الأربعاء 19/10/1444 هـ الموافق 10/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
أبجديّات وطن نازح.. بقلم : نادين فراس ياغي / القدس- فلسطين

أبجديّات وطن نازح.. بقلم : نادين فراس ياغي / القدس- فلسطين

المقدّمة:

أصلُ الوجود

يُحكى أنّ فراشاتِ الخلق الأوّلِ قد حَملت على أجنحتِها ستّةَ حروفٍ، أثمرتْها شجرةُ الأبجديّةِ المُقدّسةُ في حدائقِ السّماواتِ السّبع.

نفخَ اللّهُ الرّوحَ في الجسدِ، وسقطتِ الفراشاتُ على أرض الميعادِ، فتمزّقتْ أجنحتُها، وتبعثرتِ الحروفُ في أحضان التّرابِ العذريّ، حتّى سقاها الخالقُ قطراتٍ مباركةً مِن نبع جنّاتِ الخلود .

امتزجتِ الأرض بالحروفِ السّتّةِ، واتّحدَ الدّمُ بالحجر، حتّى خُلقتْ فلسطينُ من روح الوطن والجسد، وصارتْ عنوانَ القسَم الأزليّ والوعدِ الأبديّ.

فلسطينُ هو اسمُها السّماويّ، وفلسطين هو اسمُها التّاريخيّ، وبينَ النّزوحِ والشّتاتِ والشّهادة، سيبقى فلسطينُ اسمَها السّرمديّ.

الفصل الأوّل: فاء البداية

فارس- مجزرة دير ياسين نيسان 1948

نادتني رايةُ التّرحال، هناكَ على مداخل القدس الشّريف المزخرفةِ بحكاياتِ الصّمود الياسينيّ، واستوتِ الجبالُ طريقًا أمامَ هزلِ عينيّ، وهي تعكسُ غضبَها في مشهدِ مجزرةٍ، شبحُها عالقٌ في سوالفِ الحاضرِ الأزليّ..

في سبيلِ الآلامِ مضيتُ، بخطىً تتأرجحُ ما بين عقاربِ السّاعة الثّالثة فجرًا وبين أيّام شهر ابريل الحزين، وجثامينُ صرخاتِ الطّفولةِ المفقودةِ يُدوّي كطلقاتٍ ناريّةٍ، تتقاذفُ بلا رحمةٍ على مرأى عينيّ..

مزّقتْني أحشائي افتقادًا وحدادًا..

ومَضتْ في دمائِها علاماتٌ خُطّتْ من محبرةِ الأمل الأولى، على خارطةٍ كادَتْ أن تدُنّسَ تحتَ وطأةٍ احتلالِ صهيونيّ..

انتفضتْ ذرّاتُ الغبارِ عنها فجأةً، واذا بها تومئُ لي بالدّخولِ إلى مَعابرَ شُقّتْ في تاريخِ الثّماني وأربعين، وعلى كتفيَّ بقجةٌ تحتضنُ في جوفِها مفتاحًا رصينا..

جلستُ على أطلالِك دير ياسين، وفي الفؤادِ أمنيةٌ مِن نسجِ الخيالِ القَصيّ، فلمعتْ في السّماءِ نجومُ الأمس ِ الأسطوريّ، واستحضرتُ في بريقِها الشّجيّ أرواحًا ما زالتْ تَزرعُ الخصوبةَ بلا كللٍ في ترابِكِ الطّاهرِ الأبيّ..

وقفتُ على طُلولِ البيوتِ التّي أضحت قبورًا لعائلاتها، وتراءتْ ليَ الأنامل وهي تحفرُ الأرضَ فزعًا مِن زلزالٍ قد هزّ سكونَها، فاندثرتْ دموعي خجلًا من البكاءِ،  فليسَ منديلٌ من الكلماتِ المرموقةِ يقوى على لمسِ مشاهد الجزع التّي أراها حولي الآن وغدًا وبعدَ ألفِ سنة..

كهوفٌ متنوّرةٌ بغثيانِ الأفكارِ في انتظاري، وخنادقُ من توابيت الأموات تتلثّم بقنوطِ رواياتي..

ترسو الخطواتُ في ميناءِ الماضي، وترقدُ الأيّامُ بدوْرِها متناغمةً مع سكينةِ مياهِ الزّمانِ العكرةِ..

تتلاشى الثّواني مُنكسرةً تحتَ أمواج كلِّ مكانٍ كادَ أن يُقيّدَني ويُكبّلَني بسلاسلَ مِن الحُرّيّة.. والرّايةُ ترفرفُ في سماءٍ يَشقُّ رحمَها مولودٌ شَرِهٌ للحياة، تحتَ طيفِ سباتي فوقَ الغيوم التّي تتسلّلُ بأشكالِها المُبعثرةِ حول ستائرِ عينيّ، لتصبحَ ضبابًا مُلتفًّا كمشنقةٍ حولَ عنقي..

أُلبّي نداءَ صيحاتِ الأرقِ التّي ارتسمتْ سرابًا في وسطِ صحراءِ السّكونِ المقفهرّة، في نزاعِها مع واحةٍ من نسجِ خيالٍ أُمِيِّ الوجود..

و... أغرقُ في دوّامةٍ مِن بياضٍ ناصعٍ يُعمي المستحيلَ بنثراتٍ مسروقةٍ مِن المُحال.. لأجدَ نفسي في جوفِ المجهول،

قبلَ أن يغرزَ تاريخَهُ إرثًا في ترابِ الوصول..

اقترابٌ بعيدٌ يَحكمُ ترحالي.. وما تزالُ الرّايةُ تدنو من هيكلٍ؛ قُدسيّتُهُ مفقودةٌ..

ابتعادٌ قريبٌ يَغمرُ كأسَ مُدامي.. وقطراتُ الارتواءِ جفّتْ سكرتُها هباءً، ودونَ انتشاءٍ مزعوم..

