الخميس 9/10/1445 هـ الموافق 18/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
القضايا العربية بين 'صفقة' و'صفعة' وصفحة'القرن ...د. حميد لشهب

 

 لم يستوعب القادة العرب مغزى المثال العربي: "المومن لا يلدغ من الجحر مرتين". انتظر العرب طويلا ما كانت إدارة ترامب تُعده في مطابخها الإستراتيجية، لما سماه "صفقة" القرن. وهي صفقة عنده، لأنه لا يعي من السياسة إلا الصفقات المربحة، بدليل أنه أكد في كلمته بأن دولا في المنطقة هي التي ستمول ما يُوهم الفلسطينيين منحهم إياه إن قبلوا إهانته الجديدة، التي سماها الفرصة الأخيرة. وفي تعبيره هذا تهديد صارخ وواضح لشعب يعيش في آخر أبرتهايد يعرفه العالم المعاصر.

أصبحت الصفقة "صفعة" للقضايا العربية العادلة برمتها بعدما اصطفت الدول الخليجية راكعة لسيديها ترامب ونتيناياهو، بل مُصفِّقة ومشجعة الأطباق المسمومة التي تفننت إدارة ترامب في إعدادها ومحاولة إرغام الشعب الفلسطيني على تناولها على الرغم منه وتحت التهديد. تحاول هذه الدول، بما فيها مصر السيسي المنبطح على بطنه، الهروب من مسؤوليتها الحضارية والأخلاقية والدينية المصيرية اتجاه الأمة المسلمة بدعوة الفلسطينيين إلى "التروي" و"دراسة الصفقة بتأنِّ"، وكأن لسان حالهم يقول: صدى الصفعة التي تلقيتم صمَّ أذاننا ولا حولة لنا، إذا لم نسمع غضبكم ورفضكم.

كعادتها، لم تَقْدِم الإدارة الأمريكية على مثل هذه الخطوة إلا بعدما قامت بدراسة معمقة ميدانية للعالم العربي، بعدما أغرقته في مشاكل لا حصر لها، ومن أهمها إيصاله إلى حافة الإفلاس، وانشغال الشعوب العربية بقوتها اليومي و"حكامها" بمليء خزائنهم من عرق جبين هذه الشعوب، تحسبا ليوم لا تُحمد عقباه. لا يمكن لوم الشعوب العربية على "تقاعصها" لنصرة القضية الفلسطينية، لأنها أُبعدت بكل الوسائل عن هذه القضية، وبالخصوص بمشاركة "حكامهم" في حبك خيوط هذه المؤامرة ضد شعب لا يطالب بشيء آخر من غير حقف في أرضه. ولا نلوم "الحكام العرب"، لأن ورقة التوت التي كانوا يغطون بها وجوههم سقطت، ومعها سقطت كل مصداقية وثقة في اعتبارهم قادة بما تحمله الكلمة من معنى. لم يعد خفيا بأنهم اليد الطويلة للإمبريالة الصهيو-أمريكية، العنصرية والمعادية للإسلام والمسلمين أينما وُجدوا. فإذا كانت دولة صهيون الحالية تُعتبر الولاية الأمريكية الأولى في الشرق الأوسط، فالظاهر أن الولاية الثانية في هذه الرقعة الجغرافية هي الدول الخليجية ومصر. الفرق بين إسرائيل و"الولايات العربية الأمريكية" هي أن إسرائيل تتسلم مقابلا من أمريكا، في حين أن الولايات العربية، تدفع دون حساب ولا محاسبة، بسبب ودون سبب. يكفي أن يرفع ترامب إبهامه، لتبدأ آلات عد الدولار في الإشتغال وضخ ما تيسر في الحسابات البنكية الأمريكية.

 

أما المقصود من "الصفحة" في هذا المقال، فهو كون الشعب الفلسطيني سيكون مضطرا للأسف ألا يعول إلا على ذاته في نضاله المرير ضد الإستعمار الصهيوني. لم تعد هناك أية دولة ولا أية مؤسسة أو منظمة عربية أصبح من حقها الحديث عن القضية الفلسطينية واعتبارها قضية كل العرب، لأنها قضية الفلسطينيين وحدهم، وهم قادرون على طي الصفحة وبداية معركة التحرير الحقيقية بكل الوسائل المتاحة، ومنها بالخصوص المقاومة المسلحة، لأنها اللغة الوحيدة التي يفهمها المحتل الصهيوني. هناك الملايين من الشباب العرب دون الثلاثين ممن يبحثون في حياتهم على معنى، في عالم فقد كل معنى، وهم المساعدة الوحيدة التي قد تعول عليها الفلسطينيون، ذلك أن إمكانية الضغط على حكوماتهم من الداخل ممكنة بمظاهرات سلمية متواصلة في كل المدن الكبيرة والمتوسطة من المحيط إلى الخليج. وعلى "المثقفين" تحمل مسؤولياتهم اتجاه ما يُحاك ضد الشعب الفلسطيني، وإعادة التعريف بالقضية الفلسطينية وتاريخها، لأن الأيديولوجية القائلة بأن الفلسطينيين باعوا أرضهم بمحض إرادتهم للصهاينة لاتزال منتشرة بقوة في صفوف الشباب العربي الذي لم ينل إلا قسطا متواضعا من التعليم والتكوين.

طي الصفحة في نضال الشعبي الفلسطيني يعني دون أدنى شك أيضا إلغاء "معاهدة العار" في أوسلو، التي كانت فاتحة تقييد أيديهم، بعدما كانت ثورة الحجارة حققت ما لم يحققه أي اتفاق مع من لا يحترم التزاماته. إضافة إلى هذا، على القادة الفلسطينيين الحاليين إلغاء كل اتفاقاتهم مع الصهاينة والإستقالة جماعة، لأنهم لم يعودوا يمثلون الشعب الفلسطيني، بل يمثلون مصالحهم فقط. طي الصفحة يعني إذن اختيار قادة فلسطينيين جددا، يكون هدفهم الوحيد هي وحدة الصف الفلسطيني كشرط لوحدة النضال والمقاومة المسلحة. سيكتب الفلسطينيون "صفحة القرن" ويقلبون الطاولة على من يحاول بكل الوسائل اسعبادهم وفرض نظام أبرتهايد عليهم.

2020-01-30