رغم إدراج الحقوق الثقافية في عديد الصّكوك الدّوليّة منذ الاعلان العالمي لحقوق الانسان ، إلّا أنّها تحظى بقدر أقلّ من الاهتمام مقارنة بغيرها من حقوق الانسان . و يرجع ذلك أساسا إلى ضعف الوعي بالدّور الحيوي الّذي يمكن أن تلعبه الثّقافة في تنمية الشّعوب و المجتمعات و تطورها و ازدهارها . فما زالت هناك نظرة سائدة تعتبر الثّقافة شكلا من التّرف الفكري و الجمالي الّذي لا علاقة له بالحاجيّات الأساسيّة للانسان ، و الّذي لا يهمّ إلّا شريحة المبدعين و المثقّفين .و قد عمّق هذا التّهميش للثقافة المفهوم الضّيق المتداول لها ، لفترة طويلة من الزمن ، و الذي يحصرها في الابداع الفكري و الفني ، في حين أنّ مجالها أوسع من ذلك بكثير . فهي تشمل أيضا النّظم و الممارسات الاجتماعيّة و المعارف و المهارات و أشكال التّعبير التقليديّة الّتي تشكّل هويّة المجتمعات و الجماعات و ترتبط بصفة وثيقة بنمط الحياة . و هو ما يعبّر عنه بالتّراث الثّقافي اللامادّي .
لقد أثبتت تجارب الشعوب و المجتمعات عبر تاريخها العريق أنّ الثقافة محرّك رئيسي لكل تنمية اقتصاديـة و اجتماعية. كما أنّ الوعي بأهمّية المسألة الثقافيّة أصبح ضروريّا اليوم أكثر من أيّ وقت مضى ، في ظلّ ما تمثلّه العولمة من مخاطر على الثقافات المحلّيّة و التّنوّع الثّقافي . فنمط التّنمية المعولم القائم على الاستهلاك المادي قد أدّي إلى تدمير ممنهج لقيم المجتمعات و الشّعوب و معارفها التّقليديّة . و هو ما يطرح بالحاح مسألة حماية الحقوق الثقافية لهذه الشّعوب و المجتمعات .
فما هي مكانة هذه الحقوق في الصكوك الدولية و القانون التونسي ؟ و هل يشمل مجالها الثقافة بمختلف تجلّياتها المادّيّة و اللامادّيّة ؟ و إلى أيّ مدى يمكن القول أنّها مفعّلة على أرض الواقع ؟
1 ـ الحقوق الثّقافيّة في الصّكوك الدّوليّة
يعدّ الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصّادر في 10 ديسمبر 1948 أوّل صكّ دولي يتعرّض للحقوق الثقافيّة . حيث تنصّ المادّة 27 منه على أنّ :
" 1 ـ لكلّ شخص حق المشاركة الحرّة في حياة المجتمع الثّقافيّة ، و في الاستمتاع بالفنون و الاسهام في التّقدّم العلمي و في الفوائد الّتي تنجم عنه .
2 ـ لكلّ شخص حق في حماية مصالحه المعنويّة و المادّيّة المترتّبة على أيّ إنتاج علمي أو أدبي أو فنّي من صنعه "
و لم تضف المادّة 15 من العهد الدّولي الخاصّ بالحقوق الاقتصاديّة و الاجتماعيّة و الثّقافيّة كثيرا إلى ذلك ، فقد ورد فيها أنّه :
" 1 ـ تقرّ الدّول الأطراف في هذا العهد أنّ من حقّ كلّ فرد :
أ ـ أن يشارك في الحياة الثّقافيّة
ب ـ أن يتمتّع بفوائد التّقدّم العلمي و بتطبيقاته
ج ـ أن يفيد من حماية المصالح المعنويّة و المادّيّة النّاجمة عن أيّ أثر علمي أو فنّي من صنعه
2 ـ تراعي الدذول الأطراف في هذا العهد التّدابير الّتي ستتخذها بغية ضمان الممارسة الكاملة لهذا الـحقّ ، و أن تشمل تلك التّدابير الّتي تتطلّبها صيانة العلم و الثّقافة و إنماؤها و إشاعتها .