حكايةٌ تلوَ حكايةٍ تَسردُها خفافيشُ اللّيل، والقمرُ خانعٌ تحتَ حُكمِ فضاءِ الفوضى، يتخبّطُ مُقيّدًا بسلاسلِ الشّهب المتجانسةِ، في فراغٍ يملؤُها حُبًّا مهزومًا قبلَ السّقوط..

أنامل السّنابلِ الذّهبيّةِ تتراقصُ خوفًا ورَوعًا، في حقولِ نيران البطش، كلّما مددتُ يدي لتلتمسَ جزيئاتٍ من خلجاتي المتسارعةِ في مكانها، خلفَ قضبانِ زنزانة عقلي المهترئ، وأمامَ جذورِ الوطنِ المشتعل..

السّنونَ مضتْ ولم تمضِ، فكيفَ الخروج؟

الانعكاسُ قد أيقنَ أنّ ملايينَ الشّظايا لن تُلملمَ فحواهُ في مرآةِ الحساب، حيث أنّ وقودَها يضرمُها اشتياقٌ ناريٌّ، لجسدي المتلثِّمِ تحتَ قناعِ جلدٍ تآكلتْهُ تجاعيدُ الضّنك والشّجون..

السّنونُ لم تمضِ ومضتْ عبثًا، فكيف المكوث؟

السّنونَ تتبعُها سنينَ، وطائرُ سنونوّ وجدانيٌّ يُقطّعُ جناحيْهِ إرَبًا، ليُحّلقَ هبوطًا وراءَ قسمِ خيانةِ النّفس لنفسِها أمامَ مذبح الوعود..

لك سلامٌ أيّتُها الرّوحُ السّفيهة، فكلُّ عروشِ الممالكِ تستهويكِ، ودونَ صولجانٍ يأويكِ مِن الوحوش..

سلامٌ عليكِ حتّى مطلعَ الفجر، فالضّحى قد عجزَ في سباقِهِ معَ دورانِ الأرض، وسجدَ خاشعًا ليتوبَ عنهُ الصّباحُ، قبلَ أن تتنفّسَهُ الشّمسُ شروقًا مزعوم..

اِسدِلي ستارةَ عينيْكِ كفنًا، فالمنيّةُ تتوراى خلفَ هضبةِ الصّيرورة، وما عليكِ سوى البلوغ..

فلسطينُ أنجبتْكِ وطنًا ياسينيًّا مُخلّدًا، فلا تفزعي من كَربِ الوَحشةِ أبدًا مهما اشتدّتْ ألوانُ الجُزوع، والقَدَرُ قد أهداكِ الشّهادةَ عرسًا، فلا خيارَ أمامَكِ سوى التّشبّتِ بزيتونةِ الصّمود..

أدركي غايتَكِ دوْمًا.. وإنِ اضطررتِ للّجوء، كوني على يقينٍ ثابتٍ بأنّ الأمل لن يَكلَّ عن احتضانِكِ، ولو عشتِ الحياةَ شتاتًا وغيابًا حتميَّ الرّجوع.

الفصل الثّاني: لامُ الانتظار

ليلى- صبرا وشاتيلا أيلول 1982

داهمتْني عقاربُ السّاعةِ في تناوبِها على حراسةِ  زنزانةِ الزّمن، حتّى لا يلوذَ بالفرارِ إلى موطنِهِ  البعيد..

في كلِّ ليلةٍ أجدُها تترقّبُ انسدالَ ستارةِ عينيّ، تباغتُني،حتّى تتسلّلَ أناملُها لمضجعي اللّيليّ..

خاسئةٌ هي في مناورتِها، ولكنّها لا تكلّ..

ساذجةٌ هي في محاولاتِها،إلّا أنّها لا تشيحُ ببصرِها عن مبتغاها ولو بعدَ حين.. فالزّمنُ أسيرُها، والماضي جليسُها، والمستقبلُ فقيدُها، وأنا حاضرُها، فلا جدوى من مقاومةِ الأمس، و جدوى من المقاومةِ الآن ولا غدا....

صريحةٌ هي في عباراتِها، لا تُنمّقُ المعاني، ولا يَعينها أيُّ لسانٍ فصيحٍ كنتُ قد تداولتُهُ، في رجائي لها بالتّوقُّفِ عن الدّوران المستمرّ..

بعيدةٌ هي في قربِها ..لا تدنو مِن خلجاتي ولا تهجرها، إنّما تبقى غائرةً بمُحاذاتي، كالظّلِّ تُصاحبُني دونَ أن تلامسَني، فإلى أين بوسعي الفرار منها في ملاحقتها التّي لا تتحدّدُ، بل فقط تتجدّد..

تتلوّى صيرورتُها على مرأى مِن مقلتيّ.. وبراعمُ سواعدِها تتثنّى، كلّما أزهرَ القمرُ كسوفًا قسريّا..

تُجالسُني أحيانًا، وتُحدثّني عن تجوالِها في الثّقب الذّي انبثقَ منه الخلْقُ، يومَ أجهشَ العدمُ لوعتَهُ استكانةً، وانبثقتْ مِن حرقتِها الحياةُ صبابةً، حتّى أصبحَ الوجودُ غمامةً، تعبُرُها السّماءُ شروقًا وغروبًا كلَّ يوم..

تُناجيني حتّى لا أبرحَ هذا الجمودَ.. تُداعبُني في سباتي، فأراني أتقدّمُ نحوَها طوعًا، وإن كانَ الموتُ في انتظاري في عالم الأحلام، حيث الرّضوخُ يستعطفُني بتنهُّداتِ السّلامِ والطّمأنينة.

 تُسامرُنا.. حتّى أصبحنا خليليْن..

