السبت 11/10/1445 هـ الموافق 20/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الساعات الأخيرة من حياة الأسرة المالكة في العراق بغداد عشية الثورة ( 2 ) ...تميم منصور

أشرق الصباح على بغداد في ذلك اليوم المصيري من تاريخ العراق الحديث، وقد صادف يوم الأثنين من الأسبوع الرابع عشر من تموز ، كانت السماء لا تزال مثقلة بطبقة من الغلالة البيضاء التي تبشر بالحر الشديد ، ونهض الخدم في قصر الرحاب حيث يقيم الملك وأسرته كعادتهم باكراً جداً ، وكانوا يستعدون لسفر الملك بعد قليل، وكانت الملكة نفيسة – وهي تركية الأصل – قد قضت الليلة في حالة أرق ، فأيقظت مع خيوط الفجر الأولى ابنتها الأميرة عابدية ، ثم انضمت اليها الأميرة هيام وعند الساعة الخامسة والدقيقة العاشرة صباحاً سمع من في القصر دوي طلقات قادمة من بعيد ، فخرج رجال الحرس الملكي من الحديقة والمرآب نحو الباب الرئيسي يبحثون عن مصدرها، ظن الجميع أنها آتية ً من جهة معسكر الوشاش ، أحد مراكز تدريب الجيش الذي يبعد بضع مئات من الأمتار فقط عن القصر ، والحقيقة أنها آتية من جهة بيت نوري السعيد الذي تمت مهاجمته من قبل عناصر قوات الثورة .

ساد هدوء مشوب بالقلق داخل القصر وفي محيطه ، لكن ما لبث أزيز الرصاص أن تجدد واشتد ، وكانت الساعة قد بلغت الخامسة والثلث صباحاً ، فخرج الملك فيصل الثاني من غرفته وقد ارتدى ملابسه ، ووجد الملكة نفيسة زوجة الملك علي بن الشريف حسين ووالدة الوصي على العرش عبد الاله ، الحاكم الفعلي للعراق في ذلك الوقت ، ومما هو جدير بالذكر أن علي بن الحسين هو أحد أبناء الشريف حسين بن علي ، وهم عبد الله الذي أصبح ملكاً على شرقي الأردن ، فيصل ملك العراق الأول ، علي وزيد ، أما الأميرة عابدية فكانت أكبر بنات الملك علي ولم تكن متزوجة ، والاميرة هيام كانت عقيلة الأمير عبد الاله الذي كان وصياً على العرش سنوات طويلة.

وقف الجميع في بهو القصر على مقربة من الشرفة يراقبون التطورات، سأل الملك فيصل أحد الحراس : ايش فيه ؟؟؟ !! أجاب الحرس بأنهم يبحثون عن مصدر اطلاق النار ، وهنا خرج الامير عبد الاله من غرفته وكان لا يزال يرتدي ملابس النوم وقال: روحوا شوفو ؟!  وقبل أن يعرف رجال القصر حقيقة ما يحدث ، أخذ الرصاص ينهال من الخارج باتجاه القصر على غير هدى ، وكان بعض رجال الحرس يردون بطلقات متقطعة ، وفي البهو وقف الملك فيصل والأمير عبد الاله يتبادلان الرأي وحولهما الملكة نفيسة والأميرة عابدية والأميرة هيام ، ووقف على مقربة منهم خدم القصر المقربون .

قال عبد الاله : أعتقد أن هذه الحركة من الجيش ضدنا وكنت انتظرها  !! ولاحظ الأمير عبد الاله ان الخدم يصغون اليهم ، فأخذ يتكلم باللغة التركية ، ولوحظت الملكة نفيسة تشد بكتف نجلها عبد الاله ، والأميرة عابدية تطوق الملك فيصل بيديها ، وما لبث الأمير عبد الاله أن تركهم واتجه صوب غرفته وهو يقول بالعربية " اذا كانوا يريدون احنا ما نبقى " .

