نشر موقع ” Oilprice” الأمريكي، تقريراً تساءل فيه عن فقدان الذاكرة الذي أصاب المسؤولين السعوديين، مذكراً إياهم بآخر محاولة لمحاربة النفط الصخري والتي كادت أن تؤدي إلى إفلاس السعودية بسبب انخفاض أسعار النفط.
وأشار الموقع الأمريكي إلى أن هذه المحاولة لم تكن قبل فترة طويلة، بل قبل أقل من أربع سنوات.
سيناريو إفلاس السعودية بسبب انخفاض أسعار النفط كاد يحدث قبل سنوات
يقول الموقع “يبدو أن فقدان الذاكرة الجماعي قد تمّلك كبار المسؤولين في السعودية وغيرها من الدول الأعضاء في منظمة أوبك على حد سواء فيما يتعلق بحجم الكارثة التي وقعت في آخر محاولة قادتها السعودية لتدمير صناعة النفط الصخري الأمريكية في الفترة ما بين 2014 إلى 2016.
إذ على الرغم من أن العواقب كانت مروعة خلال تلك المرة الأخيرة، سواءً على السعودية أو على حلفائها الذين باتوا الآن أشد فقراً، فإن المرجح أن تكون الأمور هذه المرة أسوأ بكثير.
في ذلك الوقت كانت القدرة التنافسية للنفطين الصخري والروسي أقل منها الآن
في المرة الأخيرة التي جرب فيها السعوديون هذه الاستراتيجية ذاتها في عام 2014، كان لديهم فرصة أكبر للنجاح عما هو عليه الحال الآن. إذ في ذلك الوقت، كان المفترض على نطاق واسع أن منتجي النفط الصخري الأمريكي لا يمكنهم إنتاج النفط على أساس مستدام بسعر يقل حده الأدنى عن نحو 70 دولاراً أمريكياً للبرميل.
كما أن السعودية آنذاك كان لديها احتياطيات عالية من الأصول الأجنبية بلغت 737 مليار دولار في أغسطس/آب 2014 (أصبحت أدنى من 500 مليار دولار في نهاية عام 2019).
أتاحت لها هذه الظروف في ذلك الوقت مجالاً حقيقياً للمناورة، من حيث إمكانية الحفاظ على الارتباط المتوازن بين عملتها الريال والدولار الأمريكي وتغطية العجز الضخم في الميزانية والذي قد ينجم عن انخفاض أسعار النفط من جراء الإفراط في الإنتاج. بالإضافة إلى ذلك، كانت روسيا في تلك المرحلة مجرد مراقب مهتم على الخطوط الجانبية.
كانت السعودية واثقة بخطتها لدرجة أنه في أكتوبر/تشرين الأول 2014، خلال اجتماعات خاصة في نيويورك بين مسؤولين سعوديين وشخصيات بارزة أخرى في صناعة النفط العالمية، كشف السعوديون عن أن المملكة كانت على استعداد لتحمل انخفاض أسعار خام برنت إلى “ما بين 80-90 دولاراً للبرميل لمدة تتراوح من عام إلى عامين”.
كان هذا تحولاً بمقدار 180 درجة عن التصور السابق لدى أعضاء أوبك الآخرين بأن السعودية هي بطلهم وممثلهم الذي يبذل قصارى جهده للحفاظ على أسعار النفط مرتفعة من أجل تعزيز ازدهار الدول الأعضاء في أوبك.
لماذا خفضت السعودية أسعار النفط آنذاك؟
لكن ما حدث هو أن السعودية جعلت من الوضوح بمكان في اجتماع نيويورك أن لديها هدفين بارزين من مواصلتها استراتيجيتها بزيادة الإنتاج وتحطيم أسعار النفط إلى مستوياتها الدنيا. كان أول هذين الهدفين تدمير (أو على الأقل إبطاء التقدم) في صناعة النفط الصخري المتنامية في الولايات المتحدة، والهدف الثاني هو الضغط على أعضاء أوبك الآخرين للإسهام في انضباط الإمدادات النفطية.