ومضيتُ معها كما تمضي الثّواني بدَوْرها،  قبل أن تقعَ في مصيدتِها، و قبلَ أنْ تتوقّفَ عن  ذلكَ الدّورانُ المستمرُّ الأبديّ.

مضيتُ بخطىً تتوالى على ناصيةِ الطّريقِ استعجالًا وابتدارًا بلا تمهّل.

مضيتُ وظلَّ الماضي يُحاكي خطواتِ الحاضر، على امتدادِ واجهةِ المستقبل، كلّما مررتُ بمشهدٍ من ذكرياتِ وطنٍ ما، كانَ يومًا قبلَ وصولي إليه.

مضيتُ والسّنين تكبرُ في داخلي، دونَ مساحةٍ للمكوثِ في مكانٍ آمِنٍ يسمحُ بنافذةٍ حُرّةٍ  للتّأمُّل، فالعمرُ ينادي بحقِّهِ الشّرعيِّ في كلِّ خُطوةٍ ينبضُ بها قلبي، وفي كلّ مسافةٍ تشهقُ بها رئتايَ بعضًا من هواءِ حياةٍ آنيّةٍ بوجودِها الدّنيوي، فلا سبيلَ سوى المضيّ قُدُمًا، وإن كانَ بالرّجوع عكسًا، فإنّي قد خُضتُ هذا المضيّ طوعًا وغصبًا، وإن ما زالتِ الرّوحُ تحنُّ للاضمحلالِ في هاويةِ سكونِ مصيرِها الحتميّ يومًا.

أصبحَ المرءُ شخصيّةً خياليّةً، مِن صُنعِ أوهامٍ زُرعت في بستانٍ معطّرٍ بخريفِ الحقيقة، وأتقنَ البشريُّ دورَهُ إنسانًا، حتّى أصبحتِ الإنسانيّةُ دِيكورًا أو شطورًا تُلقى على خشبةِ مسرحٍ كاذبٍ، وتُمحى وتُنسى حينَ تُسدَلُ ستارةُ الإعلام، والجمهورُ يُصفّقُ يوميًّا وروتينيًّا، والهُتافاتُ تتصاعدُ على سُلّمِ موسيقى الفوضى واللّاجدوى.

مشهدُ مُتكرّرٌ محبوكٌ يُعاد، حتّى خُدّرتِ الحواسُّ وفُرشتْ بطيفٍ مِن السّبات.. ألسِنةٌ تُلقَّنُ بعباراتٍ مُنمَّقةٍ من نسجِ الاحتيال، وفكرٌ مشوّهٌ بذكرياتٍ مُبعثرةٍ من الماضي البعيد الذّي لا حول له ولا قوّة في هذا الحاضر الغريب.

حياةٌ ليستْ بحياة، إلّا أنّ المسرحيّةَ قائمةٌ لا محال، فالبشريُّ الدّميَةُ يرفضُ أن يَخلعَ قيودَ الاستعباد الفكريّ، فكيفَ له أن يُحرّرَ جسدًا كانَ أو وطنًا مِنَ استبداد..

دعونا من شعاراتِ الأمس، وكفاكم تلقيحًا للعقول ببذورٍ فاسدةٍ باطلة، تُفشي سَقمَ الغفلان والنّسيان في ما تبقّى من أرضِ الحُرّيّةِ والسّلام.

وبالرّغم من جهود الجمودِ التّي استعمرتِ اللّيلَ، وحرمتْهُ من وحي ضوءِ القمر، ومن ومض نجوم الإلهام، لم تمُتِ الأحلامُ بَعد، فهي مُختبئةٌ في مضجعِها بين صفحاتِ الأدب وسطور الشّعر، وبالرّغم من دويّ قنابلِ القنوطِ حولنا، ما زال هنالك صدىً لذبذاتٍ، تتوقُ لصوتِ الصّباح المتجدّدِ تحتَ سماءِ الغد القادم ولو بَعدَ حين.

الفصل الثّالثّ: سين الحنين

سلوى- غزة كانون الأوّل 2006

هكذا إذًا… سهمي المخمليُّ تنقصُهُ حِدّةٌ في رأسِهِ، وحسامي المصقولُ يُعاني مِن عمى السّرعةِ في حركتِهِ الانسيابيّة.

هكذا إذًا… شهابي النّاريُّ معزولٌ في كتلةٍ من جليدٍ خرافيّ، ومُذنّبي الحارقُ يفتقرُ إلى حرارةِ الاشتعال، ليَضرمَ بها لهيبًا كتذكارٍ من رحلتِهِ التّشاؤميّة.

هكذا إذًا… حجري الصّموديُّ تُلاطمُهُ أمواجٌ دخيلةٌ غير مألوفة، وجبلُ شموخي اخترقتْهُ نسمةٌ مِن انصياعِ الشّمسِ عندَ المغيب.

هكذا إذًا…وطني احتُلّت خريطتُه، وأرضي نُفيتْ في خيمةٍ تحتَ تضاريسِها.

وأنا لا أزالُ أُرتّلُ حروفًا صدئةً مهترئةً، كسواكٍ انهالتْ عليهِ أسناني بمللِ الواجب.

وأختي كما هيَ جالسة، تُركّبُ قطعًا مستترةً في محاولةٍ عبثيّةٍ، لتقودَ حُلمًا خلفَ آثار درّاجتِها الطّفوليّة..

وأبي مثل ما كان دومًا، نصبٌ مِن منحوتاتِ الثّورة، يحكي تاريخًا بصمتِ القنوط.

وأمّي أيضًا، تشاركُنا في جمودِ توقُّفِ الزّمن راكضةً في سباقٍ مع همومِها.

