الأربعاء 8/10/1445 هـ الموافق 17/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
رواية ' فضاء ضيق ' للكاتب العراقي علي لفتة سعيد....بقلم فوزي الديماسي

محسن ، ولا يحمل من حسن الاسم ومحاسنه إلا زيف التسمية ، أمّا الرّسم فشقاء معرفيّ دائم ، وسفرعلى شوك السؤال متجدّد ، وترحال في مناكب العدالة ومفاهيمها وسبل تحقيقها على أرض جبلت على الحروب والتناحر والتدافع الطائفي والإقليمي والدولي ومعانقة الفقد واليتم والخراب .في ظلّ غياب العدالة المنشودة المفقودة ، والتي تمثل لمحسن أيقونة وجوده وقادحه ، فيكدح على طريقها ومن أجل تجسيمها كدحا ليزيّن بضوئها سماء الوجود وجوده ، ولينفخ من روحها في ثنايا حياته وحياة اليتامى والثكالي و الأرامل أملا بعد فناء وسكينة بعد حيرة .

حياته في دنيا الخلق ليست كالحياة ، وذاكرته مضمّخة بالآلام والفقد والأوجاع .

يعيش الحرب وخسرانها ، وقد حلّ الدّمار بكلّ شيء فيه ، ولم يترك وراءه إلا الفراغ والأشجان ، فلقد أتى الخسران على الأهل والأحباب في ليل العراق المدجّج بالفجيعةوالدمّ ، وغابت سلوى في عالم الشهادة لتحيا فكرة في عالم الغيب ، وحديثا كما النحوي ، بل هو أشد همسا في رحم الكلمات. محسن وهو الموصوف بالمقندس ، و التسمية منحوتة من صخر السخرية وحجارة الأحزان ، والمقندس في أعرف صحبه ومقول قولهم هوالجامع بين المقدس والمدنّس يصارع رياح الغربة في الوطن وحيدا ، لا يكاد يقف على أرض صلبة في الناس .

حتى عمله في دنيا الخلق ومواطن الرزق يوحي بعوالم الليل والموت ، فمن حفار قبور إلى موظّف في مؤسّسة الأيتام ، وبين الموت واليتم يحاول محسن تضميد جراحه بالكتابة ، ولكن الجراح متناسلة ، وأنّى لها أن تندمل وسلوى جرحه النازف على الدّوام في عيشه وفي كتابته حين يختلي إلى نفسه المكلومة محض خيال وبعض كلمات ، وهو مثقف منكود الحظ يحيط به جمع من الصّحب ممن احترفوا ركوب المفاهيم ، وممارسة رياضة الحجاج بمنأى عن حال الناس ومتاعبهم ، ففيهم من يعيش على الأرض ببركات السماء ، ومنهم من ثار على العمامات السوداء والبيضاء ، وضرب بالحوزات عرض الحائط ليجنح لحياة باللهو والتحرّر ، مقبلا على فتنتها ومفاتنها غير مدبر ، وبين هذا وذاك تتقاذف محسن أمواج سلوى هذه التي يكشف اسمها عن رمزية موحية ، ويحيل صداها على عوالم من الأحجيات ، في فكّ شيفراتها اكتشاف للطريق الملكية إلى قيعان محسن وخفايا وطن جريح الخطوات . يعيش الرجل بمنأى عن " عراق التناقضات " وفيه ، ويقيم في حلقات صحبه ونقاشاتهم وتناقضاتهم وأوجاعهم وانتخاباتهم ومراقدهم وعمائمهم وأحلامهم بالغياب يعيش بينهم وليس منهم وبينهم ، فحياته سلوى ، وهي التي كانت سبب وجوده ، وقادح الفرح في حياته ، ورمز فرحه ، ومبعث سعادته ، ومكمن الداء والدواء في عيشه .وفي دنيا الكتابة وهو الروائيّ المجيد بشهادة النفاد . " فضاء ضيّق " على رحابته يتحرّك فيه محسن ولقية الشخصيات ، ونصّ مفعم بالأوجاع والجرأة والأسئلة ، يتزيّا من حيث البناء بتقنية الحوارفي أكثر منعطفات الرواية وفصولها ، والحوار في بناء النصّ السردي وعوالمه يمثّل لحظة مكاشفة نفسية للشخصيات المتحرّكة في فضائه ، ومن خلال هذه الحورات وبفضلها تكون سرائر الشخصيات جميعها في متناول المتقبل / القارئ وبين يديه ، يعرف عنها ما تظهر وما تبطن دون تورية ، أو مساحيق ، فيتعاطى معها وكأنّه يعرف عنها كلّ ما تبدي وما تخفي في سرّها وعلانيتها . كما لعبت الرؤى وزوايا النظر للراوي دورها في جعل الشخصيات على تعدّدها وهي واحدة لاشتراكها في الوجع تعبّر عن ضيق صدرها صراحة ، وهي التي تمثّل نخبة العراق وعنوانه إذ فيها الرولئيّ والنقد والمعلّم . وتعرض هذا الشخصياتبكثير من الصدق تنوّع المجتمع وثراءه من حيث البنية الفكرية والعقائدية والايديولوجية ، وخاصة أنّها تمثّل العقل المثقّف المسكون بالأسئلة الوجودية الحارقة كسؤال الله / الإنسان / الإنسان في علاقته بذاته والآخر في ظلّ المراجع الدينية والحوزات وتعدّد القراءات الدينية الأخرى ، وتنوّع طرق الإقامة في العالم ومفاهيمها . فقد ساهم الحوار بنوعيه الداخلي والخارجي ( حليم ، محسن ، علاء ، مجتبى ، جمعة ...) في تعرية الواقع وجراحه . وغابت في بنية النصّ من حيث أنواع الرؤى وزواياه الرؤية من خلف ، والأخرى من فوق ، وكأنّ السارد يمعن في تجذير الشخصيات وخاصة شخصية محسن في راهنها وراهنيّته ، كشخص لا تاريخ له يذكره ويتذكّره ، ولا مستقبل ينتظره ، إلاّ سلوى ، هذه التي اختزلت كل الأوجاع والأحلام والأمنيات ، وكانت بذلك العشيقة والسلوى ، وسلوى في دنيا الناس وليل العراق فقد زوجها رمز رجولته في الحرب فكانت من حيث لا تحتسب في خانة الأرامل وزوجها على قيد الحياة .

