الجمعة 10/10/1445 هـ الموافق 19/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
يحدث في مصر الان... لا تغيير ثوري دون مواجهة الهيمنة الخارجية والاستبداد السياسي الداخلي والفساد ودون قيم العقلانية وثقافة تقدمية وتحررية...بقلم عدنان رمضان

الانسان العربي كما الكثير من النخب يتابع ما يجري في الدول العربية وتتنازعه مشاعر متناقضة ويعيش ارباكا في تحديد موقف واضح من الاحداث المصيرية التي تدور حوله وهو لا يملك ان يكون محايدا او صامتا فما يحدث يمس حياته وحاضره ومستقبله في الصميم، هو بين التوق الى الحرية والحياة الكريمة وبين التجارب المريرة التي عاشتها وتعيشها المجتمعات والدول العربية في اليمن وليبيا وسوريا ومصر وايضا تونس فهو يرى مرارة الحروب والاقتتال و"الثورات العبثية " والتي لم تفتح امامه اية افاق، بل قضت على الكثير من الاحلام الجميلة، فيضطر هذا الانسان ان يعيش حالة من القهر والاحباط الشديد وفقدان الامل وجلد الذات خصوصا مع شعوره بانغلاق الابواب والطرق لحياة حرة وكريمة ومكانة محترمة بين الامم، خصوصا ان هذا الانسان العربي دفع اثمانا باهظة عندما دعم الاخوان المسلمين او الاسلام السياسي باطيافه المختلفة ولا يزال دون ان يجد الحل الذي وعدوه، او عندما قرر ان يدعم العسكر او يضطر لاتخاذ موقفا مؤيد للديكتاتور فقد كانت النتائج متشابه ولا تمثل الحد الادني من مصالحه او من التغير الذي ينشده، الان يعيش مزيد من الحيرة في مواقفه تجاه ما يحدث في الجزائر او ما حدث في السودان او في عودة المصريين لساحات وميدان التحرير

ان هذا الارباك يتحمل مسؤوليته بدرجة كبيرة النخب التي اطلقت على نفسها النخب الثورية وخاصة تلك التي بنت برامجها على اساس الدعوات لتغييرات جذرية واتهمت الانظمة الحاكمة بانها المسؤولة عن غياب التنمية والعدالة وما يدعى الديمقراطية وبانها سبب المشكلات والازمات والاستعصاءات التي تعيشها هذه المجتمعات، ومن جهة اخرى اولئك الذين اوهموا الناس ان سبب المشكلات والتاخر والضعف هو ان الناس في جهالة دينية وان الاسلام هو الحل وعندما اعطوهم الناس التفويض او ملكوا قدرا من القوة تبين ان هدفهم السلطة وانه لا يوجد في جعبتهم سوى العنف والتكفير وادخلوا الناس في متاهة وكانت تجارب الشعوب مع مختلف المدارس والاطياف اشد وطأة من مرارة من السكوت.

اين تكمن المشكلة

فاين المشكلة وكيف نستطيع ان نحدد المسار والطريق وكيف نتجاوز هذه المطبات والمسارات التي تودي بنا الى مزيد من التهلكة؟ خصوصا ان هناك من يحاول ان يصور للناس ان ما يحدث هو موجات ثورية متلاحقة سوف تؤدي بعد العديد من المخاضات والولادات العسيرة الى الدخول في عصر الحرية القوة والعزة والحرية وهم في الغالب يستندون الى نماذج ماضوية سواء كانوا اسلاميين او اشتراكيين او ليبراليين وقد يكون ذلك مبني على تفكير رغبوي اكثر من استناده الى دراسة معمقة او على ديماغوجية سياسية لا تابه بشي غير الوصول للسلطة

دعونا في هذه العجالة ان نحاول النظر في كيف من الممكن الخروج من حالة الاستعصاء التي تعيشها منذ ما يقارب القرن حيث تداولت على حكم البلاد العربية او على الاقل تمكنت من السلطة ووجدت جمهورا عريضا يدعمها لفترات زمنية معقولة ليتم الحكم على التجربة. جميع هذه النماذج التي قدمت نفسها ولا زالت تقدم نفسها كبديل لكننا لم نر اية تغييرات على الافراد او المجموعات كنماذج يحتذى بها او كممارسات قادرة على احداث التغيير، ففعشنا عبر هذا القرن وفي معظم المجتمعات العربية تلك الدائرة التقليدية بين الدين السايسي ثم التقدمي القومي ثم الليبرالي وتعود الدائرة من جديد دون اي تقدم حقيقي على الارض وفي قضايا الناس الجوهرية