كما تناولت عديد الصكوك الدّوليّة الأخرى الحقوق الثّقافيّة ، و يمكن أن نذكر منها :
ـ إتّفاقيّة منع جريمة الإبادة الجماعيّة و المعاقبة عليها ، فعملا من المادّة الثّانية منها يمنع التّدمير المتعمّد لثقافة أيّة جماعة قوميّة أو إثنيّة أو عنصريّة أو دينيّة
ـ إعلان مبادئ التّعاون الثّقافي الدّولي الصّادر سنة 1966 عن اليونسكو . و تنصّ مادّته الأولى على أنّ :
" ـ لكلّ ثقافة كرامة و قيمة يجب احترامهما و المحافظة عليهما
ـ من حقّ كلّ شعب و من واجبه أن ينمّي ثقافته
ـ تشكّل جميع الثّقافات بما فيها من تنوّع خصب و بما بينها من تباين و تأثير متبادل ، جزءا من التّراث الّذي يشترك في ملكيّته البشر جميعا ."
ـ إعلان الحقّ في التّنمية الصّادر عن منظّمة الأمم المتّحدة سنة 1986 ، الّذي تنصّ مادّته الأولى علـى أنّ " الحقّ في التّنمية حقّ من حقوق الإنسان غير قابل للتّصرّف و بموجبه يحقّ لكلّ إنسان و لجميع الشّعوب المشاركة و الاسهام في تحقيق تنمية اقتصاديّة و اجتماعيّة و ثقافيّة و سياسيّة و التّمتّع بهذه التّنمية الّتي يمكن فيها إعمال جميع حقوق الإنسان و الحرّيّات الأساسيّة إعمالا تامّا "
ـ إعلان مكسيكو سيتي بشأن السّياسات الثّقافيّة الصّادر عن اليونسكو سنة 1982 . حسب المبدأ الثّاني منه فإنّ : " تأكيد الهويّة الثّقافيّة يسهم في تحرير الشّعوب " و إنّ " أيّ شكل من أشكال السّيطرة يمثّل إنكارا لهذه الهويّة و إخلالا بها "
ـ الاتّفاقيّة العالميّة حول حقوق المؤلّف الصّادرة لسنة 1952
ـ الإعلان العالمي حول التّنوّع الثقافي الصّادر عن اليونسكو سنة 2001 . تنصّ مادّته الخامسة على أنّـــه : " ينبغي أن يتمتّع كل شخص بالقدرة على المشاركة في الحياة الثّقافيّة الّتي يختارها و أن يمارس تقاليده الثّقافيّة الخاصّة " . كما تؤكّد مادّته السّادسة على أنّه " ينبغي الحرص على تمكين كلّ الثّقافات من التّعبير عن نفسها و التّعريف بنفسها " .
ـ إتّفاقيّة صون التّراث الثّقافي اللامادّي لسنة 2003 . و هي تنصّ في مادّتها الثّانية على أنّ التّراث الثّقافي اللامادّي ينمّي إحساس الجماعات و المجموعات بهوّتها و الشّعور باستمراريّتها ، و يعزّز من ثمّ احترام التّنوّع الثّقافي و القدرة الابداعيّة البشريّة .
ـ إتّفاقيّة حماية و تعزيز تنوّع أشكال التّعبير الثّقافي لسنة 2005 ، و الّتي تنصّ في مادّتها الثّانية عـــلى "الاعتراف بأنّ جميع الثّقافات بما فيها ثقافات الأشخاص المنتمين إلى الأقلّيات و ثقافات الشّعوب الأصليّة متساوية في الكرامة و في الجدارة بالاحترام " .
أمّا على المستوى الاقليمي تنصّ المادّة 17 من الميثاق الافريقي لحقوق الانسان و الشّعوب لسنة 1981 على ضمان حق الأفراد في المشاركة في الحياة الثّقافيّة في مجتمعاتها . و هي تؤكّد كذلك على أنّ " النّهوض بالأخلاقيّات العامّة و القيم التّقليديّة الّتي يعترف بها المجتمع و حمايتها واجب على الدّولة " . في حين تنصّ المادّة 22 على حقّ الشّعوب في التّنمية الثّقافيّة و في التّمتّع المتساوي بالتّراث المشترك للإنسانيّة .