أمّا قلمي فهو العاملُ المتغيّرُ الوحيدُ في فوضى اللّا شيء، كلَّ يومٍ يخسرُ مِن كمّيّةِ حِبرِهِ، بسبب إضرابِهِ عن ترْكِ الكلماتِ معلّقةً على حبلِ الانتظار، ككومةٍ من ثيابٍ مُجرّدةٍ تروحُ وتجيءُ، بأمرٍ من رياحٍ غربيّةٍ كانت أم شرقيّة..

هكذا إذًا… وبدلًا من الضّياع في متاهةِ الأيّام المتشابهةِ، وفي عشوائيّة مضيّها، اختار قلمي أن ينزفَ دمَهُ الأزرقَ أجيالًا من الرّسومات المفهومة، لعلّ وعسى تجذبُ انتباهَ مُشترٍ، وتُعلَّقُ تحفةً أثريّةً في متحفِ عقولٍ متنوّرة، ولكنّ العروقَ على وشك أن تجفَّ مياهُها تحت أشعّةِ الإحباط، والدّماءُ تكادُ أن تُكوّنَ تجلّطاتٍ متشوّهةً، تحت رعايةِ أدواتٍ طبّيّةٍ وعنايةٍ بشريّة، بمعنى آخر؛ تحت شفقةِ مشنقةِ الانتحار.

هكذا إذًا… كلُّ ما أستطيعُ سردَهُ في خطورةِ الرّوتين العربيّ من هذا السّكوت، هو تنهّدات عاشقٍ حُرم من بريق عينيّ الحبيب فأقول: 

هكذا إذًا… عيونُ حبيبي خسرتْ بريقَها في دموع التّرحال، ومعشوقي أسيرٌ يئنُّ ألمًا مِن بُعدِ عَلَمٍ:

تارةً أحمرُ غجريٌّ..

وتارةً أخضرُ مَلكيٌّ..

وتارةً أخرى أبيضُ ملائكيٌّ..

وتارةً أخيرةً أسودُ نقيٌّ..

و.. قد يكونُ أحيانًا في دقائقَ معدودةٍ، يُمضيها الحوتُ على السّطحِ قبلَ الاختفاء في أعماق المحيط امتزاجًا رباعيّ، عَلَمًا فلسطينيّ.

الفصل الرّابع: طاء الضّياع

طلال- كفر قاسم- تشرين أول 1956

أغمضُ عينيَّ طربًا بصوتِ وجعي الصّدّاح، فتتلاشى سطور الماضي في تلاليف الظّلام، ويذوي قلبي غريقا في مداد طيف الكلام..

أغلق عينيّ ضنكًا، فقد جافتني الأحلام وربضت في تجاويف النّجوم المنمّقة التّي تدنس حُرمة سواد اللّيل..

أغلق عيني هربًا من الأمواج التّي ماجت تمردًا، لتدمر قصور الأوهام التّي كنت قد شيّدتها على شاطئ رمال الطّفولة..

أيُعقل أنّ بصري قد أصبحَ مجرّدَ مارقٍ على دين الحواسّ؟

أيُعقلُ أنّ عينيّ قد غدرت به وسلّمتْهُ إلى مشنقةِ الإعدام؟

أيُعقلُ أن أُصبحَ كالأعمى الذّي يَذرفُ دموعَ الشّجن، كلّما شهقَ المحاقُ مُتحسِّرًا على نكبتِهِ، يومَ غاضت الشّمسُ بابتسامتِها عنه؟

أيُعقلُ أن أُصبحَ كالشّمعةِ التّي وهبتْ نفسَها لشغفِ النّيران، فأحرقتْها وسلبتْ منها شموخَها، وتركتْها وضِيعةً، تُحصحصُ وتُبالغُ في ذكرى ما كانتْ عليهِ يومًا، مِن زَهْوٍ ورِفعة؟

أيُعقلُ أن أُصبحَ كالجنينِ الذّي أجهضَهُ رحمُ الحياةِ إلى الدّنيا قبلَ اكتمالِ تكوينِهِ، فاقتاتتْ قسوةُ الأيّامِ بنعومةِ

ملامحِهِ البريئة، وكبُرَ ليجدَ وجهَهُ قد تَغضّنَ وتعفّن؟

أيُعقلُ أن أُصبحَ كالأسيرِ الذّي انكفأتْ عنه الحُرّيّةُ التّي قد تلهّفَ للقائِها، يومَ ما كانتِ الوطنيّةُ تأمرُ أولادَها بالبِرِّ  بها وبطاعتِها؟

أيُعقلُ أنّ سمائي التّي كانت ولائمُ الغيومِ عنوانًا لكرمِها، قد أصبحتْ وهّاجةً بعروقي التّي تنزفُ بقايا الرّوح من هذا الجسدِ الهامد؟

أيُعقلُ أنّ أوراقَ شجرةِ السّنديان التّي كانتْ تُظلّلُ مكنوناتِ نفسي المضطربةَ، وتُهفهفُ مُنتشيةً بوعدِ الفرحِ الذّي يتراقصُ بهِ النّسيمُ مِن حولِها، قد سقطتْ بعدَ أنِ استنزفَها جفافُ العاطفة؟

أيُعقلُ أنّ الجسدَ قد أوناهُ وأضعفهُ خبلُ الرّوحُ، فما عاد قادرًا على احتوائِها، فقرّرَ أن يَحرمَها من البصر، لعلّها تتوانى في ضَلالِها وارتباكِها المزمن؟

أيُعقلُ أنّي لا ذاك الجسدَ العطبَ، ولا تلكَ الرّوحَ المرهقة، وإنّما فراغٌ وسْطيٌّ ما بين كارثتيْهما، على هاويةِ الاندثارِ بين حدودِ العدم؟

أيُعقلُ أنّ وجودي مُجرّدُ ظلامٍ وليس نورًا، ليس حقيقةً ولا سرابًا، ليس قلبًا ولا عقلًا، وليس حاضرًا ولا غيبًا؟

