بصراحة ،وبكل جرأة أقول ،بانني كنت قد حاولت النأي بنفسي عن الرد على ما جاء به الدكتور نبيل عمر في مقاله الأخير "عندنا عرفات وليس عرفاتيين" ،ولم تكن محاولة النأي تلك من باب الابتعاد عن نكـأ الجراح التي تسبب الدكتور نبيل عمر نفسه في وجودها بفعل خروجه مع غيره عن العرفاتية ،ولا حتى خوفا من الملاحقة القضائية التي قد اتعرض لها فيما لو انزلقت نحو اطلاق التوصيفات الحقيقية على من تركوا بصماتهم واضحة في التأثير سلبا على ما عايشه ياسر عرفات من وقائع في المرحلة الأخيرة من حياته ،وانما لأنني كنت قد انتظرت الرد على مقال الدكتور نبيل عمر من رفقاء درب ياسر عرفات الذين ما زالوا على راس مهامهم النضالية والوظيفية ،الا ان صمت هؤلاء دفعني للرد على ما جاء به الدكتور نبيل على قاعدة الحذر من الانزلاق ،فليس كل ما يعرف يقال وان لكل مقام مقال .
لا بد من القول أولا انني لم استغرب انكارهؤلاء للعرفاتية ،وما تحمله هذه المدرسة من ارث نضالي وفكري ،لان اعتراف هؤلاء بوجود العرفاتية هو بمثابة الاعتراف بما صدر عنهم من ردة وهروب من ساحة المواجهة ، وخاصة اذا ما كان ذلك الهروب قد جاء في الوقت الذي اعتقد فيه ياسر عرفات ،وهو صاحب هذه المدرسة ومؤسسها ،بان ادارتها محمية بعرق من قاموا بالعمليات الفدائية ،وبان اسوارها مجبولة بدماء الشهداء ،وانات المسحوقين، وعذابات المشردين ، وبانه لا يمكن لاحد الخروج عن تلك المدرسة الا كل فاشل ،او باحث عن جاه ونفوذ ،وكل متامر او خائن، وهذا ما لم يكن يتوقعه الرئيس عرفات من البعض في ظل ما كان يعيشه من المواجهة والصدام مع محتل غاصب استشرس في حصاره واصر على الخلاص منه .
يعتقد البعض من ادعياء البطولة وأصحاب البحث عن الذات بعيدا عن مصالح الوطن ومقاصد الشعب ان ما يقومون به من قفزات لن تختزن في ذاكرة الشعوب ،وخاصة اذا ما اعتمد هؤلاء في تلك القفزات التي لا تتوافق مع مصالح الشعب وأهدافه على ما يمتلكونه من رصيد نضالي عندما كانت الثورة في بداياتها ، ولكني ما ان تمعنت في ثنايا سطور نبيل عمر حتى تراءت امامي الكثير من مشاهد مرحلة ياسر عرفات الأخيرة ،وما احتوته تلك المشاهد من تفاصيل ، كانت وما زالت سببا رئيسيا فيما نحن فيه من ذل ومهانة وتراجع بالقضية وانقسام ،ومن بين تلك المشاهد التي تراءت امامي هو مشهد ازمة حصار كنيسة المهد، بالإضافة الى مشهد المطالبة بالإصلاحات ،ومشهد اتهام الزعيم الراحل ياسر عرفات بالفساد والدكتاتورية، وما رافق تلك التوصيفات والمطالبات من استقالات ،وذلك في الوقت الذي كان يشتد فيه الحصار الإسرائيلي على عرفات ،واقتراب الدبابات الإسرائيلية من غرفة نومه ،وتصويب فوهاتها الى مكتبه.
مشاهد كثيرة هي تلك التي كان ياسر عرفات مستهدفا فيها ،وهنا لا نخجل من القول ،ولا حتى الخشية من الإعلان بان كل من يرفض العرفاتية كان عاملا مساندا في إنجاح ذلك الاستهداف ، ففي الوقت الذي كان يتعرض فيه ياسر عرفات الى الاستهداف العسكري المباشر من الاحتلال الإسرائيلي والإدارة الامريكية ،وبتواطئ من العرب وقبول منهم للخلاص منه جسديا ،فانه كان مستهدفا أيضا من كل هؤلاء للخلاص منه سياسيا ،وهنا لا بد من التذكير بما كان يصدر من تصريحات عن ادعياء الإصلاح وأصحاب شعار الخلاص من الدكتاتورية قبل وعقب التقاء المبعوثين الدوليين والامريكيين مع عرفات داخل مقره المحاصر ،حيث حرص هؤلاء على مقابلة المبعوثين سواء قبل لقائهم بياسر عرفات ،وحتى عقب اللقاء به أيضا ،وقد كان ذلك الاتصال بمثابة الموافقة منهم على الإنتهاء من مرحلة حكم عرفات او تقليص صلاحياته ،وهي مرحلة أراد الجميع الخلاص منها اعتقادا ان في هذا الخلاص بداية نهاية الاحتلال والدخول في مرحلة من الاستقلال والاستقرار والازدهار ،فاين نحن ذلك الان من هذا الاستقلال والاستقرار والديمقراطية؟ .
