الثلاثاء 14/10/1445 هـ الموافق 23/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
صفعة قرن....إيمان بكر حمدان

 غاب الراعي، قيل إنه قتل في الحرب الأخيرة، أو قبل الأخيرة.. من حسن حظه أنه  لم يشهد  المعارك الحالية..

وقيل إن نوبة قلبية قد أطاحت به وهو متسمّر أمام شاشة التلفاز، وقيل إن موجة من الضحك الهستيري أودت به بعد أن داهمته، بينما كان يداعب نايه الحزين، وقطيعه يتراقص متراجعا إلى الخلف،  ممعننا في الرجوع  والفرح كلّما اشتد أنين الناي ووجعه..

انتهز الزمنُ الرديء غيابَه فبعثر أجزاءه، وفي لحظة مبتورة عن منطق التاريخ، تلعثمت إناث القطيع في عدّ ذكورها،  كما تلعثم الفحل في العدو فسقط محطِما أحد قرنيه العظيمين، اللذين طالما رفعهما نحو السماء بزهوّ..كلما كان يتقدم قطيعا مشرذما، اختلطت فيه الثيران بالخراف ، والحمير، بالبغال..

تلقفت التيس مبتور القرن، صخرةٌ شاهقة.. فانتصب على قمتها شامخا أمام الجمع البهائمي، واهبا قرنه اليتيم للشمس، علّها تعكس عليه من بريق شعاعها، ما يشوّش الرؤية فيحجب عاهته، ونقصه.. أغمضت الخراف الجاثية تحت الصخرة العالية، عيونها بتأثير انعكاس الضوء الموهوم.. همهمت خنوعا وخشوعا، وهي تتدافع بعشوائية ، خروفا ينطح خروفا، ويحرك آليته القذرة ذات الشمال وذات اليمين..غير آبه بما ترك من فضلاته التي  تعثر بها وهو يتناحر مع الثيران ليحظى بالمثول ،في طليعة المطأطأين، أمام فحل القرن المعطوب..

تغاضت الثيران والخراف والحمير.. والجمع الغفير.. بنظرها عن  اللحم المتهدل كتلا على جوانب  فوهة متخثرة الدم ، مفتوحة للناموس والذباب،  مفرغة  من قرن تساقط مكسورا ، فبدا الفحل بعيونهم،  المصابة بالضوء الكاذب ،وحيدَ قرن مهيبا.. وصدقوا جميعا أنه كركدن عظيم ، فركعوا، وأبدعوا في  ركوعهم..

كان الرذاذ يتطاير من فمه قذرا، وهو يمطّ جسده نحو الأعلى ليخفي غياب قرنه.. ويتفنن في مأمأة هزيلة أرعبت كل الذكور الجاثين عند قدميه، حيث تساقطت كلماته وفضلاته.. فغمرتهم بنشوة عالية.. وغيبتهم !

سوى غزالة وغزالها لم ينخرطا في جوقة المعمعة والمأمأة والنهيق،  وصمدا في مرعاهما الوثير يتراقصان حرّين طليقين .. كان  أحد قرني الغزال مفتولا  كغصن بان..والثاني ممشوقا حريريا كزنبقة، والغزال الرشيق  يتنعم برقّة عشب مرعاه الصغير الدافىء.. يلتهم ما راق له، يقضمه برقة ورقيّ عالٍ.. يزيل عن أطرافه ما تجمع من شوك وحجارة.. وديدان.. "يسهسل" المكان ويفترشه وغزالته منتشيان، غير آبه بما التقطته أذناه الأنيقتان من الأصوات المنكرة..وما لمحت عيناه الواسعتان من من العاهات، وما استنشق أنفه الحساس من الكرائه..التي  رافقت  خطاب  التيس..

بينما كان الخطاب الركيك يعمي أبصار وأسماع القطعان المغيبة،كان الخنزير منهمكا باغتصاب الغزالة.. بعد  أن عقر  غزالها ..وعندما تمكن من سفك عذريتها فوق حرير عشبها الذي كانت تتمرغ  فوقه، مالكة الكون بآسره،زأر!

لقد اشتهى الخنزير بريق عينها، ونقاء عشبها، فاضطر لانتهاكها حتى يخلو له وطنها..وانتهز سحر  خطاب التيس العنين ،على ذكور القوم.. فلم يشهدوا الواقعة، لانغماسهم بالإصغاء والانحناء، ومن ثم الاستياء، والاشمئزاز  من عبق المسك الذي ضاع من دم الغزالة..وما زال يضوع..ويضيع..

تقدم القطيع ،الذي اعتاد التقهقر، خطوة منها، وصمها بعضهم ببصقة، وبعضهم داس أطرافها المستباحة، وهو يحرك أعضاءه الحميمة ليتأكد من صلاحيتها..فقد راوده شك بأمر مخجل  اكتشفه فجأة .. لعله شلل.عابر، أو مستديم...

حتى الكلاب الشرسة تكالبت بنباح ذليل أمام الفحل الأعضب..وخّرت لاهثة  تحت قدميه  حيث  كانت قبائل  الذباب تقيم. وليمتها..

في هذا المشهد الجليل لم يكن ينقص سوى بعض الشموخ.. حتى تهادت قافلة مهيبة، من الجمال مهرولة بكامل عتادها وهيبتها، من جوف الصحراء الخالية.. لتنضم  إلى  الحراك الخارّ.. فيغلق الستار.. ويختفي الضوء..ويكتمل العرض..

ويتحول المشهد إلى مهزلة  سوداء عل خدّ التاريخ..ولا يخترق هذا الصمت سوى دوي  صرخة استغاثة لم يعرف مطلقها:أين أنتم يا شعراء البادية؟ أين ما تغنيتم به من إباء الإبل وشموخها؟ أرأيتم ،بربكم،جملا يبرك عند  قدمي تيس، والتيس فاقد  لأغلى ما يملك؟

تململت  الخنساء وانتفضت  من تحت ركام الزمن الغابر، تبحث في القافلة عن جمل أصيل، لكنه كان قد مات يوم  ولدته الحرّة، ليعلن انتهاء نسل  الشموخ..فتنهدّ  شِعرها مغرورقا ببكائها على  صخرها :"فما عجول على بوٍّ تطيف به....بأوجد  مني  يوم فارقنا صخر..".

 أصابت صلافة المشهد، الشاعر أمل دنقل في قلبه،  فأردته قتيلا ، غاب صوابه، فجسده، لكن عينيه بقيتا معلقتين على الوَبر والصوف الملوثين،ثم  وقعتا على الأذناب الطويلة، والمقطوعة،وهي تتدلى في محاولة بائسة منها لستر ذبول ذكورة الحمار والثور والخروف وحتى الجمل..والكلب.

وتمزق قلبه وهو يتابع خنزيرا يلعق منتشيا، أشلاء غزال ترنح في محاولة متكررة لاستجماع جسده، لعله يتمكن من النهوض والعدو والمقاومة، لكنه لم يكن  يجد قوائمه الأربع في أماكنها،كان قد شرخها فعل الخنزير.. وشرذمها صوب الشرق وصوب الغرب..

بكت عينا أمل دنقل، وتساقط ما تبقى من قلبه،على جرح الغزال ، باحثا عن حروف نزفت:"ومن سيضمد في آخر الصيد جرح الغزال؟"

مات " أمل"  وجرح الغزال ما زال يمتد ويمتد...وكأن ما كان ينقصه فقط، صفعة قرن معطوب..

لكن الشمس لم تمت.. ما زالت تشرق كل يوم من جديد..

2020-04-03