أيُعقلُ أنّ وجودي ليس سوى وهمٍ في عدمِ الوجود، وأنّ عدمَ وجودي خرافةٌ من حكاياتِ الوجود؟

أيُعقلُ أنّي انعكاسُ المرآة، وأنّ المرآةَ تُخفي سرَّ حقيقتي في مكانٍ بعيدٍ سحيقٍ، لن أستطيعَ فهْمَ خريطتِهِ، إلّا إذا توّحدتْ لغةُ الجسدِ بلغةِ الرّوح؟

أيُعقلُ أنّي العنصرُ المفقودُ للتّرياق الذّي يَخلقُ مِن تَضادِّها انسجامًا فطريًّا؟

أيُعقلُ أنّ جفونيَ ركعتْ للظّلامِ المُطلَقِ طوعًا وليس قسرًا، لعلّي أُبصرُ ولعلّي أرى فعلًا؟

أيُعقلُ أنّ الجوابَ والسّؤالَ كيانٌ واحدٌ، وأنّي أنا ذاك الكيانُ الموحّدُ؟

أيُعقلُ أن أكون ولا أكون معًا.. حتّى أكون؟

أيُعقلُ أنَ الحياةَ هي روحٌ للموت، وأنّ الموتُ ما هو إلّا جسدًا للحياة؟

امتطتْ أنفاسي خيلَ الإعصار، وبدأتْ أفكاري بالعويل، وأنا أُسلّمُ جثمانَها لقبرِ الوجوم..

ارتمى الزّمانُ خائفًا في أحضانِ المكان، وتوقّفتِ الأرضُ عنِ الدّوران..

تجلّتْ قوانينُ الطّبيعةِ في واحةِ العدم، واصطفّتِ النّجومُ كجيشٍ، لنُصرةِ ثورةِ القمرِ على حُكمِ الشّمس..

نظرتِ الحياةُ في عينيَّ اللّتيْنِ تترأّسا مملكة الشّرق، وتأمّلَ الموتُ في عينيَّ اللّتيْنِ يُزيّنُ رموشَهما صولجانُ الغرب..

أبصرتْ نفسي نفسَها، في انعكاسِ ابتسامتي التّي كانتْ قد مُزّقتْ، وظننتُ أنّها قد شُوّهتْ للأبد.. وفي تلك اللّحظةِ المعجونةِ بصلصالِ المعجزات، وبعدَ سنينَ مِن انحجابِ الرّؤيةِ.. رأيت!

رفعَتْ عينايَ جفونها لتُصلّي إلى السّماء، فلملمتِ الغيومُ نفسَها على عدستي، كالأمواج التّي تَحنُّ لملامسةِ رمالِ حُلمِها الضّائع، ذاكَ الحُلمُ الذّي تبعثرتْ حروفُهُ، وحُرمتْ مِن وطنِها في الجُمل، وبقيتْ مُعلّقةً في دوّامةِ الشّتاتِ القسريّ، تُحدّقُ في قضيّةِ النّزاعِ التّي أحملُها في راحة يدي، لعلّها ترأفُ بها، وتُرتّبُها في سطورٍ تأويها إلى طيّاتِ العدل..

همّتْ أفكاري بالتّنقيبِ في حفريّاتِ الذّكريات، تتقصّى أثرَ هيكلِ وجدانِها المطمورِ في كهفٍ بناهُ سلوان التّاريخ الكاذب، حينَ شقَّ جبالَ الحقائق بجبروتِهِ الانتدابيّ.

أخذتْ أفكاري تتشكّلُ على جدرانِهِ وتتثنّى، تموتُ في جوفِهِ وتحيا.. وما ألبثُ أن أبصرَ معالمَها، حتّى تتلثّمَ بمشهدٍ دمَويٍّ آخر، تدقُّ على قيثارةِ حيرتي مقطوعاتٍ، تَطربُ على مَلاحتِها مُهجتي..

اضطربت الغيوم وتبدّدت كالايتام الضّلّال، وفجّرها الشّفقُ إلى كدماتٍ بنفسجيّةٍ تعلوها أحلامٌ ورديّة..

أعلنَ الشّروقُ قدومَهُ، فبدأ البدرُ بالعويلِ، حينما سمعَ صرخاتِ بزوغ الحُرّيّة التّي يتغنّى الانتقامُ على أحبالِها مُهدِّدا..

وضَحَ الصّبحُ وتجلّى النّهارُ الوضّاحُ، وأرغمَ السّماءَ على خلعِ ثوبِ حِدادِها، تاركًا عُريَها مكشوفًا لكلّ مُتربِّصٍ، وكأنّ ألَمها مرآةٌ لأملِها..

تلحّفَ الشّفقُ بغيرةِ الشّمسِ الصّفراء من القمر، وانبجسَ سقَمُها المريرُ الذّي أصابَها حين هجرَها خليلُها المسائيّ، كالصّديدِ الذّي يتفشّى على وهنِ الجسد، ويقتاتُ برضوخِهِ للمرض، ثمّ يسكبُ نفسَهُ على مصراعيّ بوّابةِ الصّباح، فتتفشّى رائحةُ عَطبِهِ بينَ القضبان، مُمزِّقةً بتلاتِ وعودِ الدّجى التّي لم تحظَ بفرصةٍ لأنْ تُزهر..

اغتنمَ البحرُ الجشعُ خَورَ السّماء، واصطادَ درجاتِ الزّرقةِ كلِّها في شِباكِهِ، كالمجنونِ الذّي يهوى جمعَ المشاعر المتناقضة في فؤادِهِ تحتَ سقفٍ واحد، ينتهكُ الحكاياتِ التّي تسردُها، ويُبعثرُ أبطالَها صَدفًا على شاطئ نشوتِهِ تذكارًا، مُتناسيًا واجبَ احترامِهِ لحرمةِ خيالِ مَن سَرَدَها.

