الخميس 9/10/1445 هـ الموافق 18/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
بغداد لا تسقط من الذاكرة!!! .... عبد الهادي شلا

 منذ كنت طفلا في سنوات المدرسة الأولى ، ومن خلال ما كان يُملى علينا في مناهجنا التعليمية من روح الأمة العربية الواحدة والروابط التي تجمعها ،منذ تلك السنين البعيدة جدا شعرت بزرع أخضر ينمو في قلبي يجلله عشق كبير لمدينتين عربيتين بشكل مميز عن باقي المدن وهما مدينة بغداد في العراق ومدينة دمشق في سوريا ،وكنت دائما أتمنى زيارة هاتين المدينتين الأمر الذي لم يتحقق إلا في أواسط سبعينيات القرن الماضي.

 

من ذا الذي لا يأسره تاريخ هاتين المدينتين العريقتين بكل ما تحمل الكلمة من معنى؟!

 

ومن لا يعشق حضارة عظيمة مثل التي مازال العالم مبهورا بما تحتفظ به من عظمةعلى مر القرون.!!

 

مع بداية خطواتي الأولى في عالم الفن التشكيلي أتيح لي زيارة هي الأولى إلى مدينة بغداد مشاركا في أول معرض للإتحاد العام للفنانين التشكيليين العرب،وكنت صغيرا حديث التخرج،ولم أكن قد قابلت أي من الفنانين التشكيليين العرب الكبار سوى الذين تتلمذت على أيديهم في مصر وهم رواد مميزون عربيا وعالميا،فكانت هذه الزيارة هي الأولى والتي وضعتني في مكان بين الكبار الذين ملأوا القاعات حضورا بشخصهم وأعمالهم فكانت فرصتي للإستماع والتعلم والإستفادة من خبراتهم و مشاركتي بعمل بجوارأعمالهم.

 

دائما كنت أسمع مثلا شعبيا يقول: الكبير ..كبير بعمله و مواقفه !!

 

هذا المثل تجلى في سلوك هؤلاء العظام الذين كانوا لا يبخلون بالكلمة والابتسامه الجميلة لكل شاب مثلي يشق طريقه ليكون جزءا من الحركة التشكيلية العربية الناهضة.

 

كان التواضع سمة لا تغفلها العين وقد أصبت منها مكانا بقربي منهم و توطدت علاقتي بهم فيما بعد على مر السنين ومن خلال لقاءاتنا ضمن المعارض العربية أو المؤتمرات الفنية .

 

لماذا هذه المقدمة؟!

 

الحياة بما فيها من فرح وحزن لها طقوسها التي لا ترحم إن غضبت فهي تطيح بالكثير ممن عمروا الأرض بعطائهم وحبهم وتفانيهم في سبيل الإرتقاء بالإنسانية من فنانين وأدباء ورجال سياسة وقادة ومن أهل العلم والمعرفة.

 

في بغداد تعرفت إلى فنانين كثيرين لا يتسع المجال لذكر أسمائهم هنا وقد رحلوا عن عالمنا بعد أن تركوا بصماتهم في عالم الفن لا يمكن أن تغيب عن الذاكرة وستبقى أعمالهم إرثا يتداوله الأجيال الواعية بالقيم التي فيها،وستبقى سيرتهم تعطر المتاحف والمؤسسات والبيوت التي عُلقت فيها أعمالهم بجمالها وفكرها وقيمتها.

 

من أصعب اللحظات على النفس يوم أقرأ عبر وسائل التواصل خبرا عن فقدان فنان كبير ممن عرفتهم وجالستهم وتحاورت معهم فاكتسبت من خبرته سلوك الفنان الواعي والناضج وطريقة التفكير التي أخذتني إلى عالم السمو والجمال .

 

منذ أيام تناقلت الأخبار خبر وفاة فنان المغرب العربي الكبير محمد المليحي،كنت قد إلتقيته في بغداد أكثر من مرة و في الرباط ،فكان وقع الخبر قاسيا ، وفي سنوات قبلها وعلى أرض بغداد التقيت أساتذتي الذين انتقلوا إلى رحمة الله، الفنان المصري حامد ندا و الفنان ممدوح عمار ،والتقيت بمن صاروا أصدقائي من فناني العراق أيضا و رحلوا كل من الفنانين إسماعيل فتاح و إسماعيل الشيخلي و نوري الراوي و جميل حمودي و النحات العظيم محمد غني حكمت وغيرهم رحمهم الله.

 

لم يكن عشقي لبغداد منذ الصغر عشقا عابرا بل كان حلما تحقق و حضورا مازالت ذكراه تتجدد كلما تذكرت هؤلاء العظماء.

 

فالمدن التي تترك فينا أثرا ونترك فيها خطواتنا مثل بغداد العريقة ..لا تسقط من الذاكرة .!!

2020-11-11