وقد انطوى ذلك على اختلاف بارز عن النطاق المقبول للأسعار الذي كان قد صرّح به وزير النفط السعودي آنذاك، علي النعيمي، على أنه بين: “100 دولار أمريكي، و110 دولارات أمريكي، و95 دولاراً أمريكياً” للبرميل.
في غضون بضعة أشهر فقط من الشروع في الاستراتيجية الرامية إلى تدمير صناعة النفط الصخري تلك، أصبح من الواضح للغاية للسعوديين أنهم ارتكبوا خطأً فادحاً في تقليلهم من قدرة قطاع الزيوت الصخرية الأمريكي على إعادة تنظيم نفسه في عملية أكثر إحكاماً مما كانوا يعتقدون أنه ممكن.
كيف هزم النفط الصخري السعوديين؟
واتضح أن عديداً من أبرز الشركات العاملة في المناطق المثلى، مثل حوض “برميان”، ليس فقط بإمكانهم بلوغ نقطة التعادل [بين التكاليف والإيرادات] عند سعر يصل إلى ما فوق 30 دولاراً للبرميل من خام برنت، وإنما أيضاً تحقيق أرباح لائقة عند نقاط أعلى من 35-37 دولاراً أمريكياً لكل برميل. وتمكنت الشركات الأمريكية العاملة بقطاع الزيوت الصخرية، في إنجاز يعود معظمه إلى التقدم التكنولوجي، من الحفر إلى نطاقات جانبية أطول في مدد قصيرة، وإدارة مراحل إحداث الشقوق عن قرب والحفاظ على الشقوق مفتوحة بواسطة حبيبات رملية أكثر تجانساً وكروية.
سمح ذلك بمزيد من التماسك للآبار المحفورة، بالتزامن مع أوقات حفر أسرع. كما بدأوا في تحقيق فوائد التكلفة من الحفر متعدد الطبقات وتوصلوا إلى التباعد الأمثل بينها لتطوير فعالٍ في أعمال الحفر، وهو ما سمح لهم أيضاً بتقليل التكاليف.
والأمر الحاسم هو أن الصعود العنيد لقطاع الزيوت الصخرية في الولايات المتحدة سمح لواشنطن بتقليل اعتمادها على إمدادات الطاقة القادمة من السعودية، وتوسيع نطاق نفوذها الجيوسياسي أكثر فأكثر، من خلال تحولها هي ذاتها إلى المنتج الأول للنفط في العالم.
والنتيجة السعودية وأعضاء أوبك خسروا نصف تريليون دولار.. ومسؤول بارز حذر من الإفلاس
بالنظر إلى تلك التطورات، والتي جرت خلال عامين فحسب (2014-2016) من انتهاج السعودية هذه الاستراتيجية، خسرت الدول الأعضاء في أوبك 450 مليار دولار أمريكي من عائدات النفط في ظل أسعاره المنخفضة، وفقاً لبيانات وكالة الطاقة الدولية.
وما زال السعوديون يحاولون حتى الآن معالجة الثغرات التي حلّت باحتياطياتهم من العملات الأجنبية، والميزانيات المستحقة في ظل تخفيضهم أسعار النفط من أكثر من 100 دولار أمريكي للبرميل إلى أقل من 30 دولاراً أمريكياً للبرميل.
علاوة على ذلك، انتقلت السعودية ذاتها من فائض عام في الميزانية إلى عجز قياسي مرتفع آنذاك في عام 2015، حيث بلغ 98 مليار دولار أمريكي، وأنفقت ما لا يقل عن 250 مليار دولار أمريكي من احتياطياتها من العملات الأجنبية خلال تلك الفترة، وبلغ الأمر أن قال مسؤولون سعوديون كبار آنذاك إن هذه الأموال ضاعت إلى الأبد.
وحتى قبل أن تشن السعودية حربها الجديدة حول أسعار النفط، كانت معظم التوقعات تذهب بالفعل إلى أن المملكة ستواجه عجزاً كبيراً في الميزانية حتى عام 2028 على الأرجح، مع بلوغ سعر التعادل لبرميل خام برنت هذا العام 84 دولاراً أمريكياً (نعم، كما تقرأ، 84 دولاراً أمريكياً!).
