- الشعر ديوان العرب..
- ....................
حتى نتعرف على الالتزام والموضوعية في الإعلام، ينبغي قراءة سياق الإعلام ككلام في الأساس، وكخطاب ووسيلة، ثم الاطلاع على ما هو ضدها عبر ممارسات طويلة، وصولا إلى إرساء لغة خطاب، ومن ثم لغة إعلامية موضوعية مغايرة لما هو سائد.
لا بد من قراءة الناحية الأدبية، التحريضية والساخرة بشكل خاص، ضمن سياقها التاريخي، بالارتكاز على صورها الأدبية، قبل الإسلام في الهجاء، وفي صدر الإسلام، والعصور اللاحقة، وتجلياتها في التوظيف في ظاهرة الشعر السياسي، وصولا إلى الحالة الراهنة، حيث ما زال الإعلام مطبوعا بتراكمات تاريخية ثقافية جاءت من تراث المسلمين والعرب كبشر، أو من تفسيراتهم للنصوص الدينية واستخدامها لخدمة توجهاتهم وتحالفاتهم ومصالحهم، أكثر من كونها قادمة من الإسلام نفسه كدين وثقافة ومنهاج حياة، يقوم على التسامح والموضوعية والحوار البناء والدعوة بالتي هي أحسن.
إن تحليل النصوص والخطاب، لا يمكن أن يتم بشكل كامل ما لم نتذكر دوما ما كان، حيث بالنسبة لنا كعرب، يمثل التراث الكلامي اللغوي والأدبي بما يحمل من إيجابيات وسلبيات ركنا مهما، يصعب الفكاك منه، حيث يتعرض الطفل والطالب في التعليم العام والجامعي والعالي، للغة خطاب ما زالت تقع أسيرة للغة التراث، وليست أي لغة تراث، بل لغة تراث معين ازدهرت في عصر الانحطاط أكثر كثيرا من عصور التحضر العربي الإسلامي. هذا في مجال التعليم، وبالطبع فإن مجال الإعلام كما نرى يوميا، فإنه هو الآخر لم يتخلص من سلبيات ذلك الأسلوب الذي ما زال يطبعه بذلك الطابع.
أحد تجليات فهم الكلام غير الوسطي هو شعر الهجاء والنقائض والشتم والاتهام..
فلم يمر كبير وقت على اكتشاف الشعر، (من 100-150 سنة قبل الإسلام) حتى غرض شعري هام ومميز وله موقع الصدارة في الشعر العربي، ألا وهو شعر الهجاء، حيث دلتنا النصوص الشعرية الأولى في العصر الجاهلي على وجوده، ورسوخه أيضا، واستخدامه في الحياة بين القبائل والأفراد، ولما كان الشاعر في ذلك الوقت يعدّ ناطقا إعلاميا باسم قبيلته، فقد ازدهر هذا الغرض، خصوصا في استخدامه كلغة تحريض وحرب كلامية بين المتنازعين.
فإذا اجتهد النقاد والمفكرون في البحث عن سبب ظهور ظاهرة الشعر، وكيف تكون، ولهم في ذلك منطلقاتهم، وفروضهم وتفسيراتهم، فإننا قد لا نتعب مثلهم في تفسير ظهور شعر الهجاء، حيث إنه انطلق ليلبي حاجة كانت في المجتمع، وليلبي أكثر ويحاكي أسلوب التخاطب في المجتمع، وعلاقاته الاجتماعية والسياسية، وعاداته وتقاليده وقيمه..
فلا بدّ أن الشاعر استخدم فن الشعر الذي تم ابتكاره ليوظفه في نزاعاته، كما وظفه في المدح والنسيب وغيره من الأغراض الشعرية.
أي الأصل هو ما كان عليه المجتمع من فكر وأسلوب حياة.
نحن العرب، أهل لغة، والشعر هو ديواننا الأول، لكنه بالطبع ليس الأخير، فقد كان هناك النثر والأمثال والخطابة وسجع الكهان...
وحين اتصلنا بالعالم، وحين تقدما كما يتقدم الآخرون دخلت حياتنا أشكال أخرى من أشكال الكلام..
فعندما نتأمل فقط دارسي الأدب العربي والشعر العربي القدماء أمثال المذكورين فقط، فإننا نخلص إلى نتيجة هامة، وهي أن غرض شعر الهجاء استخدم بشكل واضح، حتى غدا كظاهرة ترصد وتحلل وتوضع لها القواعد والفروض والتذوق والنقد.
وعند الاطلاع على عصر صدر الإسلام، نجد أن الشعر العربي استمر بشكل عادي وطبيعي، فلم تنه عنه الرسالة الجديدة، كما لم تنتقد أسلوبه، حتى ذلك الأسلوب التقليدي الذي يبدأ بالوقوف على الطلل والتغزل بالحبيب. وكما تم استخدامه في النزاعات القبلية مثلا قبل الإسلام، فقد استخدمه الفريقان بعد الإسلام، كسجال ثقافي وسياسي في آن وواحد، وبالطبع يدخل الدين هنا في مجال الثقافة.
لقد كان كلا الفريقين، شعراء قريش على دينها القديم، وشعراء القريشين والمدينيين (المدينة المنورة) على دينهم الجديد هم أصلا جميعا مخرجات لنظام أدبي واحد، نظام شعري وتراث متراكم له ما يقرب القرنين من الزمان، فلم يطيلوا النظر في البحث عن أشكال لاستخدامها في النزاع، بل عمدوا إلى أسلوب وشكل جربوه هم أنفسهم، من قبل، فانطلقوا يستخدمونه كما كانوا، ولكن بتغيير قليل لدى الشعراء من الدين الجديد، وقد كانوا يضطرون إلى سلاطة اللسان حين يهاجموا بسباب الآخرين..