من جهة أخرى ورد بالمادّة 13 من الإعلان الأمريكي لحقوق الإنسان و واجباته أنّه " لكلّ شخص الحقّ في المشاركة في الحياة الثّقافيّة للمجتمع ، و في الاستمتاع بالفنون ، و في المشاركة في كلّ الفوائد المترتّبة عن التّقدّم الفكري ، و خصوصا الاكتشافات العلميّة "
2 ـ الحقوق الثّقافيّة في القانون التّونسي
لم يتضمّن دستور 1959 أيّة إشارة إلى الحقوق الثقافيّة . على خلاف ذلك ينصّ الفصل 42 من دستور 2014 على أنّ " الحقّ في الثّقافة مضمون . حرّيّة الإبداع مضمونة ، و تشجّع الدّولة الابداع الثقافي ، وتدعم الثّقافة الوطنيّة في تأصّلها و تنوّعها و تجدّدها ، بما يكرّس قيم التّسامح و نبذ العنف و الانفتاح على مختلف الثّقافات و الحوار بين الحضارات . تحمي الدّولة الموروث الثّقافي و تضمن حق الأجيال القادمة فيه " . كما ورد بالفصل 41 أنّ " الملكيّة الفكريّة مضمونة " .
و تخضع حقوق المؤلّف إلى القانون عدد 36 المؤرّخ في 24 فيفري 1994 المتعلّق بالملكيّة الأدبيّة و الفنّيّة و المنقّح و المتمّم بالقانون عدد 33 المؤرّخ في 23 جوان 2009 .
في حين لم يصدر إلى حدّ الآن أيّ قانون يتعلّق بالتّراث الثّقافي اللامادّي رغم مصادقة تونس منذ سنة 2006 على اتّفاقيّة اليونسكو لسنة 2003 المتعلّقة بصون هذا التّراث .
3 ـ مجال الحقوق الثّقافيّة :
يرتبط مجال الحقوق الثّقافيّة بتعريفنا للثقافة . فالتّضييق أو التّوسيع في هذا التّعريف ينعكس على مجال هذه الحقوق . و قد تبنّى الإعلان العالمي لحقوق الانسان مفهوما ضيّقا للثّقافة . حيث تناولها بصفتها إبداعا فنّيّا أو فكريّا فرديّا . فهو يحصر مجال الحقوق الثّقافيّة في حق الفرد كمبدع للعمل الفنّي أو الفكري أو كمستهلك له . المبدع يتمتّع بحريّة الابداع و الملكيّة الفكريّة و المستهلك بحق النفاذ إلى العمل الفني أو الفكري و الاستفادة منه . و بالتالي فإنّ هذا الفصل يتحدّث عن الحق في الثقافة و ليس عن الحقوق الثّقافية التي مجالها أوسع بكثير . إذ تحيل إلى الدّلالة الأنتروبولوجيّة للثّقافة ، بما هي نمط حياة أي ممارسات و تصوّرات و أشكال تعبير و معارف و مهارات تنتقل من جيل إلى آخر و تشكّل هويّة المجتمعات . و هو ما يعبّر عنه بالتّراث الثّقافي اللامادّي . و يضطلع هذا التّراث بدور هام ّ في تعزيز شعور المجتمعات المحلّيّة ، و لا سيّما السّكّان الأصليّين ، بالهويّة و التواصل مع الماضي و الحاضر و المستقبل . و هو بذلك عامل ، لا غنى عنه ، يساهم في مواجهة مخاطر العولمة على التّنوّع الثقافي . بالإضافة إلى كونه محرّك رئيسي للتنمية الاقتصاديّـــــــــة و الاجتماعيّة المستدامة للمجتمعات المحلّية .
لقد سادت النّظرة الضّيقة للحقوق الثّقافيّة طويلا في الصّكوك الدّوليّة . من ذلك أنّ الفصل 15 من العهد الدّولي للحقوق الاقتصاديّة و الاجتماعيّة و الثّقافيّة لسنة 1966 لا يزيد كثيرا عمّا ورد بالفصل 27 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان ، باستثناء أنّه حمل على عاتق الدّول الأطراف مسؤوليّة اتّخاذ التّدابير اللازمة لتفعيل الحق في الثّقافة بشكله الضّيق المنصوص عليه .
لكنّ هذا الوضع بدأ يتغيّر منذ نهاية الثّمانينات في اتجاه الاعتراف بالحقوق الثّقافية للشعوب و المجتمعات المحلّيّة ، و لا سيّما السّكّان الأصليّين ، في اتّجاه حماية و تعزيز معارفها و ممارساتها التقليديّة . فصدرت سنة 1989 توصية اليونسكو بشأن صون الثّقافة التّقليديّة و الفلكلور . و قد مثّلت هذه التّوصية إطارا نظريا لتحديد و صون و تعزيز التّراث الثّقافي اللامادّي . ثمّ أفضت النّقاشات و أشغال الخبراء صلب اليونسكو حول التّصدّي لمخاطر العولمة على الثّقافات المحلّيّة إلى إصدار جملة من الصّكوك الّتي تكرّس المفهوم الشّامل و الواسع للثّقافة . و هي تتمثّل في الاعلان العالمي حول التّنوّع الثّقافي لسنة 2001 و اتّفاقيّة صون التّراث الثّقافي اللامادّي لسنة 2003 و اتّفاقيّة حماية و تعزيز تنوّع أشكال التّعبير الثّقافي لسنة 2005 .
