الخميس 13/10/1444 هـ الموافق 04/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
'من أعماق الذاكرة' ... الشهداء لا يتجولون في الشوارع...شوقية عروق منصور

يوم استقلالهم نكبتنا .. شعار تمدد فوق أرصفة الواقع المأساوي الذي نعيشه ، يتفتق هذا الشعار من تحت أرضية التاريخ والذكرى والارقام والصور واحلام الذين ماتوا والاحياء الذين ما زالوا يسهرون على تربية الأمل .. في الصغر لم نكن نعرف أن يوم استقلالهم يوم نكبتنا حيث كانت المناهج التعليمية تضخ المواد التي تمسح وتنظف وتغسل الأدمغة الصغيرة، والمدارس عبارة  عن أكوام من القش ، و أذا تكلم أحد المعلمين بكلمة عن الوطن المسلوب وحاول تمرير معلومة للطلاب ، او أخطأت معلمة في قراءة حدود الدولة الفتية على الخارطة ، عندها يشتعل القش وتغطي نيران الاتهامات السماء بالدخان الأسود ولا ينفع معها الا فصل المعلم والمعلمة .. او يكون العقاب بالنفي الى منطقة بعيدة ، واذا تدخلت الواسطات يكون الاذلال وسحق رأس المعلم حتى لا يعود للخطيئة مرة ثانية .

حتى اليوم ما زالت المناهج التعليمية تلف وتدور حول النكبة وتدهن العسل الاستقلالي على جدران الذاكرة الطلابية .. نعم لم تعد الاحتفالات تقام مثل الماضي في الساحات والصفوف والممرات .. وتعليق الاعلام والزينات .. وصورة رئيس الدولة ورئيس الحكومة تتصدران الصفوف .. وعلينا أن نتحمل وجودهم معنا طوال السنة ، أذكر احد المعلمين كان من شدة حبه لرئيس الدولة قد عين طالبا في صفنا يدعى " صالح " عليه أن يهش الذباب عن الصورة .. وقد كان الذباب يتكاثر في صفنا في فصل  الصيف .. لأنه كان قرب مدرستنا محل حلوى وحاويات القمامة عند باب المدرسة .

لم نعرف عن النكبة شيئاً .. حتى البيوت كانت تعتبر الحديث عن الغائبين اللاجئين في الدول العربية والبيوت التي تركوها والاراضي التي سلبت منهم من الممنوعات المحاطة بالتلفت يميناً ويساراً خوفاً من أن يسمعهم أحد، واذا كان الحديث يتسلل كان يتم بالهمس ، فالخوف من الجواسيس أو كما كانوا يقولون عنهم أولاد الحرام يشل السنتهم .

عرفت أنني من قرية مهجرة  تدعى قرية المجيدل او كما تسمى اليوم (ميجدال هعيمق ) وانا في الصف الثالث ، حيث أخذ أبي يلقنني ، انت من وين ؟؟ من المجيدل .. اتقنت الرد ، ولم أكن اعرف أن أبي أخذني زيارة لبيت عمه الكبير .. وهذا العم كان من المناضلين الذي دافعوا عن قرية المجيدل ، باع مصاغ زوجته العروس حتى يشتري بندقية انجليزية .. وأبي يعرف أن لا بد هذا العم سيسألني .. وفعلاً ما أن جلست حتى سألني العم .. من وين أنت ؟؟ اجبت بسرعة .. أنا من المجيدل .. فضحك وقام باحتضاني .. قال مستحيل هذا الجيل ينسى .. !!