إنها سلوى المرأة التائهة في وطنها ، بل هي الوطن التائه عيته ، وطن فقد فحولته وفحوله في زمن غاب فيه الرجل المدافع عن حصونه ليولد من بد ذلك طبقة من عبدة الكراسي وعشّاق الوجاهة والسلطان . إنّه زمن الهزيمة ينقله نص مشحون برسالاته المشفرة ، مسكون فضاعة الحياة وضيقها وسوداويتها ، حتى المكان داخل نسيج السرد على اتساعه وتنوّعه ( كربلاء ، الكازينو ، المقهى نادي الأدباء ) يبدو مغلقا وضيقا وقاتما على معادلة القهر والاستلاب والإغتراب ، فيوحي بالضيق والظلمة رغم إبهامه لنا بالانفتاح وهذا ما جعل حلقات النقاش الحقيقية تحتضنها القاهرة في بعض الرحلات وكأنّ المكان في العراق عدوّ له آذان وعسس وعذّال .

إنّه العبث يلفّ النصّ من كافّة أقطاره ، ويوحي بالموت دون تورية ، وكأنه يرسم من خلال الرموز ( اغتيال علاء ، هجرة سلوى ) لحظات عدمية لا تبشّر بصبح قريب ، أليس الاحتلال ، وحياة البذخ الزائفة في صفوف أبناء الجلدة ولحظات استقالة المثقف دليلا على موت الوطن على عتبات صنع التاريخ ، الم يمارس محسن الأستمناء وهو الاعوب فلا خصب ينشد ولا حياة يبني بل هو الضياع والإستمناء بانواع الفكرية والوطنية والحضارية ، شأنه في ذلك شأن حمدية المومس المقبلة على حياة الجنس في القبور والحفر ، أليس محسن المثقّف والكاتب هو الوجه الآخر لحمدية المومس ، والحال أنّهما يمارسان طقوس الموت ذاته ، فهو المحترق على أبواب كتاباته، وهي المحتضرة بين أحضان عشاق الرذيلة في القبور...فهو الموت لا محالة محدّق بكلّ شيء.

 

فوزي الديماسي/ تونس

2020-04-13