 ألقى الكرى تعويذتَهُ على أشعّةِ الشّمس، فهجعتْ إلى سريرِ سباتها، وغاطتْ في طوفانِ دمِ النّهار الذّي أجهضَهُ الزّمنُ قربانًا؛ يتلمّسُ بهِ قدسيّةَ الغسق..

اقتربَ السَّمَرُ بخطاهُ على خارطةِ المنفى، فالوطنُ باتَ قريبًا، ومرادُ العودةِ تحرّرَ مِن جمودِهِ، وبدأ يدنو من أفقِ الواقع..

تزلزلتِ الأرضُ وكأنّها تتنفّس الصّعداء لأوّل مرّة، وقامتْ بدفن الماضي في باطنِها، فلبّى الحاضرُ نداءَها، وهَمَّ زارعًا

مستقبلًا في رحمها الشّهيد، لتلدَ أشباحَ الأمس القريب، وتحيا في الغدِ البعيد..

أخفضتْ عينايَ جناحيّ جفونِها، لتتقصّى أثرَ سِرٍّ يتقنّعُ العلانيّة، ليسترَ بها شوائبَ حقيقتِهِ الُمعلَنةِ دستورًا، سرٌّ يلتهمُ الغموضَ وليمةً يوميّة، احتفالًا بفحواهُ المحظورِ بوحُهُ، تُقدّسُهُ هالةٌ مُبهَمةُ المصدر، بعيدٌ عنه استيعابي بمسافاتٍ ضوئيّةٍ، رغم أنّه يُحدّقُ مباشرةً في مقصورةِ روحي..

خيّمَ الظّلامُ على الخلق، وأغلقَ بيوتَ الحياة الصّاخبة، وأخذتِ الكواكبُ تعزفُ مقطوعاتِ الشّجن، ليُهمدَ بها بريقَ النّجومِ ويُطفئَها، وقامَ القنوطُ بسكبِ كأس مُدامِهِ على لظى شغفِها، ليُخمِدَ تُوهّجَها المتلألئَ اللّحظيّ..

رَسمَ البؤسُ بريشتهِ طيورًا، تُمزّقُ أجنحتُها أمنيّةَ الهروبِ مع الرّيح، لتتطايرَ بعيدًا عن كنفِ الأغصان التّي تخنقُها في سجنِ اللّا حركة، تُحاول أن تسرقَ ما تبقّى من شفافيّةِ السّماء، لتتسربلَ بها درعًا يَحمي أجسادَها الصّغيرةَ، في معكرتِها لذبح المارد الذّي أخذَ مِن تَشكُّلاتِ الغمائم رهينةً، وأخضعَها لتترتّبَ على هيئتِهِ الموحِشة، عسى أن تظفرَ أجنحتُها المكسورةُ بقبلةٍ من سماءِ الحُرّيّة، وشفتاها تُداوي برقّةٍ الجروحَ التّي عزّزتْ نفسَها ندباتٍ على ريشِها.

أجهشتِ الغيومُ بالبكاء، وذرفتْ دموعَ الانعتاقِ من قبضةِ المارد الّذي قد عنّفَ وجعَها بتجاعيدَ مُكفهرّة، وسالتْ قطراتٌ مِن النّدى، تُسابقُ الورودَ لتُخزّنَها في صميمِها، حتّى تروي بها عطشَها في يومٍ تعبسُ فيهِ الظّلالُ ولا تبتسم..

طرَقَ الضّنكُ على حُجراتِ قلبي، مُكبّلًا بشؤمِ زيارتِهِ نبضاتِهِ بإيقاعٍ؛ يكادُ أن يستحضرَ سكراتِ المنيّةِ بالشّعوذاتِ التّي يُردّدُها ببطء، فشاركتُهُ خلجاتي بترتيلِ أفكارٍ قد ألحَدَتْ بإلهِ المنطق..

ألعلّ اللّيلَ ينشدُ نوتاتِهِ القاتمةَ على القمر، فنظنُّ أنّ رونقَ اللّحنِ نورُهُ؟

ألعلَّ الدّجى الذّي نخشى قربَهُ، ترّقّبَ الجاثومَ للنّوم كابوسًا، يقْرَنْبِعُ ويتقبّضُ بملامحِ الإبداع التّي أثْرَتْ قصائدَ الشّعراءِ على مرّ العصور؟

أربّما الشّمسُ تحاول أن تحرقَ إنسانيّتَنا، فتخدعُنا بدفءِ أشعّتِها التّي قد تكونُ سببَ ضيقِ النّفس الذّي يصيبُنا فجأة؟

ألعلّ المياهَ التّي نبحث عن إجاباتٍ لسريرةِ الحياةِ في انعكاسها، تلتمسُ هي بدوْرِها استفهامًا للأسئلة ذاتِها، في حطامِ صورِنا التّي تنكسرُ على سطحِها، ثمّ تغرقُ وترقدُ في قعرها؟

لا أدري، فلم تعُدِ الحقيقةُ التّي كنتُ أنظرُ بها إلى ما حولي كافيةً، لسدّ رمقي الذّي أصابَه جفافُ السّعادة.

الفصل الخامس: ياء المصير

الطّفلة ياسمين - بيت حانون

فقالَتْ لي:  الانعكاسُ  ما هو إلّا عكسَ المتوقّعِ، والمصدرُ قد يكونُ سببًا ونتيجةً في آنٍ واحدٍ، أمّا نحنُ بسذاجتِنا اللّامنتهيةِ المحدوديّةِ نظنُّ، أنّ كلَّ ما حوْلَنا  يتّسعُ داخلَ حدودِ المنطقِ، والتّي في حِدّتِها تَضيعُ الحقيقةُ بلا رجعة..