بلغ الوضع الاقتصادي والسياسي السعودي قاعاً من السوء في عام 2016، لدرجة أن نائب وزير الاقتصاد السعودي محمد التويجري قال بوضوح، وفي انتقاد لم يُعهد من قبل على وزير سعودي لسياسات حكومته، في أكتوبر/تشرين الأول 2016، قائلاً: “إذا نحن [السعوديون] لم نتخذ أي إجراءات إصلاحية، وظل الاقتصاد العالمي على حاله، فإننا محكوم علينا بالإفلاس في غضون ثلاث إلى أربع سنوات”.
والآن الوضع أسوأ
يعني هذا أنه إذا استمرت السعودية في الإفراط في الإنتاج لدفع أسعار النفط إلى الانخفاض –كما تفعل الآن، مرة أخرى-، فإنها ستُفلس في غضون ثلاث إلى أربع سنوات (وفقاً للقياس على كلام المسؤول السعودي).
ومع ذلك، يبدو المدى الزمني القائل بثلاث إلى أربع سنوات متفائلاً الآن إلى حد كبير، إذ يجب أن نتذكر أنه في عام 2016، لم يكن السعوديون يتوقعون أن يستمر قطاع النفط الصخري الأمريكي في النمو من جهة قدرته الإنتاجية، أو أن سعر التعادل في التنافس مع النفط الروسي سيكون منخفضاً إلى 40 دولاراً للبرميل.
وهو ما يعني من الناحية العملية البحتة، أن الولايات المتحدة وروسيا يمكنهما بلا شك تحمل فترة أطول بكثير من السعودية عند أسعار نفط تبلغ 40 دولاراً أمريكياً أو أقل للبرميل، وبصرف النظر عن المستوى المطلق لأسعار النفط، تعتمد كلتاهما على طرق رئيسة أخرى أوسع نطاقاً للاستفادة على أي نحو.
وترامب يوظف الأمر لصالحه بالانتخابات، كما سينقذ شركات النفط الصخري
أما الولايات المتحدة فستجني فوائد اقتصادية تترتب عليها فوائد سياسية كبرى كذلك، خاصة في عام سيشهد آثاراً اقتصادية سلبية بسبب فيروس كورونا.
ومن القواعد البديهية، يُقدَّر أنه مع كل تغيير بقيمة 10 دولارات أمريكية للبرميل الواحد في سعر النفط الخام ينتج عنه تغيير بنسبة تتراوح بين 25 و30% في سعر غالون البنزين، ومع كل انخفاض في سعر غالون البنزين بقيمة سنت واحد في السعر المتوسط، يتحرر أكثر من مليار دولار أمريكي سنوياً في الإنفاق الاستهلاكي الإضافي. ولهذا، على الصعيد السياسي، تبعات هائلة على رئيس حالي يسعى للفوز بفترة ثانية في الولايات المتحدة، مثل دونالد ترامب.
ووفقاً لإحصاءات المكتب القومي للأبحاث الاقتصادية NBER، منذ الحرب العالمية الأولى، فاز 11 رئيساً أمريكياً بفترة ثانية في المرات الـ11 التي لم يكن الاقتصاد الأمريكي فيها يمر بحالة ركود في فترة الـ24 شهراً التي تسبق الانتخابات.
ومع ذلك، فاز رئيس واحد فقط من أصل سبعة ترشحوا لفترة ثانية والاقتصاد في حالة ركود (وهو كالفين كوليدج عام 1924). إن فكرة أن أي رئيس أمريكي سيسمح بإلحاق ضرر كبير بقطاع الصخر الزيتي ذي الأهمية الجيوسياسية الكبرى بأي شكل من الأشكال هي فكرة ساذجة على أفضل تقدير، إذ صرح الرئيس ترامب خلال الأيام القليلة الماضية بأنه تجري دراسة مجموعة كبيرة من الإجراءات الجديدة لدعم هذا القطاع.
وقد تشمل هذه الإجراءات أيضاً استراتيجية المكسب المضاعف المتمثلة في استخدام النفط منخفض السعر الذي تم شراؤه من منتجي النفط الصخري لتعزيز احتياطي البترول الاستراتيجي للولايات المتحدة.
