السبت 11/10/1445 هـ الموافق 20/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
عودة كوفيد...فرمز حسين

 

 إنه الربيع في نهاياته و الشمس لاتزال مشرقة  ترسل أشعة ذهبية و كأننا في فترة الظهيرة على الرغم من أن الساعة قد تجاوزت الثامنة مساءً، الفارق الوحيد هو أنها ليست بتلك الأشعة الدافئة.

على طول المسافة تنتشر زهور الهندباء البرية الصفراء المستديرة، تزين مساحات واسعة من الأرض الصلبة المتاخمة لهامش الطريق و كذلك  أجزاءاً متفرقة في عمق السهل الأخضر الممتد شمالاً، مسيطرة بذلك على أنواع كثيرة من الأعشاب الأخرى الضارة و النافعة معاً. هذه الزهرة البرية ذكّرته بالعناد و التشبت بالحياة فهي على الرغم من محاولات الابادة المستمرة التي تتعرض لها  تبقى مصرّة على النهوض من بين الحصى و حتى من بين ثنايا الصخور  على عكس أقرانها من الورود التي تحظى بالكثير من العناية و الرعاية.

جميل أن تعود المياه إلى مجاريها  بعد أسابيع من المكوث المصحوب بالرهبة في البيت. و الأجمل من ذلك كله هو التعافي من المرض. من اليوم فصاعداً سوف أستمتع أكثر فأكثر بكل لحظة من وقتي، قال مناجياً نفسه، ثم انتابه بعض الشرود لكنه سرعان مالملم شتات أفكاره من جديد. نعم هناك ماهو ايجابي أيضاً عندما نصاب بمرض ما ثم نتعافى منه،  همس مناجياً نفسه مرة أخرى ، لكن الأهم  هو  أن المرض يقودنا بصيغة لاإرادية إلى منح  الصحة حق قدرها، فأحدنا لا يقدّرُ هذه النعمة غالباً إلا  بعد أن يفتقدها و ذلك حين يلمُّ به المرض. هذا الشعور  جعله يحس بدماء نشيطة تسير في عروقه و بدأ يتنفس بارتياح لكن ارتياحه كان مشوباً ببعض الحذر!

 غريب أن أحس بأنني لست بمفردي و أن هناك من يرافقني و أستطيع التعرف عليه و  أشتم رائحته الخبيثة، بئس الملتقى همس في قرارة نفسه قبل أن يبادره بالحديث:

لا أخفي عليك يا كوفيد بأنني بحثت عنك في كل أرجاء البيت بعد زيارتك الماضية  لكي أتابع معك حواري  و لكني تأكدت من رحيلك بعد أن عثرت على رسالتك الشامتة بالانسانية و شعرت شيئاً فشيئاً  بالارتياح و بأن ثقلاً عظيماً قد زاح عن كاهلي، فما الذي أعادك إلينا و أنا توقعت بأنك قد رحلت بلا عودة؟

كوفيد:  هكذا و من آخرها أنا  لم أعد للحوار معك هذه المرة بل لقد عدت لكي أساعدك على لفظ أنفاسك الأخيرة.

هكذا ... تقول بكل تعالٍ و ثقةٍ بالنفس ...تذكرت تهجمك على بني جلدتي من البشر فأنت لاترانا إلا وحوشاً  نقضي على كل حي و لانكتفي بذلك بل  نسفك حتى  دماء بعضنا البعض. هل يعني هذا بأنك تحس بأنك حقاً  أفضل منّا؟

كوفيد : نعم فأنا على الأقل لا أهاجمكم ان بقيتم داخل بيوتكم  أو كما  تسمونها أنتم  بالحجر الصحي  فأنتم آمنين  من مخالبي و لا أدمر البيوت على رؤوسكم، أنا أجبركم على البقاء في بيوتكم و أوطانكم، بينما أنتم تقتلون بعضكم البعض و تجبرون بعضكم على التشرد و الهجرة من الأرض و الأوطانّ! أليس ذلك دليلاً على أن رحمتي واسعة و  أكثر  من رحمتكم على بعضكم؟!