عندما عزمت الرد على ما جاء في مقال الدكتور نبيل عمر كنت فد قررت ان لا اخوض في مسالة اطلاق النار عليه ، ولا فيما صدر على لسانه من توصيفات لحكم عرفات في ظل اشتداد الحصار عليه، ولا حتى الذهاب لاستقراء علاقته مع محمد دحلان ،واذا ما كانت هذه العلاقة الان هي غير ما كانت عليه قبل حادثة اطلاق النار عليه ،مع الابتعاد كليا عن الحديث في غموض ملابسات مقتل المشتبه به في اطلاق النار وتنفيذ عملية الاستهداف المقصود لقدم نبيل عمر اليمنى ،وذلك لأننا ما زلنا في صلب المعركة ولم ندخل بعد في مرحلة من الأمان لنقف للحظة مع الذات لتقييم الأداء او توزيع الاتهامات ،وهذا ما تعلمناه في المدرسة العرفاتية التي ينفي نبيل عمر نفسه وجودها ،فالعرفاتية كانت وما زالت وستبقى مدرسة مفتوحة لينهل منها الاحرار الذين لم يبيعوا انفسهم لدولة ،ولا حتى لجماعة مقابل مبلغ من المال ،او وعد بمنصب واتساع نفوذ ،ولكن لا بد هنا من استقراء بعض المشاهد ، ليس من باب تقديم لوائح الاتهام لكل من اصطدم مع ياسر عرفات في تلك المشاهد ،وانما للتدليل على ان العرفاتية مدرسة ارسى عرفات قواعدها بنفسه ،فهو من عمل على إعادة اللاجئ الى وطنه ،ولم يعمل على ابعاد من كان في هذا الوطن ولا حرمان إقامة اخر بين اهله، وهنا الفرق ،بين من ينهل من مدرسة عرفات فكرا ونضالا ،وبين من خرج من هذه المدرسة وانكر وجودها بعد ان حاول العمل على انهائها ،حيث عمد هؤلاء ووفقا لاستقراء مشهد حصار كنيسة المهد على نفي المواطن وليس على تعزيز وجوده في ارضه وفقا لقاعدة ياسر عرفات يد تبني وأخرى تقاوم.
إن إبعاد أي مواطن عن مكان إقامته هو من أقسى العقوبات غير المشروعة وغير القانونية ،والتي لا تملك الحق بممارستها أو تنفيذها ،لا قوات الاحتلال الحربي ولا السلطة الوطنية ،ولا حتى من ادعى تمثيلها ، وذلك وفقا لما جاءت به اتفاقية جنيف الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب ،الا ان قيام بعض من اطلقوا على انفسهم بالإصلاحيين والذبن وصفوا ياسر عرفات بالدكتاتور الفرد وهم من ينكرون الان العرفاتية كانوا قد ساهموا ومن خلال اتصالاتهم في تمرير ما أراده الاحتلال منهم ،ليس عكس رغبة عرفات فقط ، وانما عكس ما نصت عليه اتفاقية جنيف أيضا ،وذلك بنفي العدد الأكبر من الذين كانوا في داخل كنيسة المهد من المقاتلين ،رغم ان اتفاقية جنيف نفسها نصت على انه "لا يجوز حرمان أحد، تعسفاً، من حق الإقامة في بلده".
ان هؤلاء الدين كانوا قد نادوا بالإصلاح ،وهي كلمة حق ،ولكن كان يراد منها الباطل ،كانوا قد تعمدوا مخالفة اتفاقية جنيف ،كما تعمدوا مخالفة القانون الدولي الإنساني ،والقيام أيضا بكل ما هو غير قانوني ارضاءا للاحتلال وتنفيذا لأوامره ،وهنا لا بد وبعد انقضاء ما يقرب العقدين من الزمن ان نسال ادعياء الإصلاح وأصحاب الراي ان لا عرفاتية ما هو الذي تم تحقيقه من وراء محاولات القضاء على العرفاتية في ازمة كنيسة المهد وذلك من خلال ما قاموا به من العمل على نفي المطلوبين فيها دون معرفة من عرفات او أوامر منه ،وما هي المكاسب التي تم تحقيقها من مساندتهم لسياسة شارون والإدارة الامريكية في عملية الخلاص من عرفات ،وذلك من خلال ما صدر عنهم من تصريحات وافعال ، ومن بينها الاستقالات ؟.