هناك ثلاث عوامل يجب اعادة النظر فيها او على الاقل التفات اليها من قبل اولئك الذين يدعون الناس للانخراط الفاعل في قوى تبحث عن احداث تغييرات جدية وتنير الدروب لاولئك المتعبون او على الاقل تضع لهم منهجا في التعامل مع كل هذه الاحداث بما تجلبه من شحنات عاطفية وتوترات وارباكات وشعور عام بالضياع

ان التغيرات والثورات التي ادت الى نهضة وحريات وتغييرات جذرية في اي موقع في العالم وعبر مراحل التاريخ المختلفة لم تتم بمعزل عن التغيرات الكبرى والهائلة او الثورات في المجالات الفكرية والعلمية والاقتصادية بل كانت الثورات الاجتماعية والسياسية هي من نتائج وتجليات التغيرات العميقة في المستويات المختلفة سابقة الذكر في اطار من تفاعل وتاثر وتاثير متبادل وعبر السير قدما في مسار تطوري حينا وثوري حينا اخر لكن في مسار تقدمي على العموم

الامر الثني الذي يجب ان ناخذه في عين الاعتبار هو السياق التاريخي الحالي الذي تتم فيه هذه التغيرات في الدول العربية فالمنطقة ليست بمعزل عن المعدلات الدولية وموازين القوى العالمية والاقليمية واجنداتها وتاثيراتها المباشرة والعميقة على اية تغيرات تحدث في الدول العربية فالعوامل الداخلية في كثير من هذه التغيرات التي تسمى زيفا ثورات ضعيفة اما م العوامل والمؤثرات الخارجية او انها ليست العامل الحاسم في التغيير او لم تتمكن من ان تكون كذلك

ومن جانب ثالث اخر فان التغيرات الكبرى في العالم لم تتم بمعزل عند قدرة القوى الرائدة على ان تقدم نموذج الانسان الذي سيقود ويصنع عملية التغيير انظروا الى بلدان اسيا التي تخطت حالة الضعف مثلا هل الافراد وما يمارسونه على الارض في البيت والمدرسة ومكان العمل والشارع له علاقة بالتقدم الذي يعيشوه هل لمكان العقل وقيمه دور في هذا التغيير وهل لشعورهم بالمسؤولية تجاه العام وتجاه الاجيال المستقبلية له دور في هذا التغيير ام لا وبالمقابل دعونا نرى الانسان في المجتمعات العربية فان العالم يشهد ثورة في مجال الاثصالات والتواصل وقفزات سريعة في مجالات الهندسة والطب والعلوم بينما يتعزز الشعور بالعجز واالتبعية في المجتمعات العربية فهي لا تنتج ولا تصنع بل هي مجموعة كبيرة من المستهلكين السلبيين للمنتجات التطور العلمي والتقني التي تتم وتنتج في مختلف بقاع العالم ولا تنتج عندنا سوى مزيد من التبعية والانقياد فالتقدم العلمي العالمي وثورة الاتصالات والمعلومات لم تنتج ارادة شعبية حرة ومستقلة وقادرة على اطلاق الثورة والمضي بها قدما بل حولت هذه الجموع الى مجموعات شرهة من المستهلكين وفي الغالب ابعد ما يكونوا عن المواطنة والمسؤولية.

بين الاستبداد السياسي واستبداد التخلف وهيمنة الخارج وعجز القوى "الثورية "

ان احد اهم المهام الملقاة على عاتق القوى التي تعمل من اجل التغييرات الحقيقية ان تنطلق من فهم دقيق لواقع ولمهام التغيير واولوياتها وعناوينها فلقد ثبت من خلال العديد من التجارب في كثير من البلدان العربية وخصوصا في السنوات الاخيرة وبعد اثمان مهولة قدمتها الشعوب العربية ان التغيرات السياسية وما سمي بالثورات لم تعالج ايا من المشكلات والمعضلات التي تواجه هذه الشعوب ولم تحقق اية اهداف من الاهداف التي تسعى اليها وخصوصا في ما يتعلق بالحرية والعدالة والكرامة

ان مجتمعاتنا العربية محكومة بنوعين خطيرين من الاستبداد الذاتي ومن هيمنة القوى الاقليمية والعالمية

الاول هو الاستبداد السياسي سواء كان استبداد لعائلات او افراد او عسكريين او غيره من منظومات القمع والهيمنة باشكالها المختلفة والممتدة على ساحات السياسة والاقتصاد والثقافة والتي نجحت في كثير من الدول والمجتمعات من احتواء القوى التي ادعت ولا زالت تدعي انها قوى ثورية

النوع الثاني من الاستبداد وهو الاخطر هو استبداد ودكتاتورية التخلف وهذا الاستبداد يتجلى ويكمن في