أي أن الجدد، من المسلمين، لم يستطيعوا الفكاك من أسر التراث، تماما كما لم يبحث مجايليهم من شعراء قريش عن شكل شعري آخر للحروب الكلامية.
صحيح أن بدايات الشعر السياسي ظهرت بشكل محدود في عصر صدر الإسلام، لكنها ازدهرت بعده، أي في العصر الأموي، حيث تطور فن الهجاء إلى ما اصطلح عليه بالشعر السياسي، بتأثير عامل مسألة الخلافة، فكان هناك شعراء الزبيريين وشعراء الخوارج، ثم شعراء الشيعة..
وهنا أيضا لم يطيل الشعراء العرب النظر في البحث عن الوسيلة التي ستوظف في هذا النزاع السياسي، كما تم توظيفها في النزاع الديني..
لقد تم الرجوع إلى الشكل الشعري السائد والراسخ (3 قرون) وتم فقط تضمين المفاهيم السياسية الجديدة، ضمن لغة تراثية عربية لا تبعد كثيرا عن أسلوب القدماء، فكان الشعر السياسي هو شعر هجاء سياسي سمي تأدبا بالشعر السياسي.
وقد أصبح الجمهور يتابع الشعر السياسي ويتشوق للردود، بل يتأثر بها ويرويها فيزيدها انتشارا، وأصبح هناك شعراء احترفوا هذا اللون، تماما كما يحترف الإعلاميون والساسة حرفة الناطق الرسمي.
وارتبط بشعر الهجاء تلاسنات الشعراء، التي تطورت من الهجاء إلى ما سمي بالنقائض كنقائض جرير والفرزدق والأخطل، والتي تسلى عليها العامة والخاصة، والتي كان الجمهور يتحول من شاعر إلى آخر، حيث غدا التخصص في الذم حرفة..
ويلاحظ على هؤلاء المسلمين أنهم استخدموا السباب والشتم غير واضعين لأنفسهم خطوط حمراء..وظل الأمر كذلك، ورغم ازدهار الحضارة العربية في عصر العباسيين مثلا، إلا أن شعر الهجاء ظل حاضرا..
ومع تطور الثقافة والعلوم والآداب، وخفة عامل الأحزاب والفرق الدينية، وسيطرة غير العرب على الدولة حدث تغير ثقافي في الدولة، كان إيجابيا من حيث الاندفاع نحو العلم والأدب والتأليف، فكان من الطبيعي أن تخف بعض الأغراض الشعرية ومنها الهجاء، وبالطبع لم تختف..
ظهر الإعلام في بلادنا بعد حوالي قرنين من وجوده في أوروبا، أي أنه ما زال حديثا بالنسبة لنا..
في مرحلة ما بعد الاستعمار، ومع نشوب الأحزاب القومية واليسارية والإسلامية، ومع وصول جزء منها إلى الحكم في الحواضر العربية الرئيسة كمراكز، في سوريا ومصر والعراق واليمن، وظهرت نظم حكم جديدة قامت على أنقاض نظم ملكية، وظلت نظم أخرى قديمة، فكان أن شهدت وسائل الإعلام العربية على اختلاف ألوانها، حروبا كلامية، استمرت حتى الآن.
صحيح أن الإعلاميين لم يكونوا شعراء هجاء تقليديين، لكنهم إنما أقاموا خطابهم الجديد بالاتكاء على هذا الإرث، الذي لم يستطيعوا الفكاك منه، فكان أن ازدهر الاستقطاب الإعلامي داخل الوطن العربي بل وفي خارجه، حين ظهرت وسائل إعلامية عربية في أوروبا تتشاجر هناك، بعد أن لم تنته من المشاجرة هنا على الملعب العربي..
وكلنا يذكر كيف كانت النظم تنشئ إذاعات لمعارضة في بلد آخر، لا يقوم إعلامها إلا على السب والاتهام...
فلم يكن الإعلام العربي في عهود الحروب الكلامية مفيدا، بل مزق الأمة وخلق النعرات وأشاع الفتن، وأدخل المواطن العربي في معركة ليست معركته أبدا!
لن يكون كلامي اكتشافا إذا قلت إن النموذج السلبي الذي كان قبل 16 قرنا عاد لكن بثوب يمثل الحداثة، لكن في جوهره كان خطابا تراثيا هجائيا، لا ينتصر للحق إلا إذا حقق مصلحة، وليس هذا فحسب، بل صرف هؤلاء المتعاركون اهتمام الشعب الفلسطيني عن القضايا المصيرية، حتى أن المتعاركين إعلاميا من مثلا كانوا يبالغون في الهجوم والهجاء كأنهم لن يجلسوا إلى طاولة قريبا!
من الضروري دمقرطة الإعلام ليكون أداة بناء للمجتمع، ويمكن أن يتم ذلك عبر التربية والتعليم والمناهج بشكل خاص، كذلك من خلال وسائل الإعلام نفسها عبر تقديم نماذج إيجابية.
ما نحتاجه هو القليل من القيم المهنية والأخلاقية، ليكن الحد الأدنى، لتكون وسائل الإعلام تعبر عن مصالح الشعب هنا والأمة بشكل عام، بعيدا عن التناقضات الآنية والمصالح الضيقة والولاءات الهشة!
لا أريد أن أحمّل العربي فوق طاقته اللغوية، فأطلب منه التحرر من تراث 16 قرنا من الكلام، والشعر والهجاء..لكن على الأقل أطمح إلى تخفيف ذلك إلى الحد المقبول، حتى لا نجد شاعرا-إعلاميا يقول:
وأحيانا على بكر أخينا إذا لم نجد إلا أخانا!