.. لا تقـلْ كان لي قلب وذوى ، وحلم وهوى.. وهـأنذا قد تساقط ورق شبابي، وحطّم السيل جذوعي...ضعضعتني الهموم وروّعـتني الشدائد... لـذّتـي تسكاب الدموع على ما فات، إذ لم أظفر بالأماني التي نكثت عهدها معي ومضت، وتركتني ساهرًا كلّ ليلي، أكابد تباريح الشوق إلى أن جاءني الغسق...!! يا ويلتي..!! لقد هاجت الحياة يومًا ، فضربتني أعاصيرها، وأمواجها، ضربة جعلتني أشــلاء فوق صخور الشاطىء ، بعد أن حطـّمتْ كلّ الزوارق التي حَمَلْتُ بها أحلامي وأمانيّ في هذا العالم..!!!
...لا يا أُخَـيّ..!! حماك الله من كلّ يأس وسأم.. إنّ النـَسر الذي كسّر الصيّاد جناحه مرّة، يأبى إلاّ أن يبقى نـَسرًا في وكره فوق القمم حتّى يداوي جرحه، ويعود الى الأثير سيّدًا في الجـوّ ، يركب الريح فوق الآكام والهضاب...!! وإنّ الدّوحة العظيمة التي قطّعتِ العاصفة بالسيوف والرماح أغصانها في الليلة الظلماء ، تنتظر حتّى يعود السيل الى رشده ، وتبرأ العاصفة من جنونها ، كي تستعيد زهوها، وترتدي ملابسها الخضراء في عرس الربيع بين السواقي والجداول...!!! وإنّ النهر الذي ألقت السفوح صخورها في أعماقه ، لا يصدّه السدّ عن الاندفاع الى البحر موّارًا ، وإن سمعتْ الجبال نعيره بين الضفاف..!!!
...إنّ للحياة لغات كثيرة ولا حصر لها ، ما انفكـّتْ تخاطب بها أبناءها عبر العصور...انّها لغات لم يخطـّها قلم، ولم يجمعها معجم من معاجم الأرض يومًا..!!! انظر إلى الأطيار، وقد أتقنت أبلغ لغة بين هذه اللغات... إنّها تخرج قبل رَأْد الضحى عند كلّ صبح من أصباح الربيع الزاهية ، لتقول بأناشيدها للعالم: إنّا معشر الأطيار أجراس الحياة ، تدقـّنا الخمائل كلّ صباح، ويتردّد طنيننا فوق كلّ غصن.. بعثتـْنا الحياة لنُطرِب الأسماع، وننبّه الناس الى بهاء الخَلق وجمال الكون البديع..!! ما جئنا الى هذا العالم، معشرَ البشر، إلاّ لكي نفرح ونبتهج.. فاطردوا كلّ غراب ينعب في أعماقكم... وانزعوا كلّ شوكة تمتصّ البهجة من قلوبكم...!! صمّوا آذانكم اذا نقّ ضفدع في غلس اللّيل.. واغمضوا أعينكم اذا تدجّتْ غيمة سوداء حجبت الشّمس عن وجوهكم...!! ولا تَدَعُوا الذين يُفسدون في الأرض أن يكدّروا لكم عيشكم.. بل كُمُّـوا أنوفكم عندما تمرّون بتلك الرّمم البالية..!! وما أيسر على الأنسان منكم أن يكون مثلنا طائرًا غرّيدًا يصدح على روابيه مثلما نصدح فوق روابينا..!! إنّ الأشواك التي تنتظرنا بحرابها فوق السفوح ، والأفاعي التي تهدّد أوكارنا فوق الغصون، والعواصف التي تطاردنا مع فراخها لتلقي بنا فوق الصخور، لن تستطيع أن تُقطـّع أوتار القيثارة التي نحملها بألسنتنا من عصر الى عصر ، وها نحن بلا انقطاع نواصل الغناء للحياة التي أمرتنا أن نكون لها أوتــارًا فوق الروابي والخمائل..!! فهلمّ انزلْ أيّها الأنسان إلى أعماقك .. وإن أنتَ وجدتـَها مظلمة، قد أطفأ اليأس كلّ مصباح هناك، فأضِئْها كي لا يعرف المنزل الذي تحمله على رجليك ظلمة بعد اليوم..!! أطلقْ روحك كي تصدح معنا.. نحن في روابينا وأنت في روابيك....! لا تنعبْ كيلا يقول الغراب: إنّ لنا رفقاء أوفياء من بني البشر، يحسنون النعيب مثلنا.. ونفوسهم تلبس ثيابا سودًا كثيابنا، لكنّهم لا يبيتون مثلنا فوق أعشاش الخراب..!!!
