الأربعاء 8/10/1445 هـ الموافق 17/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
وجعلنا من الماء كل شيء نسيا منسيا أو حديث في رواية 'جنون الحكاية ' للكاتب اللبناني كامل صالح.... بقلم : فوزي الديماسي

بين الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982 ، والحياة في سماوات علا عرضها الخيال والحلم ، يعيش الإنسان / الربّ ملحمة الألوهية وعربدة المطلق ، ويمارس طقوس الشهوات وملذّاتها في كون غير كائن ، كون لا يحدّه حدّ ، لا في الزمان ، ولا في المكان ، ناسل من أقاصي أحلام البشر وهم نيام ، تدور بين أحضانه أحداث حكاية ، نقف فيها على نسج صانع حكيم في خلط الطين بالخيال ، وربّ في عليائه عربيد ، سكّير ، مهياف ، أثيم ، متقلّب الأحوال ، وجارية من نسج شهوته الربّانيّة بعثت ، ومن ضلعه خرجت ، تسعى بين يديه سعي من خلقت لتغدق عليه من ثمار جسدها ، ورحيق تثنّيها ، وريق شبقها . وعيال في الأرض يسعون ، من نطفة مارقة ساقطة خلقوا ، كما " العذول " يطلبون في زوجة الربّ / الأب وطرا يقضونه ، وطربا يجنونه ، ومتعة لا تنضب .

نصّ الرواية حالات كما الشعر وأحوال ، لا أحداث فيه جسام ، و" سبحان مغيّر الأحوال " ، إذ ينزل السرد من عالم الغيب الشفيف الرقيق، ويغادر الرواي سرير الربّ " قجدع " ليفتح نافذة حكي يطلّ من خلالها على أرض الهمّ ، والغمّ ، والذعر والمحنة ، تحت سماء حبلى بالرصاص والأمنيات ، هي سماء لبنان ، وينتقل السرد من فضاء ممتدّ لا تدرك أقاصيه الأبصار إلى الأرض الموبوءة والأحلام المبتورة .

إنّ رواية "جنون الكتابة " صحف أحوال ، لا صحف أفعال ، تتحدّث عن سيرة مواطن لّبناني (كحيان ) ، يعمل في محطّة غسيل للسيارات ، قتله الماء وأفناه ، كما أفنى امّه وغيبها ، وأتى على الأخضر واليابس في دفاتر أحلامه في دنيا الناس ، لكن للنفس الأمّارة بالحياة في النصّ أحكامها ، فقلب الرواي ضعف طارق الإنسان إلى قوّة في عالم الشهادة ، وفي الأنام ليكون من بعد ذلك كاتبا بارعا في الجرائدة السيارة .

ويمارس إبليس الخيال التلبيس على امتداد النصّ ويغرق في تلوينه بتصاوير سمتها ضبابية الحكي وتداخل زوايا الرؤية ، ويعبث الرواي بخطيّة الحكي عبثا جعل من سجلات القول كبيت عنكبوت ، تأكل فيه الجمل صغارها ، وتنهش الكلمات فيه رصانتها ووقارها ، في رحلة عاصفة يختلط فيها المقدس السافر بالمدنّس الثائر ، وتتواشج الرؤى وزواياها ، فتنصهر حينا لتنفر أحيانا أخري ، حالها كحال الناس المتقلّب المضطرب بين لحظات حبّ ودعة وخمر ورصاص وموت معربد على الطريق .

هي جداول ثلاثة ساهمت في بناء السرد ورفعه في دنيا التخييل بلا عمد :

الأسطورة : قجدع

الواقع 1 : رجل يقتله الماء

الواقع 2 : تحولات طفيفة جدا ...والحكاية تستمر

إنّها منابع تغذّي الخيال في دنيا الرواية ، وتسعى لبناء الشخصيات وتجذيرها في أرض الحكاية ، متوسّلة بالواقعي / المرجع تارة ، وبمحض الخيال أطوارا ، ويتقاطع فيها ما على الأرض بالمتخيل ، وما هو أسطوري بالنصوص المقدسة ، وما هو هامشيّ بالنصوص الحافة ( نص البداية ونص النهاية ) ، لتصنع من فضاء الحكي حياة صاخبة ضاجة متناقضة ، لا يكاد يفصل فيها بين الحقيقة والمجاز إلا خيط دقيق رفيع يمسك عليه الراوي كما الماسك على الجمر ، إذ الرحلة شاقة بين جزر ثلاث ، فالأولى حياة عرضها السماوات والسرير المقدّس والتزم فيها الرواي ( الرؤية من خلف ) ، والثانية عرضها الحانات والشوارع ودور العشق والدّعة والخناء فوق الأرض وفي دنيا الخلق وكان فيها الراوي عليما ( رؤية من فوق ) ، والثالثة في دنيا الحبر، وفي مناكب الورق تبني حياتها عبارة فوق عبارة كما البنيان ، حيث خرجت الشخصيات من نص الرواية وتمرّدت على ربّها / الكاتب ومن بعده الراوي لتبني عوالمها بما كسبت أيديها ، ويقعد فيها الراوي عن ممارسة دوره العليّ ، ويجلس من الشخصيات مجلس المسامر المساهم في تعرية السرائر جميعها واكتفى في جلسته تلك ( الرؤية المصاحبة) بعيدا عن مفاهيم مثل الخطيّة والأفقية والسببية .

إنّه عالم سردي يراوح مكانه بين العبثية والفوضى ، وبين المعقول واللاّمعقول ، وبين ما هو ثقافي وطبيعيّ ، وكأنّ لسان حال المتن يقول ما قاله كارل ماركس " إنّ البنية التحتية هي التي تحدّد دين وأدب وأخلاق المجتمع

2020-04-16