فهل السّماءُ تذرفُ عروقُها بحرًا مُزرقًّا في قنوطِه؟

هل البحرُ يستشيطُ غضبًا، فيصدحُ عويلُهُ صدىً أزرقَ على السّماء؟

هل كلُّ هذه الزّرقةِ تنفَّسَتْها رئتاي، وأسَرَها قفصي الصّدريُّ خلفَ قضبانِهِ، فأضحتْ لونَ الحُرّيّةِ الذّي تَتوقُ عيناي لرؤيتِهِ بحرًا وسماءً وما بينهُما مِن غيوم؟

ومَضَ البحرُ لمعانًا، يُضرمُ بتوهُّجِهِ آهاتِ زبدِ البحرِ المتناثرِ، وانقلبتِ الأمواجُ إلى مضجعِها في قعرِ السّلوان، أمّا هي فحدّثتني عن حوريّاتٍ يَسْكُنَّ في جوفِ الصّخورِ التّي قد تنهّدَها بركانُ الشّغف، يومَ كانتِ الأرضُ والسّماءُ حبيبانِ لا يفترقان.. وقالتْ:

   - ألا تدرينَ أنَّ كلَّ طيفٍ يتراقصُ على أبوابِ عينيْكِ اختبالًا، ويذْرَعُ ردهاتِ وجدانِكِ إلحاحًا، ليس سوى خيالِ طفلٍ حَلُمَ بالحياة، قبلَ أن يخطفَهُ تابوتُ المنيَّةِ مِن رحمِ أُمِّهِ؟

ألا تدرين أنّ السّماءَ والبحرَ يتبادلانِ ألوانَ الزّرقةِ بدرجاتِها اشتياقًا، وليسَ انعكاسًا؟

لقد حوكِمتا بالبعدِ الأزليّ جوْرًا وتحتَ هيمنةِ البشرِ الطّاغية،  ولم يتبقَّ مِن ذكراهُما سوى ازرقاقِ الحنينِ المتموّجِ، والذّي أصبحَ مرسًى لسُفنِ الغفلةِ وهجرةِ النّسيان!

فقلتُ لها:

  - وماذا عن ذاكَ السّوادِ الحالكِ الذّي يتسلّلُ بين الأمواج؟

أهو حِدادٌ على الفراق، أم خفية تسترُ قصّةَ حُبِّهِما؟

فقالتْ: يا عزيزتي..

إنّه مرسالٌ يحملُهُ اللّيلُ قربانًا، حتّى لا ننسى.. وها قد تذكّرتِ!

فقلتُ لها:

وماذا عن الأبيضِ الذّي يَحملُهُ الزّبدُ شراعًا؟

أهو دموعُ البحرِ المذروفةُ صبابةً؟ أم استكانةً ورضوخًا  للواقع؟

فقالت:

أمّا الأبيضُ فهو عرسٌ تناسى المعازيمُ والمدعوّون القدومَ لمباركتِهِ، فبقيَ مُعلّقًا في حلقةٍ تُعيدُ نفسَها مرارًا وتكرارًا، لعلَّ وعسى تجدُ في دورانِها نهايةً سعيدة!

أمّا النّورسُ فهو مولودٌ متناغمٌ بين التّناقض الذّي فُرضَ عليهما، يومَ دنّسَ الاستيطانُ الأرضَ المُقدّسةَ،  قسْرًا يلامسُ بجانحيْهِ ثوبَ السّماءِ الحنون، ثمّ يُبلّلُهُما برقّةِ المياهِ المتراشقةِ على صفحاتِ التّاريخِ الحزين، فتذوبُ المسافاتُ المستحيلةُ بينهُما لهنيهةٍ سرمديّةٍ بصوتِ درويش والكنفاني الجليل..

احتدمتْ ومضاتُ البحرِ، وتَشكّلَ بريقُها جيشًا أمامَ مرآةِ روحي الُمتلهّفةِ للمعرفة، وعلَا صوتُ همساتِها التّي تُناجي مخيّلتي، لتنهضَ  مِن فِراش هفوتِها إلى وضح اليقظة، وقالت لي:

   - اقتربي يا صغيرتي، فالوطنُ ما زال بانتظاركِ خلفَ أسوارِ عكّا، وفي أحضانِ ميناءِ يافا.. ما عليكِ سوى الغرقِ في بحرِ العودة ، فالغرقُ شهادةٌ في سبيلِ الحياةِ، لتُولدي مِن جديد!

الفصل السّادس: نون العودة

نايفة- حاجز قلنديا أيلول-2019

    كنتُ أمشي وعقاربُ الرّوتينِ سويًّا..

قضبانُ الحديدِ التّي تُطرَقُ مِن معدنٍ كلَّ قلبٍ صهيونيّ، تلتفُّ حولَ جسدي الشّامخ، أصطدمُ بها مِن حينٍ إلى آخرَ، كحادثٍ ناجمٍ عن تَسارعِ أفكاري التّي تتخبّطُ ما بينَ الأسلاكِ الشّائكةِ المتفشّيةِ، فأشعرُ بقسوتِها المجرّدةِ من الإنسانيّة، تحاولُ أن تنتشلَ باقةً من أزهاري الحمراءِ التّي زرعَها دمُ أبي الفلسطينيّ..

فوقَ رأسي يقبعُ حاجزٌ حديديٌّ آخرُ، يتحدّاني ويُكابدُني بجبروتِهِ المتكلّف، ظانًّا أنّهُ يحجبُ السّماءَ وضوْءَها عنّي..

تتسلّلُ ابتسامةٌ ساخرةٌ، من حجرةِ الملامح التّي أحاولُ ألّا أفشي أسرارَها لعدوّي، وأشعرُ بالكلام وهو يغمرُ صمتيَ الذّي باتَ قناعًا يوميًّا ألجأ إليه، كلّما مررتُ عبرَ مراحلِ التّعذيبِ النّفسيّ على نقطةِ التّفتيش..

