الثلاثاء 18/10/1444 هـ الموافق 09/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
تكلّمْ أيّها القلم ! ...بقلم : يوسف ناصر

                    ...لئن عصيتَ أمري يومًا أيّها القلمُ لأهجرنّك وأجفونّكَ وأنبذنّكَ وأجعلنّ كلماتي دونك تخرج من رؤوس أصابعي على الورق..!! وأُبلّلنّ أسطري مما تركتَه عندي من دمكَ... وأبنينّ منازلي ممّا أبقيتَه فيّ من جمركَ.. وما همّني  يومئذ لو هبّت من نوافذي  إلى الدّنيا رياح اللّهب...!

           ...ما أبهاكَ أيّها القلمُ ربيعًا تحمل إلى يديّ زهورًا عاطرة من خمائلكَ... أنثرها في طريق الأمل القادم من بعيد.. وأبعث من عطرها كلّ  قارورة للرّوابي والحدائق...!! وما أجملكَ يوم تكون في يدي بستانًا تُنشد عنادلُه على الدّوح أغرودة المحبّة.. وتردّدُ أطيارُه عندلة السّلام لهذا العالم...!

                  ...وما أجملكَ شتاءً... تهبّ العواصف عاتيةً من صدركَ،  وتنهمر الأمطار سيّالة من عينيكَ... ويومض البرق لألاءً من شفتيكَ... لأجلس قرب موقدك في اللّيلة التعساء الشّقيّة بعواصفها، ساعة تصيح الرّياح من شدّة البرد خلف النّوافذ والأبواب...!

              ...مشيتَ معي أيّها القلم وقطعتَ بصحبتي على السّطور أميالاً  بعيدة.. تصعد بي إلى القمم... وتنحدر في الأودية، وتجري ورائي فوق السّهول...!! لله أنتَ..!! لم تسأمِ السّير أعوامًا على الطّريق.. ولم تتبرّم بالأحمال الثّقيلة الّتي حمّلتكَ بين الهضاب... وما أطولَ أناتَكَ وأعظمَ صبرك على الحرّ والوهج، إذلم تتسخّط مرّة واحدة يوم كان الماء يشحّ على الظّاعنين في عمق الصّحراء...!!! 

                ...وما كان أعظمَ مسرّتك ساعة كان اللّيل يدركك في الطّريق...!! وتتدلّى مصابيحه فوق كتفيكَ.. ويعثر القمر السّائر تحت الغيوم برأسكَ .. وتخرس ألسنة الجبال والأودية كلّها في ظلمةٍ ما سكتتْ في كلّ مكان إلاّ لتنطق من فمـك..!! هنالك مع اللّيل وأمام أعين هذا الضّيف المسافر وعابر السّبيل ، وعلى لمع الأفكار وومض المشاعر.. تبوح إليّ بما تخبّىء في صدركَ من أسرار وهواجس.. وتستخرج ما تدفنه في كنوزكَ من درر  ولآلىء...!! وهنالك على الطّريق، والغيم يمرّ إزاءنا بين ذاهب وراجع.. نسمر كلّ ليلة أنا وأنت واللّيل ، ندامى يتساقون خمرة لم يشربها شارب.. يفرّج حديثك همّي.. وتحمل سلواك غمّي حتّى انقضاء تلك السّهرة الصاخبة بالضوضاء...!

               .. ما أعظمكَ تَخرُج روحي كلّ يوم من فمكَ...!! وينطلق صوتي من لسانكَ..!! تحمل دائمًا عقلي بيمنــاك، وقلبي بيسـراك وتذهب بهما لتسقي منهما حقولك الفسيحة على الورق ..!

                       ... يا تِــــرْبَ طفولتي ،  وعشيرَ  صبايَ ، ورفيـقَ الدرب في ألَق الشّباب..! لقد صُنتُ كبرياءك، وحفظتُ شرفكَ، ولم أرضَ هوانًا لك يومًا..!! فلم أكلّفك أن تذهب في الدّروب إلى الجوائز المجهّزة كسبًا للمال..! ولم أصعد بك إلى المنابـر المأجورة طلبًا للشّهرة..! مِن حيث أعلم أنّ الشّهرة غادة حسناء لا تؤخذ اغتصابًا بالثّرثرة.. ولها قلب ينفـر من كلّ خاطب يرومها قسرًا.. بل إنــّـها تعدو هاربة بفزع حفاظًا على عفّتها  أمام كلّ من يعدو وراءها ليخطب ودّها  كرهًا..!! لكنّها ما أرقّ قلبها يوم تأتي مشتاقة شفّها الحنين إلى كلّ من وَجَدَتْه يستحقّ حسنها وتاجها من كلّ فارس أغرّ، ما خلقته السّماء لأمر إلاّ ليركب القلم وثّابًا بين فوارس الكلمة الباقية في الدّنيا، والخالدة في الأرض ما بقي العالم...!! وإنْ كنتَ أيّها القلم في شكّ مّما تسمع..  فقم اذهب  عاجلاً إلى الزّمان وتعقّب عنده خبر هذه الغادة الحسناء..!! إنّه لا ريب يريك بأمّ عينك، كم من الأقلام في الأمم رمت يده في بالوعة الهلاك والعدم ..!

