الخبرة لدى المواطن لتحقيق مكاسب غير مشروعة.
إعلامي و باحث سياسي