و في سنة 2007 أصدر مجموعة من الخبراء إعلان فرايبورغ للحقوق الثّقافيّة . و رغم أنّه لا يكتسي صبغة قانونيّة فإنّه يمثّل وثيقة مرجعيّة هامّة للأكاديميين و دعاة حقوق الانسان و المعنيين بالسّياسات الثّقافيّة . فهي تتبنى مفهوما موسّعا للثقافة يشمل تجلّيّاتها المادّيّة و اللامادّيّة . كما تفصل مختلف هذه الحقوق و تصنّفــــها و تحدد التزامات الأطراف المعنيّة بحمايتها .
في تونس يتبنّى الفصل 42 من دستور سنة 2014 مفهوما واسعا للثّقافة يتماشى مع تطوّرالصّكوك الدّوليّة . حيث لا يقتصرعلى التّنصيص على أنّ" حرّيّة الإبداع مضمونة "وعلى أنّ " الدّولة تشجّع الابداع الثقافي " . بل إنّه ينصّ كذلك على أنّ الدّولة تدعم الثّقافة الوطنيّة في تأصّلها و تنوّعها و تجدّدها ، بما يكرّس قيم التّسامح و نبذ العنف و الانفتاح على مختلف الثّقافات و الحوار بين الحضارات " . كما يلزم الدّولة بحماية الموروث الثقافي و ضمان حق الأجيال القادمة فيه . إنّ عبارات " الثّقافة الوطنيّة " و " مختلف الثّقافــات " و " الحوار بين الحضارات " تحيل في جانب هام منها على الدّلالة الأنتروبولوجيّة للثّقافة بوصفها نمط عيش و تراث ثقافي لامادّي .
لكنّ النّصوص التّشريعيّة لم تواكب تطوّر النّص الدّستوري . فقد بقيت رهينة النّظرة الضّيقة التي تتناول الثّقافة على أساس أنّها إبداع فردي و معالم و قطع أثريّة . و ذلك رغم مصادقة تونس منذ سنة 2006 على اتّفاقيّة صون التّراث الثّقافي اللامادّي لسنة 2003 ، الّتي تلزم الدّول الأطراف بسنّ التّشريعات اللازمة لحماية و تعزيز هذا التّراث .
4 ـ تفعيل الحقوق الثّقافيّة :
لا يكفي إدراج الحقوق الثّقافيّة في الصّكوك الدّوليّة و الدّساتير . بل ينبغي تفعيلها بصفة ملموسة على أرض الواقع كي لا تبقى حبرا على ورق . و يحمل التّفعيل أساسا على عاتق الدّول من خلال سياساتها الثّقافيّة .
في هذا الإطار تنصّ المادّة 15 من العهد الدّولي الخاصّ بالحقوق الاقتصاديّة و الاجتماعيّة و الثّقافيّة لسنة 1966 على أنّه : " تراعي الدّول الأطراف في هذا العهد في التّدابير التّي ستتخذها بغية ضمان الممارسة الكاملة لهذا الحقّ ، أن تشمل تلك التّدابير الّتي تتطلّبها صيانة العلم و الثّقافة و إنماؤها و إشاعتها "
كما تلزم المادّة 11 من اتّفاقيّة صون التّراث الثّقافي اللامادّي لسنة 2003 الدّول الأطراف باتّخاذ التّدابير اللازمة لضمان صون التّراث الثّقافي غير المادّي الموجود على أراضيها . و تتمثّل هذه التّدابير عملا بالفقرة الثّالثة من المادّة الثّانية أساسا في " تحديد هذا التّراث و توثيقه و إبرازه و نقله و لا سيّما عن طريق التّعليم النّظامي و غير النّظامي ، و إحياء مختلف جوانب هذا التّراث " .
من جهة أخرى تنصّ الفقرة الأولى من المادّة الخامسة من اتفاقيّة حماية و تعزيز تنوّع أشكال التّعبير الثّقافي لسنة 2005 على الحق السّيادي للدّول الأطراف في صياغة و تنفيذ سياساتها الثّقافيّة و اعتماد تدابير لحماية و تعزيز تنوّع أشكال التّعبير الثّقافي و توطيد التّعاون الدّولي . و من بين هذه التّدابير ، حسب الاتفاقيّة ، دعم التّعليم و التّكوين في مجال الصّناعات االثّقافيّة و تشريك المجتمع المدني و دمج الثقافة في سياسات التّنمية المستدامة .