... أيّها القانطون اليائسون، والأحياء الميّتون في الأرض!! لو أنّكم أنصتّم يومًا إلى الّذين ذهبوا من هذا العالم، لسمعتموهم يقولون لكم تحت التراب: ما ندمْنا على شيء في حياتنا الماضية أكثر من ندمنا على ضياع أعمارنا يائسين ، يوم خدعتنا الكآبة ، وسرقت منّا بهجتنا وفرحنا ، حين كنـّا في منازلكم ، وجعلت ظلمة حياتنا أشدّ من ظلمة القبور التي نقيم فيها هنا في انتظار يوم الدينونة...! وإنّنا يوم وردنا مطاحن الموت بين زحام الموتى الذّين تدافعوا على الأبواب، لم تشفع لنا عند المطاحن دموع نزَفـَتـْها عيوننا على ما ضيّعت أيادينا.... وهل أغبى من ضائع يفتّش عن ضائع ، وذاهب يطمع في ذاهب من هذا العالم...! لقد سمعنا يوم جئنا قائلاً يقول لكم معشر الأحياء: تريّثوا أيّها الأحبّة .. لقد فتشنا عند قدومنا عن كلّ ملك جبّار في القرون السحيقة، طغى وبغى، فلم نعثر له على قدْر غبرة واحدة حملتها الريح بمنقارها الى أعشاشها بين الصخور والتلال..!!! هي الرحـى تواصل الطحن ، ولا تبالي بكثرة الحصاد على البيادر ... بل كم رأيناها سخرت بالحبّات التي جاءتها من حقولكم مبلّلة بأمطارالدموع ..!!! فلا ينبغي على شبابكم ـ والحال كذلك ـ أن يبكي طفولتكم اذا ولـّـت، ولا يحقّ للكِبَر أن يندب الشباب إذا رحل.. إنّ لكل عهد بشائر وذخائر غير موجودة في العهد الذي انقضى.. فما أُحَيْلـى أن يكون واحدنا آنية يجمع فيها بين الطفولة والشباب والكبر.. إذا استفاق الطفل ببراءته رقد الشيخ بلوثته..! وإذا نهض الشاب بطيشه قام له الشيخ بعصاه يؤدّبه، لتبقى الحياة شجرة عطر يتضوّع أريجها دائمًا فوق رؤوس الذين جلسوا تحتها ليستريحوا من وعثاء السفر لكي يواصلوا السير بعدئذ إلى منازل الحياة الأبديّة...!!
...قم وامش يا أُخَــيّ.. مالي أراكَ واقفـًا والناس قد ساروا .. قم ِ احملْ في الحياة زهرة شذيّة وتنشّق من شميمها دائمًا، لتروّح عنك في الدرب كلّ ضَـنـْك وكَــرْب..! إنّ الحياة قبض ريح ، وإنّ بينك وبين الموت دائمًا مسافة هي أقصر من خطوة واحدة، ولو كانت أطول من أميال السنين لو تأمّلتَ وتدبّرتَ ... لا تنسَ يومًا قبل أن ُيلقي بك الموت في أعماق الرّمْس أن تزرع هذه الزهرة الحالمة على جانب الطريق ، لتقول للذين يأتون بعدك الى هذا العالم: مرّ في هذا الموضع يومًا سائح من سُــيّاح الدنيا ، وتركني ههنا في طريقه الى ربّه لأقول للعابرين منكم : إنّ الحياة روضة غنّــاء، وما أشقى الذين لا يبصرون جمالها لأنّ في أعينهم رَمَدًا.. ولا يتنشّقون عبيرها لأنّ في أرواحهم زُكامًا ألمّ بهم بين أسقام هذا العالم...!!!