جدتي كانت  قاسية ، لم تضحك يوماً  .. ملامحها جامدة  ، كنت أتعجب من صلابتها .. الجميع يخاف منها ، أبي وأعمامي حتى جدي ..  عرفت بعد ذلك أن تحت ستار القسوة الماً وحزناً .. عمي استشهد أثناء هروبهم ، تركت بيتها وارضها .. جاءت لاجئة الى بلدة لا تعرفها ولم تكن تملك قرشاً وعشرة أولاد يأكلون الصخر وزوجاً أصيب برصاصة بقيت في فخذه حتى تعفن فخذه فقرر الأطباء بتر قدمه ، وأصبح عاجزاً وهو في عز الشباب ، وبقي أسير العكاكيز ثم الكرسي المتحرك بعد أن بتروا القدم الثانية .. أما أبنها الشاب الذي  لم يكمل الثامنة عشرة فقد مات قتيلاً أمامها ، أطلق عليه جندي يهودي عدة رصاصات اخترقت صدره ومزقت الاحشاء ، وأصبحت هي ربان السفينة التائهة في محيط الخوف والقهر والجوع واللجوء .

أمام شاشة التلفزيون أجلس ، الفضائية الاسرائيلية تكتب أسماء القتلى .. منذ عام 1948 .. كل قتيل مع ذكر الشهر والسنة والمعركة التي قًتل فيها .. الاسماء أمامي تتريث حتى يستوعبها المهتمين بأسماء من دافع عن دولتهم .. أقرأ و اقرأ .. ثم  قررت أن أراقب الشاشات الفلسطينية .. احدى المحطات تتفنن في عرض الدبكات الفلسطينية حتى يخيل للمشاهد الفلسطيني أنهم يدبكون فوق جثته المثخنة بالجراح ، أما الغناء فهو يسيل من الحناجر التي تمزقت من شدة الحزن ، والمحطات الأخرى تنام وتصحو على مواضيع مستهلكة .

اتساءل أين ارشيف الشهداء .. لماذا لا يكون هناك احصاءات لأسماء الشهداء الذين قتلوا في كل قرية ومدينة في الداخل الفلسطيني والضفة والقطاع ، لا يمكن أن يقتلوا ويستشهدوا هؤلاء دون أن يذكرهم أحد .. والمصيبة أن البلديات والسلطات المحلية العربية في الداخل الفلسطيني ساهمت بصورة متعمدة وغير متعمدة في عدم الاهتمام بأسماء الشهداء ونثرت غبار اللامبالاة على التاريخ .. هناك المئات ممن استشهدوا وتركوا وراءهم اطفالاً وزوجات عانوا الامرين من خلال فقدان الأب والزوج ، عاشوا في ضيق وضنك وتسول وتحت اقدام الناس حتى كبروا ، ولم يكن لهذا الأب أي ذكرى تخفف عنهم الحرمان .

لماذا لا تقوم السلطة الفلسطينية بإحصاء عدد الشهداء في كل قرية ومدينة فلسطينية في الضفة والقطاع وفي الشتات ، قد يكون العمل صعباً لكن يستطيعون انجاز هذا العمل بالاتصالات والقدرة والحرص والتواصل مع العائلات  .. نريد احترام هؤلاء الشهداء الذين تجسدت فيهم روح التضحية في سبيل الوطن . احصاء ونشر اسماء الشهداء يوم النكبة يرسخ الاسماء في الذاكرة ويمنح الفخر للعائلات التي تشعر أن موت هؤلاء لم يذهب هدراً .

نريد أن تتجول اسماء الشهداء الفلسطينيين يوم النكبة في الطرقات ، نعرفهم ونلمس أرواحهم .. أصبحنا نقارن بين فخر اليهود واعتزازهم واهتمامهم بقتلاهم وقيمة الانسان عندهم .. ونحن نحمل الشهداء وندفنهم وندفن معهم معرفتنا بهم .. يموتون مرتين مرة حين يخرجون من أحضان عائلاتهم .. ولا نصغي لآهات امهاتهم وزوجاتهم واطفالهم .. ومرة حين ننساهم ولا نهتم بهم ولا نعمل على ترسيخ ذكراهم في ذاكرة الاجيال .. لا متحف .. لا مؤسسة .. لا جمعية تضم تراثهم وبطولاتهم وصورهم .. ويغرق النسيان في النسيان ..

2020-06-14