و لا تقتصر مسؤوليّة تفعيل الحقوق الثّقافيّة على الدّول فقط . بل إنّ المنظّمات الدّوليّة ، و على رأسها اليونسكو ، تضطلع بدور حيوي في هذا المجال . في هذا الصّدد يلزم الفصل الثّامن من الميثاق التّأسيسي لليونسكو الدّول الأطراف بتقديم تقارير دوريّة حول تدابيرها و إحصائيّاتها فيما يتعلّق بمؤسّساتها الثّقافيّــــة و أنشطتها . كما يجب أن تقدّم هذه الدّول تقارير حول التّدابير المتّخذة تنفيذا لتوصيات و اتّفاقيّات اليونسكو .
إلّا إنّ هذه التّقارير أثبتت عدم نجاعتها ، كوسائل رقابة ، على احترام الدول لتعهداتها بشان حماية و تعزيز الحقوق الثّقافيّة . و يعود ذلك إلى عدم توفّر الإطار البشري المختصّ لدى الدّول و المنظّمات الدّوليّة للاضطلاع بهذه المهام ، بالإضافة إلى ضعف رقابة المجتمع المدني على التّقارير .
على خلاف دورها الرّقابي ، تبدو اليونسكو أكثر نجاعة فيما يتعلّق بتدخّلاتها في مجال المشاريع الثّقافيّة . حيث تموّل الدّراسات و تعزّز أنشطة البحث و التّكوين و تقدّم المساعدة الفنّيّة للدّول .
و غالبا ما يلعب المجتمع المدني دورا محوريّا في تفعيل الحقوق الثّقافيّة من خلال ما ينجزه من مشاريع ثقافيّة تسهم في تنشيط الحياة الثّقافيّة . و تقتضي الحوكمة التّشاركيّة أن يقع تشريكه أيضا في رسم السّياسات الثّقافيّة و تنفيذها و تقييمها .
في تونس مازالت الحقوق الثّقافيّة غير مفعّلة كما يجب على أرض الواقع . فتمويل الثّقافة مازال ضعيفـــا ، و هو ما يبرز بوضوح من خلال حجم ميزانيّة الثّقافة الّتي لا تتجاوز نسبة 1% ميزانيّة الدّولة ، رغم الوعود السّياسيّة بالزّيادة فيها . ذلك ما انعكس سلبا على المؤسّسات و الجمعيّات الثّقافيّة و أنشطتها . هذا إضافة إلى المركزيّة الثّقافية ، حيث يتمركز النّصيب الأوفر من الدّعم و المؤسّسات و الفضاءات و الفعاليّات في العاصمة في حين تعاني بقيّة الجهات ، و لا سيّما الدّاخليّة ، التّهميش .
كما لا يحظى التّراث الثّقافي اللامادّي بالعناية الّتي تتطلّبها المحافظة عليه من الاندثار . فرغم مصادقة تونس على اتّفاقيّة سنة 2003 إلّا أنّ الدّولة لم تفعّل البنود الواردة فيها ، و لا سيّما فيما يتعلّق بسنّ التّشريعات .
من ناحية أخرى تواجه الصّناعات الثّقافيّة مشاكل جمّة من قبيل ضعف الدعم المخصص للابداع الثّقـــــافي و البيروقراطيّة و التّعقيدات الإداريّة .
خلاصة القول أنّ الصّكوك الدّولية المتعلّقة بالحقوق الثّقافيّة شهدت تطوّرا ملحوظا في مقاربتها لمفهوم الثقافة . فلم تعد تتناولها فقط باعتبارها ابداعا فنّيّا أو فكريّة ينتجه الأفراد ، بل بصفتها أيضا تراثا ثقافيّا لامادّيا تتناقله الأجيال المتعاقبة و يشكّل هويّة الشّعوب و المجتمعات . و رغم أن النّص الدّستوري في تونس قد واكب هذا التّطوّر إلّا أن التشريعات بقيت على حالها رهينة المفهوم الضّيق للثّقافة . هذا بالاضافة إلى ضعف تفعيل الحقوق الثّقافيّة على أرض الواقع . و هو ما يتطّلب مراجعة عميقة و شاملة للسّياسات الثّقافيّة