وبوتين سعيد بتورط بن سلمان في مشكلات مع الجميع
وفي الوقت نفسه، بالنسبة لروسيا، التي كانت استراتيجيتها الأساسية في السياسة الخارجية في عهد الرئيس بوتين هي “خلق الفوضى ثم تقديم الحلول الروسية وبالتالي اكتساب القوة في خضم تلك الفوضى” كانت حرب أسعار النفط التي تشنها السعودية مناسبة تماماً. أولاً، إذا عادت أسعار النفط لتستقر عند حوالي 40 دولاراً أمريكياً للبرميل لخام برنت عندما يعود الطلب الصيني إلى مستواه نهاية هذا الشهر، فروسيا على ما يرام من ناحية الميزانية وبإمكان شركاتها النفطية إنتاج ما تريده من النفط.
وحتى إذا لم يجرِ تداوله بهذه المستويات، فلا تزال روسيا مستفيدة من حقيقة أن السعودية أعلنت مرتين في فترة لا تتعدى العشر سنوات الحرب الاقتصادية على حليفتها الحقيقية الوحيدة في العالم، الولايات المتحدة.
ولأن روسيا تتمتع بالفعل بمكانة قوية في جميع الدول الرئيسية في هلال القوة الشيعية في الشرق الأوسط -لبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن (عبر إيران)- فقد واصلت عملها في الدول المتاخمة لهذا الهلال حيث لديها بالفعل موطئ قدم بشكل مباشر أو غير مباشر. ومن هذه الدول أذربيجان (75% شيعة، وعضو سابق في الاتحاد السوفيتي) وتركيا (الغاضبة لعدم قبولها بشكل كامل في الاتحاد الأوروبي)، لكن البعض الآخر من هذه الدول لا تزال أهدافاً طويلة المدى، مثل البحرين (75% شيعة)، وباكستان (25% شيعة وموطن عدويّ الولايات المتحدة اللدودين القاعدة وطالبان).
ويأتي كل هذا في وقت يواجه فيه الحاكم الفعلي للسعودية -ولي العهد محمد بن سلمان- أخطر أزمة تواجه سلطته. وبرزت هذه الأزمة قبل بضعة أيام فقط عندما وردت تقارير تفيد بأن بن سلمان أمر بحملة أخرى لاعتقال خصومه البارزين (كانت الحملة الكبرى الأولى نهاية عام 2017 في ريتز كارلتون). وشملت هذه الحملة الأمير أحمد بن عبدالعزيز، الأخ الأصغر للملك سلمان، والأمير محمد بن نايف، ابن شقيق الملك وولي العهد السابق.
ووفقاً لتقارير عدة، يعاني الملك الحالي سلمان، البالغ من العمر 84 عاماً، تدهوراً في صحته؛ وهو ما أدى إلى صراع بين كبار أعضاء العائلة المالكة السعودية على خلافته.
ومن الضروري أن نتذكر أن محمد بن سلمان لم يكن دائماً الوريث الطبيعي للملك الحالي: قبل يونيو/حزيران عام 2017 عندما تغير خط الخلافة لصالح محمد بن سلمان، كان الوريث المُعيَّن هو الأمير محمد بن نايف الذي اعتُقل مؤخراً، في حين كان الأمير أحمد، الذي اعتُقل مؤخراً أيضاً، أحد الأعضاء الثلاثة الذين يشكلون هيئة البيعة السعودية (الهيئة الملكية العليا التي تصدّق على خط الخلافة)، لمعارضته تعيين محمد بن سلمان ولياً للعهد بدلاً من ابن عمه محمد بن نايف عام 2017. لكن السبب الدقيق وراء تفكير محمد بن سلمان فيما قد يؤدي إلى تعرُّض بلاده للإفلاس، وإنفاق ما تبقى من احتياطيات الأصول الأجنبية المتناقصة، وإبعاد حليفها الحيوي الوحيد في العالم هو لغز.
ولكن مهما كان السبب، ستسعد كل من الولايات المتحدة وروسيا كثيراً بالاكتفاء بالمشاهدة، لتريا بالضبط كيف سينتهي الأمر بمحمد بن سلمان.