الثلاثاء 11/10/1444 هـ الموافق 02/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
دور المثقف في المجتمع...د. روزلاند كريم دعيم

أما قبل،

يعيش العالم في هذه الأيام فترة عصيبة ناتجة عن تفشي وباء كورونا (كوفيد 19)، الذي أدى بشكل حتمي إلى الحجر المنزلي وحظر السفر، وهذا ما لم نعتده في حياتنا خاصة في عصر العولمة.

وحين أتابع حركة أبناء مجتمعي أرى بعضهم لزم بيته؛ سواء كان من منطلق المسؤولية الجمعية تجاه المحيط، أو من منطلق القلق من الوباء. وفي كلتا الحالتين النتيجة هي المساهمة في الحد من انتشاره.

في المقابل، أرى البعض الآخر يضرب عرض الحائط بتعليمات لزوم البيت متجاهلا أسس السلامة العامة والمسؤولية الجمعية، ليستحضرني ما كتبته قبل بضع سنوات عن المثقف ودوره في المجتمع، من منطلق إيماني العميق بمجتمعي ووعيه ومسؤوليته العامة والخاصة.

وبعد،

سأحاول أن أسلط الضوء على دور المثقف في المجتمع من خلال رؤيتي الخاصة وتجربتي التراكمية كباحثة أكاديمية، وناشطة اجتماعية ومربية. وسوف أنثر أفكاري على شكل تساؤلات وبرقيات مترابطة أو غير مترابطة. متناسقة من حديقة واحدة ومجتمعة من كل بستان زهرة لتشكل كل فكرة منها نواة لعمل تثقيفي يصبو إلى التغيير المجتمعي.

 فإذًا،

[1] مداخلة تم تقديمها في نادي طرعان الثقافي، طرعان - الجليل، 21.12.2013. 

هل المثقف هو من حصد سنوات وسنوات من التعليم؟ هل هو من وسع آفاقه واطلع على ثقافة شعبه وثقافات الشعوب؟ هل هو المثقف من يعرّف نفسه مثقفًا؟

بحسب هذا التفصيل يبدو أن مجتمعنا لا يفتقر إلى المثقفين، أو على الأقل إلى الذين يمتلكون مقومات الثقافة الأساسية. ولكن ما الذي يقوم به هؤلاء المثقفون لترجمة هذه الثقافة في المجتمع؟ ما هي الرسالة التي يحملها المثقف وإلى أي مدى لديه الاستعداد للتحدّي لتغيير الواقع المفروض؟ هل يكتفي بالموجود أم يبحث عن الفجوات ويعمل على سدّها، يحمل رسالته ويعبر عنها بنظرة أو بإيماءة أو بكلمة، أو بابتسامة؟

ويكون ذلك، بحسب رأيي، كما فعل المعلمون الأوائل: الفلاسفة والأنبياء والقديسون – أكبر المثقِفين وأعظمِهم، الذين أمدونا بالأخلاقيات ... بدءًا من أفلاطون مؤسس مصطلح الإتيكا... وترجمة الأخلاقيات والقيم من خلال وصايا الله العشر في العهد القديم التي تحتوي على تعليمات واضحة في الأخلاق... تلك الأخلاق التي تحافظ على توازن المجتمع.

ويأتي بعد ذلك صاحب المجد السيد المسيح ليكون صاحب النظرية الأولى في علم الاجتماع، فقد درس السيد المسيح الأرض وبحث عن مواطن الضعف والجفاف وعرف أين هي مواقع الخصب ليكوّن بعدها فريق العمل الذي أوكل له نشر رسالة المحبة والتغيير الاجتماعي من خلال تحدّ كبير...  

ولعل قصة الرسول الكريم (ص) مع الحجر الأسود خير مثال على تطوّر مفهوم العمل الاجتماعي وإرساء الأسس لمفهوم الصلح والإصلاح حتى التشبيك بين الأطراف.

ويتطور مفهوم المثقف ليصل جميع مجالات الحياة؛ وهنا يستحضرني سؤال المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905 – 1973) الذي ناقش قضية ثبات المجتمعات وبقائها وولادتها أو موتها، من خلال كتبه العديدة وأهمها في هذا السياق: شروط النهضة، مشكلة الثقافة وميلاد مجتمع. ورغم مرور نحو نصف قرن على رحيله إلا أن تساؤلاته تجد لها امتدادًا فكريا في عالمنا كثير التحولات. وهنا يُطرح السؤال، كيف يمكن للمجتمع أن يسمح بتطور الأفكار وانتعاشها؟

المثقف هو ذلك الشخص الذي يتصرف بحس مرهف تجاه المجتمع، يترفع عن المصلحة الشخصية ليرتقي ويبحث عن قضايا وهموم المجتمع، يتفاعل معها ويدرك أهمية أن يلعب دوره بإتقان. ولا ينحصر دوره في مجال معين بل يتنوع عمله ليطال كل مجالات المجتمع، ولعل العمل الأهلي والعمل في المجتمع المدني هو خير دليل على ذلك. فهو عبارة عن ترجمة عملية لثقافة الفرد والمجتمع.

ومن التحديات التي تواجهه هي كيفية الالتحام مع قضايا الجماهير والإصغاء لحاجات المجتمع، كيفية تشغيل حواسه وتنشيط قلبه وعقله، ليكون المثقف، هو أو أنت، دون أن ننسى، كقول درويش، قوت الحمام...