الفقر والامية والجهل وتردي الاحوال العامة للناس وانتشار الفساد كنمط حكم وحياة فعند النظر الى المعطيات الرقمية نستطيع وبسهولة ان نرى ان هناك عشرات الملايين من الناس في البلدان العربية لا يزالوا اميين بمعنى عدم معرفتهم القراءة والكتابة ونسبتهم من النسب الاعلى في العالم وايضا برغم امتلاك الدول العربية للعديد من الثروات فان اعداد الفقراء الذين يعيشون فقرا مدقعا وينشغلون في معظم وقتهم وبالكاد في تدبير لقمة العيش والاحتياجات الاساسية من مأكل ومسكن وملبس يزيدون عن مائة مليون عربي على امتداد الدول العربية في مغربها ومشرقها وغيرها من مظاهر عدم توفر الخدمات الاساسية الصحية والمواصلات وأنماط الزراعة الموغلة في القدم والانعدام شبه التام للصناعة

استبداد ودكتاتورية التخلف تكمن اشد ما تكمن في العقل المبني على الموروث الثقافي الذي يستند الى القدرية والتواكل والاحتكام الى الخرافات ومخرجات تشويه الدين الذي تراكم عبر عقود وتحول الى الية قبول للحالة المتردية ولاعفاء للنفس من اية مسؤولية مجتمعية والاكتفاء بتادية انماط من التدين المجتمعي التي تمنى النفس بحياة افضل في الآخرة ولا ترتقي بالضمير الجمعي ومسؤوليات الافراد تجاه العام ولا ترى في الفساد العام ومواجهته الا شكلا من الابتلاءات او من طبائع الامور والاشياء

امر اخر على درجة عالية من الاهمية هو البنى المجتمعية القائمة على العصبية باشكالها المختلفة سواء العشائرية او القبلية او الجهوية والطائفية والعرقية والقطرية فادول العربية ليست دولا موحدة كما تبدو بل هي هياكل مجتمعية مفككة ومتصارعة ومتشرذمة ومتعددة الولاءات فسيفسائية لم تتجاوز الهيكل الطبيعية والاولية وبقيت بعيدة عن التمدن حتى لو تعلقت بشكلياته فسرعان ما تعود الى الاصل العصبي مع اية ازمة

اما فيما يتعلق بهيمنة الخارج فهي احد القضايا والمعضلات الاكثر تداولا خصوصا في ضوء استغلالها لهذه البنى المفككة والانظمة المستبدة والمتهالكة وطغيان الفساد ورغم التغيرات في موازين القوى العالمية وبشكال درامتيكية او صعود او تراجع القوى الاقليمية الا ان الدول العربية وفي معظم الاوقات كانت خارج حسابات موازين القوة بل عنصرا مفعولا به وساحة واداة من ادوات صراع القوى الكبرى والاقليمية، مثلا دعونا نتامل في نموذج العراق هل من الممكن ان تبنى امال على الطبقة السياسية الحاكمة في هذا البلد وهي مجموعات غارقة في الطائفية ومهدت لحضورها بتدمير الدولة ومقدراتها وجاءت على ظهر الدبابة الامريكية هل من الممكن اغفال التغيرات في هيكلية وبنية المجتمع التي تردت وتراجعت نحو مجموعات من الصعب حتى ان نطلق عليها مفهوم الشعب هل من الممكن ان تحمل افقا تحرريا او ثوريا تحت اية ظرف من ظروف ومثل اخر هل من الممكن ان تقود مسيرة التغيير وتحمل راية الثورة دول او امارات مجزاة ومقسمة ومملوكة لعائلات تحكم بلدانها بحماية الامريكي ومعسكراته وتبدد ثروات الامة والشعوب ولم تتجاوز راية الحرية والديمقراطية والاستقلال

اين الطريق وما العمل

ان اي تغيير سياسي سواء كان ثوري يدعي الجذرية او اصلاحي وتدرجي في منهجيته ولا يدعم حضوره ببرامج فكرية واجتماعية تدعم التقدم والاعتماد على الذات وتعلي من قيمة العقل والبحث العلمي والتقني وتفصل الدين عن السياسة وتعمل على محاربة البنى التقليدية وتدعم الحريات الفردية ومجتمعات التعاقد السياسي وتربط ذلك ربطا لا انفصام لعراه مع محاربة الدكتاتوريات السياسية بمختلف مسمياتها واشكالها وتعمل للخروج من حالة من حالة التبعية السياسية ولا تواجه قوى الهيمنة وذلك في اطار متماسك فان هذه الثورات ليست الا ادوات تابيد هذا الواقع المتردي

