مهنة الكاتب ليست سواراً من ذَهب " ..
وقد لا يكون قلمُه ..قلادةً من فضّة .
لكنه يملك قلباً يسافرُ على قدمين إلى غير وُجهةٍ ..
يهيمُ على وَجهِهِ ...ملقياً بروحه في عرضِ البحر ،
غير آبهٍ ببوصلة او حتى شهادة تأمين ...أو حتى تذكرة رجوع . فيسلكُ أقصرَ الطرقِ نحو الشّقاءِ الكامل ..
وبكامل سعادةٍ ، خالعاً عن صدرهِ طوقَ النجاة .
رغم خوفي الشديد منه ومن الظلام الذي يسكنهُ وحكايا الوحوشِ المتعطّشةِ للدّماء .. المتربّصةِ والرابضةِ في قعره ،
إلا أنه طالما كان كأسُ إلهامي والقاعُ الذي أهوى إنتشال المحارَ من عتمةِ كهوفه . فَكلّي قناعةٌ وإيمان بأن الأدبَ الخالي من الأدب الجاهلي .. هو بحرٌ ميّت .
.. لستُ أدعي البطولةَ والفروسية ..فأنا أعترف وبكلّ شجاعةٍ ، بأنّني أرتعدُ خوفاً حين يداهمُني بأمواجه العاتية وبراثنه المزمجرة ، لكنّي وفي كل مرّة ..أزداد رغبةً بأن أكون بحّارةً ، ( لكن على طريقتي ) ..فأشتهي وبشدّة معاينةَ الموتِ في خِضّمِ موجهِ الصّاخب ..وطالما عدتُ مُشتّتةَ الرّوحِ ، وطالما عادت الأوراق جافّةَ الملامح ، والحروف مُتكسّرة ، ولا تزال الأحلام على قيدِ بَلل .
...لم يكن جدّي بحّارا منذ زمنٍ مضى ولا أذكر أبي كذلك . لكني إبنةُ البحرِ ، وحِبري ماؤُه المالح ..وملامِحي الحنطيّة
أصدافُه ، وَقلمي .. صخورُه الصامدة والعنيدة
تعلّم أن يعشقَ العواصفَ ، وأن يتقنَ مهارةَ الصراعِ مع الوحوش ..وأن يجولَ ويصولَ في ميادينِ الحياة ،
وأن يكون بحّارا .. لا مجرد زائرٍ في ميناء .
فأن تكون بحّارا ..
لا تعني بأن تملكَ شِباكَ صيدٍ متينة ..تُلقيها مُتعمِّدا ...
طامعاً في شريحةٍ كبيرة ، ولا أن تكون هاوياً يجلس القرفصاء فوق صخرةٍ ، يَعدُّ ساعات المَلل ..
ممسكاً بكسلٍ صنارةً ، تنتظرُ قدومَ سمكةً صغيرة شقيّة ربّما كانت عابرةُ سبيلٍ ، وربما يتيمةٌ تُركت على قارعةِ الطريق .. قد نال منها التعب ، وأضاعتها خطى المسار .
بل قلباً يدوسُ بقدميه فوق رمالٍ حارقة ، تمتدُّ على طولِ شاطيء ..قد إجتمعت ذرّاتُها ..آتيةً من كلّ أفق عربي .
فتعانقتْ مُبتهلةً إلى خالِقها ، تتلو صلاةَ الوِحدةِ ،
وتردّدُ ترانيمَ الأمل .. وتُقبّل جبينَ الوطن .
ثم يغمسُها في مياهِ البحر المالحة ..فتلمسُ جراحَه الماضية ، وندباتِه المتراكمة ، والتي لم تلتئم بعد .
فيشعر برعشةٍ ، ينشقُ فيها رائحةَ الأَرزِ ، والبُنِّ ،
والقمح والنخيل ، والَصفصاف .
فتخشعُ الشمس خجلاً ، وقد تذرفُ دمعةً أخيرةً من عيونِها الناعسةِ ..ثم تلقي بوشاحِها فوق معبدِهِ .
...طالما وقفتُ أنا على اليابسةِ ، وطالما أقامَ البحرُ هناك .
فأدركتُ بعد طولِ إنتظارٍ ، لم تُحدّد نقطةُ البدايةِ فيه .. ولم يرسم خطوطَ النهايةِ بعد ، بأن المفرداتِ
لم يعد بوسعِها أن تحملَ أعباءَ تلك الأحلامِ المبلّلة ،
المحملّةِ بالمعاني ، والغارقةِ بالأماني ..
فإخترتُ التوضّأَ في بحرِ الجنونِ ..
وآثرتُ الصلاةَ .. في هيكلِ الصمت .
فإمّا أن يأتيني هو ..
وإمّا ...أن أرحلَ أنا إليه !
" صلاة على شاطيء الحلم "
" حلم على ناصية الحنين "
نجوى