من تحدياته أيضًا عدم التقوقع في دائرة الحقد على المجتمع، بل هو ذلك الذي يتحرر إلى إدراك أن هناك احتياج يجب العمل على سدّه، عليه البحث عن الأفكار الجديدة حتى لو كانت أفكارًا مجنونة وليست من الواقع، عليه الابتعاد عن التقوقع في الصعوبات ليفكر في المستقبل ويخطط له...

المثقف هو صاحب الرؤية الذي يدرك أن وجوده في الحياة ليس من باب العبث بل هو موجود أصلا من أجل الآخرين، ولذلك يكون هذا المثقف محبًا للاستطلاع والقراءة، وسريع التعلم من باب التنوّر وتنوير الآخرين. ولا يُقصد بالتعلم ذلك المثقف الذي يحفظ بيوت الشعر ويردّدها، بل هو الذي يطرق أبواب الشعور، هو الذي يعمل على تطوير الذكاء العاطفي والاجتماعي لدى الأفراد والمجتمع. هو الذي يستطيع أن يذوّت ويحقّق تبادلية الأخذ والعطاء ويعرف متى بإمكانه أن يأخذ ومتى يجب أن يمنح، وهو الذي يتفاعل مع مجتمعه وقضاياه، من هنا ومن كل موقع يحتله أو يسهم بوجوده.

فالثقافة تعني عدم الانزواء وعدم المعاندة، بل التسامح والصبر والاحتواء. والمثقف هو ذلك الفرد الاجتماعي المتفاعل مع قضايا شعبه ومجتمعه وهمومه وقلقه واحتياجاته.

ولأن الثقافة استقامة وشيم وقيم وتربية، وكل فرد منا هو شريك في بناء الإنسان في مجتمعه، لذا أشدّد على أهميّة التعاطف مع الآخر المختلف دينيا وقوميا ومبدئيا وسياسيا، وبما أن الثقافة أمر مكتسب غير مولود، لذا بالإمكان إعداد حملات تثقيف لبناء الإنسان...

من هنا، يحمل المثقفون المسؤولية الكبيرة للتغيير والتغيير والتغيير، بأيديهم، بألسنتهم وأقلامهم، ومن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان.

كيف تتمّ عملية التغيير الاجتماعي جراء عمل المثقف أو السيرورة الثقافية؟

تتجلى أهمية كبيرة للتخطيط السليم والتثقيف والتنظيم، والتربية، فالتخطيط هو عملية ديناميكية تتطلب مرونة ونظرة مختلفة. وحتى ينجح الفرد في تغيير المبنى المجتمعي القائم فإنه بحاجة إلى القدرة على أن التعامل مع نفسه بشكل نقدي من أجل التغيير للأحسن.

وهنا يستحضرني المربي المفكر البرازيلي باولو فيريري (1921 – 1997) الذي أكد في نظرياته التربوية، التي تشكلت أصلا من خلال معاناة كبيرة، عن أهمية النهوض بالمجتمعات؛ حين انتقد ثقافة الصمت التي تفرز وضعية القهر حيث أن مصدر ثقافة الصمت قد يكون الجهل أو عدم التعليم، فقدم نظرية مهمة في تعليم الكبار تنطلق من قراءة الواقع قراءة نقدية.

انتقد فيريري أيضًا الفقر الذي أنتج أو أوجد نوعًا من التربية القهرية، حيث أن مهمة المتعلم والإنسان عمومًا، عند فيريري، تحطيم المشكلات، والتناقضات التي يحيى فيها والعمل على تغيير واقعه.

وقد أكد فيريري أننا إذا كنا لا نعمل على أن نكون صانعي الحلول فسوف نبقى في ترسبات المشكلة وصميمها.

ولا يسعني إلا أن أعتمد قول العلامة قدري حافظ طوقان (1910 نابلس – 1971 بيروت) لمزايا المثقف: المهذب، المستقيم، السائر على طريق الصواب، من سما بروحه إلى الفضيلة وابتعد عن الرذيلة وعن المادية وعن الأنانية، ومن سعى لتأدية رسالته نحو خالقه ونفسه ووطنه، وهو صاحب الضمير اليقظ الحي، حيث لا يرضى بضعف وهوان وظلم على نفسه وبلاده ...

ولأبناء مجتمعي،

أعتبر كل واحد منكم مثقفا، ونواة لمشروع ثقافة كامل. فالمثقف لا يقاس بشهاداته بل بحكمة حياته وكيفية تناوله للأمور، لأن العطاء ثقافة، والمبادرة ثقافة، والمساعدة ثقافة، وطريقة الكلام ثقافة، والتعامل مع المرأة ثقافة، والاعتراف بالآخر وحقه وقدراته ثقافة، وحتى طريقة تزيين شجرة العيد ثقافة، أو إعداد مائدة رمضان فهي ثقافة.

وفي ظل الأزمة العالمية مجهولة المستقبل والنتائج، أرى الالتزام بتعليمات السلامة العامة والمسؤولية الجمعية هي الثقافة بعينها وهي الأساس المتين لصمود المجتمعات وارتقائها، "لأنه مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ".

2020-03-29