ان ما تشهده المجتمعات العربية من خروج الناس للتعبير عن غضبهم عندما يصلون للمرحلة التي يتخطون حواجز الخوف ويعبرون وباشكال مختلفة عن رفضهم لهذا الواقع قد يقود في احسن الاحوال الى تغييرات سياسية سطحية سرعان ما تذوب بعد ان تستحكم منها بنى التخلف التي هي اقوى بعشرات المرات من اية دكتاتورية سياسية وعلى هذا فان البرامج الثورية التي لا تعطي الاولوية لمحاربة استبداد ودكتاتورية التخلف باشكاله سابقة الذكر ليست ثورات ولا تمت للثورة بصلة بل هي اقرب الى التغيرات السياسية والتي قد تتخذ اشكالا عنيفة لكنها لن تساهم بشكل جدي في احداث تحولات كبرى في بنية وطبيعة المجتمعات والدول العربية وتكون كمن يدفع بصخرة سيزيف او يحارب طواحين الهواء

كيف تريدون من الناس اعتبار ما يحدث في السودان مثلا ثورة- مع احترامنا الشديد للشعب السوداني والتضحيات التي قدمها لاحداث هذا التغيير - لكن هل نستطيع ان نغفل عن ان الطبقة العسكرية والمليشيا القبلية المسلحة – الجنجويد لا زالت حاضرة بقوة في المشهد وان كان للسعودية والامارات ادوارا كبرى في هذا التغيير ومخرجاته وان وزيرة خارجية ما سمي بقوى الثورة في تصريحاتها الاولى عبرت عن عدم رفضها لبناء علاقات مع الكيان الصهيوني وهذا الكيان هو التجسيد الاوضح لقوى الهيمنة والاستعمار لماذا يحدث ذلك انه يحدث بسبب غياب الحزب الثوري عن الفعل بكل اشكاله السياسية والتنظيمية والفكرية والقيمية هذه الاحزاب لم تجهز نفسها للثورة ولم تقود وتصنع مقدمات للثورة وتحركت فقط في اطار رد الفعل فهذا التغيير تم بعيدا عن تعميم قيم وثقافة الثورة الحقيقية وبقيت قوى اليسار في احسن صورها واكبر "انجازاتها" تمثل قوى الاطلاق او شرارة الثورة لا حاملها وقائدها

لاحركة ثورية دون برنامج ثوري ولا برنامج ثوري دون دعم وتعزيز للقوى والافكار والعقلاينة والقيم التحررية والممارسات التقدمية لا حركة ثورية دون وجود حضور كبير وجماهيري للكتل التاريخية التي تشكل مادة هذا التغير التاريخي وتنتقل بالمجمتع الى مرحلة تاريخية جديدة فالحركة الثورية ممارسة للتغيير على الارض لفترات زمنية طويلة وليس فقط في لحظات الصدام على السلطة او لحظات الانتصار الثوري المتجسد في وصول القوى الثورية للحكم، عندما تغلب القوي السياسة التحالفات والسياسية وتعظم من التغيرات السياسية الشكلية وتهمل الجوانب المتعلقة بمحاربة هيمنة ثقافة التخلف والبنى الاجتماعية فان القوى الثورية وحركات التحرر تسقط في فخ الفكر اليومي وتفقد هويتها ومعها مصداقيتها وتتحول الى اداة سياسية عاجزة عن لعب دور الطليعة وهي بذلك تدعم بشكل باخر اعادة انتاج الازمة واستبداد التخلف الذي بدوره لا بد ان ينتج استبداد سياسيا من جهة وتبعية والحاق من جهة اخرى

الواقع العربي المزري يحمل في طياته كل المبررات والدعوات والموجبات التي تدعوا لاعادة بناء الطليعة العربية وبرنامجها للتغيير ان التحدي الاكبر هو قدرة هذه القوى على التجمع وان تعمل على مستوى يتعدى القطرية فالحركة الثورية العربية لا يمكن ان تكون ثورية وهي تعزز القطرية والشرذمة الحركة الثورية لا بد وان تكون قادرة على ترجمة هذا الطموح بالتغيير الى ممارسات يومية كمجوعات وقوى تشكل نموذجا يحتذى على كل المستويات وفي كافة الميادين والساحات وتجسيدا حيا وممارسة يومية للفكر التحرري والتقدمي وفي مواجهة بنى الهيمنة والاستبداد على مختلف اشكالها فالمعركة الثانية بعد التوحد وتطوير البرنامج التقدمي هو استعادة المصداقية واعادة الامل لهذه الجموع التائهة الي تعبت من التلاعب بها وبتضحياتها وتصبو وتشتاق الى ان ترى افقا حقيقيا للخلاص من حالة الضياع والتيه.

2019-09-22