كم هو مثيرٌ للشّفقةِ هذا الحاجزُ الوضيعُ السّفيه!

ألم يُخبرْهُ صانعُهُ أنّ دفْءَ السّماءِ وضوءَ الشّمسِ، محفوظانِ في جوفِ سوادِ اللّيلِ الفلسطينيّ الذّي خيّمَ على أرضِنا منذ أكثرَ من 70 عاما؟

أتقدّمُ نحو بوّاباتٍ صُمّمتْ لتفترسَ كلَّ مَن يدخلُ إلى مصيدتِها، والجموعُ من حولي في ازدياد، أُلقي بنفسي إلى تهلكتِها، وأنا واثقةٌ أنّ الخضرةَ التّى ورثتُها مِن رحم أمّي، سترويني من الماء الذّي تحتفظُ به شجرةُ الزّيتون في جذورها، لتحمي أولادَها من صحراء الاحتلالِ القاحلة..

أُكملُ سيري نحوَ جنديٍّ يختبئُ وراءَ غرفةٍ من الزّجاج الذّي يعكسُ أمامي شدّةَ خوْفِهِ وجُبنِهِ.. أبدأ بتحضير بطاقتي التّي أصبحَ رقمُها وسيلةَ تنقُّلي الوحيدة، وأضعُها أمامَ ناظريْه.. أتمعّنُ في عينيّ الكائن الذّي بنى هذا المكانَ ليُتقنَ دوْرَ مُفترسي، فأجدُهُ فأرًا صغيرًا سرقَ نابَ أسدٍ، ولبسَهُ قربانًا على رقبتِهِ، حتّى ظنّ أنّهُ أصبحَ أسدًا بدوْرِه..

ألا يدري هذا الفأرُ أنّ هذا النّابَ نابي، وأنّ لمعانَهُ الحادَّ يكسو عَلَمَ وطني بياضًا لا يبهت؟

ألا يعلمُ هذا الفأرُ أنّ مراحلَ الذّلّ هذهِ، ما هي إلّا أوقاتًا تتسامرُ فيها روحي مع ألوانِ القضيّةِ الأزليّةِ في مخيّلتي؟

 دمُ أبي الأحمرُ بينَ القبضانِ.. دفْءُ اللّيلِ تحتَ الحاجزِ الحديديِّ.. رحمُ أمّي وخُضرتُهُ في مصيدةِ الأبوابِ.. وأخيرًا، زئيرُ شعبي الجبّارِ حين يُشرّع عن أنيابِهِ البيضاءِ رغمًا عن الزّجاج ومَن خلفَهُ، عُرسٌ لعَلَميَ الفلسطينيّ.. تأكيدًا على حبّي الأبديّ.

الخاتمة:

موافقةٌ بالإجماعِ

هلّ الفجرُ مُبشّرًا بغيثِ الرّجاءِ، ليُباركَ حلمَ الأمس بالغد على وسادة الحنين لليوم، توّجتِ السّماءُ شمسَها وحانَ وقتُ الصّلاة.. فقُم يا عزيزي، لندركَ غايةَ الصّباحِ قبلَ أن تهجُرَ حمامةَ السّلامِ شُرفةَ الأمل، ويسقطَ غصنَ الزّيتونِ عن الأُفق.

مفتاحٌ مرصّعٌ بصميمِ الأمل في الانتظارِ، وحقيبةٌ مَنسيّةٌ ما زالتْ تتمسّكُ بأرضِها هناكَ على مُفترقِ الطّريق، حيث تجتمعُ الخُرافاتُ والواقعُ خلسةً، ويترقّبونَ نهايةً سعيدةً لهذا الوطنِ العزيزِ الأبيّ. 

بدايةٌ جديدةٌ قد وُلدتْ مِن رحمِ المُرابطةِ في باحاتِ الاقصى البهيّ، تتزاحمُ على صفحاتِها  قصصٌ تروي بطولاتِ الماضي المقترنِ بالحاضر، وتتوهّجُ سطورُها بأسماءِ شهداء، تهتفُ برموزِ النّضالِ الدّائم..

قم .. يا عزيزي ..

قُمْ .. لنُشيِّدَ جدرانَ القدسِ بأشلاءِ بواسلِنا الأحرار.

قُمْ .. لنزرعَ سنابلَ الكفاحِ في حقلِ كلِّ روحٍ ما زالتْ أسيرةً خلفَ سجونِ الاحتلال..

قُمْ .. لنُكفكفَ دمعَ كلِّ الأمّهاتِ والآباءِ الكرام.

ففي دموعِهِم معاناةُ شعبِ المُقدّسات، شعبٌ حُكمَ عليهِ بالشّتاتِ والموتِ في حدودِ تاريخٍ، زُوّرتْ مَعالمُهُ واستُبدِلتْ حقائقُهُ، إلّا في رزنامةِ كلِّ بيتٍ فلسطينيِّ الرّوحِ والجسد.

اقترحَ الخوفُ الهجرةَ، إلّا أنّ نيرانَ الغضبِ الظّمآنةَ للانتقامِ تكلّمتْ وهيمنتْ..

هبّتْ رياحُ الخضوعِ تُطالبُ بالاستسلامِ، فتزلزلتِ الأرضُ، ورعدتْ قبورُها، وجلجتْ أجراسُها مُنذرةً بالمقاومة والمواجهة على أبواب السّلام..

حَلَّ سكونٌ خاطفٌ على مشهدِ الآن، ومرّت لحظاتٌ مصيريّةٌ مِن الزّمان، كانتْ نتيجتُها موافقةٌ بالإجماع..

فتحتْ أبوابَ قلبِها مُرحِّبةً بالأمل الجبّار، رافعةً عَلَمَ الانتصار، عَلَمَ فلسطينَ عَلَمَ الإصرار.

بكالوريوس في الطّب والجراحة العامة – جامعة القدس

2021-02-27