اقترح مرافق الملك العسكري وأحد ضباط الحرس الملكي التصدي للمهاجمين بقوة بواسطة لواء الحرس الملكي ، لكن عبد الاله رفض استخدام القوة ضد المهاجمين ، لأنه كان على ثقة بأنه لم يتم الاعتداء عليه ، ودار الحديث بينهم حول إمكانية الهرب من القصر ما دامت الطرق حوله لا تزال مفتوحة من الجهتين ، وطرح اقتراح بتهريب الملك فيصل على الأقل، لكن عبد الاله كان يردد ( ما كو لزوم ما راحوا يقتلونا .. واحنا نروح ونتركهم ) .

دخل الملك والأمير الى الصالون الكبير في الطابق الداخلي وهو المكان الذي اعتاد فيه الأمير استقبال زائريه ، وجلس الملك على المقعد العريض في صدر الصالون بينما بقي الأمير عبد الاله يمشي فيه ويدخن بشراهة ، ولا شك أن عبد الاله كان قد فكر في تلك اللحظة تفكيراً عميقاً ، تذكر من خلاله الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب العراقي ، كما تذكر أحاديث طويلة جرت معه في الماضي داخل هذا الصالون، ولعله تذكر يوماً كان قد فتح فيه صدره لأحد الزائرين وقال حرفياً : أنا أعرف أنه اذا بقيت الأمور على هذا الحال فسيدخلون علينا الى هنا ويقتلوننا ها هنا .

فقال له محدثه : اذن ماذا تنتظرون كي تعدلوا هذه الأمور ؟ أجاب بنبرته المأثورة : ان أيدينا مغلولة بسبب تدخل الإنكليز ، وبسبب قلة الرجال الداعمين لنا بزحمة الحوادث ، فقال له محدثه : ولماذا لا تفسحون المجال أمام الجيل الجديد ..؟ لماذا لا تأتون بوجوه جديدة ؟ لماذا لا تستعينون بالشباب ؟ فأجاب : صحيح لكن هذا الشأن يعود الى فيصل يوم يكبر .

حتى اللحظة الأخيرة آمن عبد الاله أن الثوار سوف يسمحون للعائلة بمغادرة العراق، كما فعل الضباط الأحرار في مصر مع الملك فاروق ، وظن أن المقاومة سوف تستفز المهاجمين ففضل المسالمة ، أما فيصل فلم يكن له رأي بوجود خاله عبد الاله الى جانبه .

وسط هذه الأجواء الخطيرة كانت الساعة قد قاربت السادسة صباحاً وقد اشتد اطلاق النار ، فجأة شوهد العقيد طه البامري ، قائد فوج الحرس الملكي يدخل الى باحة القصر بسيارة مصفحة ، قادماً من مقره في قصر الزهور ، توقف مع مصفحته امام الباب الداخلي ، وما أن رآه الجنود الواقفون على الباب حتى صاحوا به أين الجند ؟ أين الحرس ، فأجاب أريد أشوف الملك والأمير أولاً .

دخل البامري عليهما وهما في الصالون الكبير ، ومعهما مرافقان ، وبدأ قائد الحرس الملكي حديثه قائلاً : لما شاهدنا الحركة ارسلنا أحد ضباط الحرس نحو الجنود فأخذوه إلى رئيسهم ، وهو ضابط صغير يدعى عبد الجواد حميد ، فقال هذا الضابط : ان الثورة قد قامت ، ومطلوب من العائلة المالكة أن تسلم نفسها له ، وقد علمنا يا سيدي انهم شكلوا جمهورية من عندهم ، ولكن قوتهم ضعيفة ، ونحن بانتظار اوامركم كي نقاتلهم .

لقد كان لواء الحرس الملكي من أكثر الوية الجيش العراقي قوة ، وقدر عدد جنوده ثلاثة الآلاف جندي ، مدربين أحسن تدريب ، مجهزين بأحدث وأقوى الأسلحة ، وكان يرابط داخل ثكناته في قصر الزهور ، ولا شك أنه لو تدخل الحرس ضد الثوار لتبدل مجرى الحوادث ، وبقي قائد الحرس الملكي العقيد البامري واقفاً ينتظر الأوامر ، بينما كان عبد الاله والملك يتهامسان ، فالتفت الملك الى البامري وقال له : ماكو لزوم للقتال .. ما نريد الجنود يقتلون بعضهم البعض من أجلنا ، وما نريد ان يقال بأننا سببنا حرباً أهلية بين العراقيين .

يتبع

2020-02-04