هل تعلم بأنني كنت على وشك تصديق ذلك و حتى أنني كنت قد بدأت التعاطف معك فللأسف بعض ما تقوله صحيح.

كوفيد: على أية حال أنا فعلاً لم أرجع للحوار معك، فقل مالديك قبل أن أ هبط على صدرك و قبل أن أمد مخالبي  الأخطبوطية القوية لخنقك.

في المرة الماضية قُلتُ لك بأن هناك ثمة أمور شتى عالقة لم أنتهي منها بعد و أنني بحاجة إلى المزيد من  الوقت لوضع الأمور في نصابها، ثم أنا لست مثلك فأنا لديّ أعزاء و محبين كثر و لا أريد مفارقتهم الآن على أقل تقدير. ألا تفهم ذلك ؟!  لكن كيف لك أن تفهم ذلك تابع قائلاً فأنت لست سوى جرثوم تافه دون مشاعر أو أحاسيس و  مع ذلك تعتقد بأنك أفضل منا نحن البشر!

كوفيد: سبحان الله جميعكم على الشاكلة نفسها، جميعكم دون استثناء و هذا الأمر لا غرابة فيه فأنتم مجبولون من طينة واحدة و ترددون الحجة ذاتها، ليس الآن رجاءً...  ثمة أمور عالقة لم ننتهي بعد من تنفيذها.......،

 بلا... بلا... بلا......،

رجاء أعطني مهلة إضافية....بلا...بلا...بلا...

 بعض الوقت....

لدي أعزاء و الفراق صعب...

رجاءّ .... بلا...بلا...

رجاءً...

هذا مايردده كل من أهمُّ بالانقضاض عليه تابع كوفيد ، كلكم تريدون تأجيل القبض على أرواحكم على الرغم من كل السنين التي عشتموها! تباً لكم! و تقولون  لا  نريد فراق أحبتنا مع أنكم تنصرفون إلى شؤونكم و تراب قبور من تدفنونهم لم يجف بعد ، و ربما تتعاركون على تركتهم و تهرعون إلى   ارتداء جلباب و  ملاءة محاسنهم ان كانت لهم بعضاً منها، و تتبرأون من خطاياهم  و تتنصلون من عهودهم و التزاماتهم الغير منفذة. كلكم من النوع الذي يؤجل عمل اليوم إلى الغد و أنت لست حالة خاصة كلكم على الشاكلة نفسها!!

تتحدث ياكوفيد و كأنك أنت حالة خاصة و ربما تكون كذلك و لكن خصوصيتك ليست بتلك الايجابية التي تريد الايحاء بها فأنت لست بأفضل منّا نحن معشر البشر بل أنك أسوأ بكثير فأنت و أقربائك من الجراثيم تطلقون العنان لأنفسكم و تقطعون الحدود من بلد إلى آخر و لا يرافقكم إلا الخراب و الموت و بكل صفاقة تتحدث عنّا نحن البشر و عن القيم و عن الخير و الشر!

كوفيد: هذا الكلام لا يفيدك و لن يثنيني عن متابعة ماجئت من أجله فقل ماعندك قبل أن تسلم الروح، فأنتم لا تنطقون بالصدق إلا و أنتم على وشك الموت.

هل تعلم يا كوفيد بأنني لا أخافك و بأنك أجبن من أن تقتلني و أنت مثلك مثل كل الطواغيت من حكامنا فأنت لا تستطيع إلا قتل الأبرياء و الضعفاء، أنت فقط تقتل العجزة و المرضى و ترتعد فرائصك من الأصحاء و الأقوياء و تخرّ  لهم جاثياً على ركبك الكثيرة و حوافرك ترتعش و أنت تقبل نعالهم! أنا متأكد بأنك تفتقر لشجاعة الاعتراف بذلك و لو مرة واحدة في حياتك!

 

فرمز حسين

كاتب و مترجم سوري

ستوكهولم

2020-06-01

 

 

 

 

 

 

 

2020-06-01