                     ...يا مُؤنسي في سجوني.. وما أشدّ ظلامها تلك الـّتي تكون بغير قضبان وأبواب مقفلة ..! ويا شريكي في قيودي.. وما أقساها تنكَأ عظمي تلك التي تكون بغير حلَق وزرَد ..! أنا لم أرضَ بكَ يومًا حطبًا يابسًا بيدي.. لكنّي رضيتُ بك غصنًا فينانًا نبَتَ في كفّي، وأورق بين أصابعي، ويُلقي دائمًا من ثماره اليانعة فوق رؤوس الجالسين تحت الظّلال..!!

                            ...لا أرضى بكَ معوجًّا في يدي.. بل مستقيمًا تنطق بالحقّ وتبشّر بالسّلام  وتكرز  بالمحبّة بين النّاس ...!! لم أرضَ بكَ إلاّ صادقًا تتكلّم صريحًا من نبض قلبك.. لا كذوبًا تقول للنّاس غير ما تضمره تحت جوانحكَ ...لا أحملكَ في يدي خنجرًا يطعن المحبّة في ظهرها وهي سائرة إلى النّاس.. بل حملتكَ نبراسًا يتألّق في وضح النّهار، ويتوهّج في ظلمة اللّيل الحالك...!!  أبَيْتُ أن  تكون في يدي مراهقًا مِن المراهقين يحجب عن الناس قحطه وجوعه وعطشه بحديث يهيج الشبَق، ويفتح الأبواب أمام الشّهوات كي تخرج طليقة من القفص...بل أردتك عَفًّا طاهرًا منزّهًا عن كلّ عيب ودنس، من حيث إنّ للكلمة عندك قداسةً، ولا تخرج من فمك وتدخل آذان الناس يومًا إلاّ نقيّة طاهرة الملابس والثّياب...!!

                  ما رضيت بك عندي مغرورًا... مستعليًا... تحسب نفسك نسرًا وأنت بُغاث.. بل أردتكَ متواضعًا تكبر في صغركَ وتعلو من ضَعتكَ.. وتلميذًا يتعلّم في مدرسة نملة.. ويتفيّأ في نور شمعة...!! يسمع الحكمة من لسان الزّمن الّذي لا يسكت.. ويحمل للنّاس صوت صارخ هامَ في بريّته ليسبّح ويرنّم دائمًا من أجل الملكوت والمجد العتيد...!!!        

                         ..أيّها القلم الحبيب...! لا أبيعك يومًا لأحد، ولو وضعوا في يدي عوضًا عنك أصابع من فضّة وذهب...!! ولا أعطي حبّة واحدة من عقلك في أيّة سوق كاسدة ، ولو حملوا إليّ على ظهورهم جبلاً معجونًا بالُمــرّ والعسجد... كذلك لا أرميكَ من يدي، ولو منحوني ألف عام عمرًا مديدًا تتوالى عليّ فيه الأعوام واللّيالي..!!

                ..أيّها القلم الحبيب..! لقد سقيتكَ وأطعمتكَ وربّيتكَ في حِجري زمنًا.. وكم طابت سياحتي معك في كلّ بلد...!! إنّي أعلم أنّك امرؤ وفيّ لا تخفـر ذمّتك يومًا، ولا تنسى صاحبك إلى دهر الدّاهرين مهما طال بينك وبينه أمد الفـراق.. حسبُكَ أيّها القلم..! تجمّـلْ وتماسكْ.. تهيّـأْ واحبس دمعتك ولا تجزع ممّا أقوله لك: لا تأسَ أنه سوف يأتي يوم لا تلقاني هنا معك ، تسأل عنّي فلا تجدني..!! وطِّنْ نفسك من الآن أيّها الصّاحب على أنّك سوف تبقى وحدك دوني، واقفًا كلّ حياتكَ، تحمل بيديك قواريـر الطّيب قرب الأنصاب في ذلك الموضع النّائي، كي تدلّ بها علـيّ كلّ زائر جاء من بعيد يسأل عن قبـري..! هنالك حيث يلتهم الموت رفاتي في أعماق التّراب ..!

 

2020-07-21