الخميس 9/10/1445 هـ الموافق 18/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
انكسار../ إيمان بكر حمدان

وأبحرت آخر أشرعة الاطمئنان بعيدًا عن ميناء عينيها ،المزدحم بضجيج الغرباء الآتين، سحبتها ريح الحوارالذي دار عاصفا بصمت، مع زميلتها اليهودية الجالسة إلى جانبها على نفس المقعد الدّراسي في ركن إحدى قاعات المحاضرات في جامعة حيفا، في سنتهما الأولى، حوار روتيني بليد انتهى بتعليق الزميلة الشقراء ،أنّها من سكان حيفا الأصليين..

صبيتان في مقتبل العشرين.. إحداهما تحفر في دفترها كل كلمة ونحنحة للمحاضر، ويتلعثم حبرها فوق الورق كفريق رياضي كسول، تبعثر في الملعب دون مدّرب، والأخرى أرخت ضفيرتها الشقراء منسابة فوق كتفها  بهدوء،ليتكئ ظهرها على المقعد مسترخيا ،وكانت تدّون وّبعض الجمل الأنيقة مصحوبة بعلامات الترقيم، خالية من الأخطاء الإملائية.

"سكان حيفا الأصليين" صاعقة خفيّة لكنّها كانت كفيلة بتدمير الأشرعة جميعها والمراكب والركاب، فترغمهم على السّباحة في وحل عينيها السمراوين، تساءلت في غياهب عتمة الذات، أحقّا هي حيفاوية؟! طرح السؤال جعلها تتكوّر على نفسها كسلحفاة هاربة من الدّنيا التي سبقتها إلى انشغالاتها، فما كان منها إلا أن أخفت أكمام قمصيها الكالحة بين الأوراق ،وانشغلت بحذائها الرّياضي تحاول أن تغرسه في الأرض عبثًا، تلاحقها العيون المتدّفقة نحو تفاصيلها الدّقيقة، لدرجة شعرت أنّها تتعرّى من كلّ قماش يكسوها، فتتلوى عارية ملساء كسحلية هاربة من مكنسة هوجاء تلاحقها من كل صوب.

هرب ذهنها المحموم من بين المقاعد عائدًا إلى المدينة قبل أقلّ من عشرين عامًا، صاعدًا إلى حافلة السّاعة الرّابعة، حافلة زرقاء كتب على غرّتها بالعبرية "إيجد" . جلست على أحد المقاعد المهترئة، كانت  رائحة العرق تعجّ في  المكان ممتزجة برائحة الدهان، والخشب، والصمغ وزيوت السيّارات، وهي تداعب ضفيرتيها  متابعة بذهول، تلك المشاهد السريعة من الشباك المفتوح للهواء، عائدة مع والدها الذي جلس على المقعد المقابل لها، وقد اختلطت رائحة عرقه بما علق من وحل وعشب على أطراف ثيابه، محتضنّا "بقجة" مهولة، منحته إياها السيّدة اليهوديّة التي عمل ذاك النهار في تهذيب وتقليم حديقتها الجميلة، حيث أمضت نهارًا ممتعًا في أحضانها تلعب مع طفلة من أترابها، ابنة صاحبة المنزل.

لم تكن تفهم الواحدة على الأخرى، ورغم ذلك فقد تدبرتا أمر المتعة البريئة، بصمت وببعض الإشارات والابتسامات. لا  يغيب عن ذهنها ذلك السؤال الصعب الذي أطلقته إلى قلب والداها، بينما الحافلة تهتز بهما: "يابا ليش ولاد اليهود دايما لابسين أواعي العيد؟".

تمزقت حدقتها بدمعة كأنّها السيف وهي تستعيد تداعيات المشهد في عيني والدها ولسانه الذي تلعثم فسقطت من حرجة البقجة بعظمتها، لتتناثر  قطع الثياب، فيلملمها ويحتويها خجلاً – لتغسلها أمها فور عودتهما قطعة قطعة، بصابون الزيت سبع مرات، وتترك الشمس لتعانقها فتزيل عنها الأثر القديم.. عندها كان بإمكانها أن تنتقي أجمل قطعة لتزهو بارتدائها.كانت فستانًا زهريًّا مكسّرًا  أرخته فوق خصرها الرّقيق، وتركته "يفرن" حتّى تكسّر الخصر غبطة، وكسّر قلب أمها التي صفقت، وهتفت: ملكة، ملكة...

عادت إلى بقايا جسدها المركون على مقعد جامعي، فوجدته تائهًا بين أغطية الأقلام المرميّة، واجتهدت لتستعير ما تبقّى لها من أصابع في كفّها المرتجفة لتستر بها عورتها ، كما فعلت حوّاء بورقة التوت، ولم تجد عينيها لتضعهما في عيني زميلتها الحيفاوية الأصليّة، التي لم تتحرّك عن مقعدها قيد أنملة، فقد انكسرتا بين "كسرات" الفستان الزهريّ الملكيّ..

 

شفاعمرو

2020-04-17