باعتقادي انه ما كان للإعلان الإسرائيلي ان يصدر وهو أنه لا شريك فلسطيني مع وجوب تصفية عرفات ،وانه ما كان أيضا للقرار الأمريكي ان يمر وهو الذي نص على عدم التعامل مع الرئيس الراحل مع الدعوة الى وجوب إيجاد قيادة بديلة لولا ما صدر عن هؤلاء من تصريحات عن الفساد وافعال بذريعة المطالبة بالإصلاح والقضاء على دكتاتورية الفرد ،حيث عمد هؤلاء وفي الوقت الذي كان يشتد الحصار على الزعيم ياسر عرفات الى التنافس فيما بينهما على انتزاع صلاحيات الرئيس الراحل المالية ،والأمنية، والإدارية بذريعة الإصلاح ومحاربة الفساد ،فهل استطاع هؤلاء فعلا القضاء على الفساد ،او تجسيد الديمقراطية وحتى تحقيق الوحدة مع كافة قوى وفصائل العمل الوطني والإسلامي واطلاق استراتيجية وطنية شاملة للتحرير والبناء ومهما اختلفت رؤى تلك الفصائل كما كان عرفات قد نجح ولعقود في الجمع فيما بينهما رغم الاختلافات في تلك الرؤى والاهداف؟،ام ان وصف عرفات بذلك الرجل القابع في مقاطعة في رام الله على جبل من جثث وجماجم الشعب الفلسطيني وفقا لما صدر عنهم لم يكن نابعا من غيضهم على ما يصدر عنه من قرارات ،وانما كان بهدف الخلاص منه فقط وتهيئة للإعلان الإسرائيلي بوجوب تصفيته وتنفيذا للقرار الأمريكي بإيجاد قيادة بديلة؟.
كلمة اقولها لأخي الدكتور نبيل عمر ،ليس من باب العتاب ،وانما من باب توضيح الحقائق ووضع النقاط على الحروف ،وهو انني اعلم بانك قد اختلفت مع ياسر عرفات وخرجت من مدرسته ،واعلم أيضا انك كنت في مقدمة من نادوا بنزع صلاحياته ، ،ولكن ذلك لا يجب ان يقف حائلا امامك وانت المناضل والكاتب بان تعترف ان هناك ارثا نضاليا وفكريا لياسر عرفات ، وبان هذا الإرث هو سبب استمرار الالتفاف الشعبي حول ياسر عرفات رغم غيابه ،وبان هذا الإرث النضالي والفكري هو بمثابة القاعدة التي ارسى عليها ياسر عرفات مدرسة العطاء من اجل التحرر والبناء ،ام ان الاعتراف بالعرفاتية يا دكتور نبيل هو بالنسبة اليك بمثابة لائحة اتهام مقدمة بردة كل من خرج عن تلك المدرسة في وقت كان يجب الالتحام مع من فيها ،وعدم الخروج عن زعيمها او مخالفة ما أصدره من تعاليم ،لان الوقائع والاحداث اكدت بان هذا الخروج هو سبب ما يعيشه شعبنا الان من ذل ومهانة وانقسام ؟ .
اعلم ان الاعتراف بوجود العرفاتية ، والاشارة أيضا الى تصاعد الالتفاف الشعبي حول ياسر عرفات رغم غيابه الطويل هو بمثابة اعتراف ادعياء الإصلاح بما صدر عنهم من ردة في زمن الحرب واشتداد الحصار، ونحن هنا ،وبصراحة ،لا نبحث عن هذا الاعتراف منهم ،فالوقائع باتت مكشوفة ،والاحداث كشفت زيف شعاراتهم وادعاءاتهم، كما اسقطت عن عوراتهم اخر بما تبقى من ورقة التوت ،ولكن ما نبحث عنه ونتطلع اليه هو العمل بما تركه لنا ياسر عرفات من أفكار وتعاليم من اجل تحقيق حلمه في بناء الدولة ،لأنه لا تحقيق لهذه الدولة بالابتعاد عما تطلع الى تجسيده ياسر عرفات ،وانه لا تجسيد لأفكار وتعاليم ياسر عرفات الا بالاعتماد على كل من التف حوله في حضوره وغيابه، وهنا، وفي نهاية مقالي ،وعلى الرغم من اننا ما زلنا في زمن الردة والانتحار، فانه لا بد من القول ،باننا كنا وما زلنا يا دكتور نبيل عرفاتيون ،وسنبقى عرفاتيون ،وللابد.
كاتب صحفي فلسطيني
باحث في قضايا الامن والسياسة