هي المرأة.. عنوانُ ربيعٍ مُزهرٍ ينضوي تحتَ رايةِ حياةٍ دائمةِ النضرة، تتجدّدُ باخضرارِ تهاليلِ آذار،وفوْحِ عِطرِهِ وألوانِ أعيادِهِ وأفراحِهِ! تتزامنُ معَ الأعيادِ الآذاريّةِ والربيعيّةِ، فتنثرُ الجَمالَ والعطاءَ في حقولِ الإنسانيّةِ النبيلةِ، والتي طالما وشمَتْ درْبَها دماءُ جرائمِ الحُروبِ والإباداتِ الجماعيّة!
هي المرأة.. مَن جعلتْ منذُ قرنٍ عدساتِ الأبصار والأقلامِ والقلوبِ تتّجهُ إليها مِن كلِّ حدبٍ وصوْب، وباتتْ تُشغِلُ الأذهانَ والألبابَ والحكوماتِ والمنظّماتِ والأحزابَ والمؤسّساتِ، على اعتبارِها نقطةً مركزيّةً في فلَكِ هذا الكيانِ الآدميّ!
هي اليومَ مَن تقفُ عالميًّا وروحيًّا في بؤرةِ لبناتِ العُمقِ الإنسانيّ الشفّاف، بعدما كانتِ المجتمعاتُ المستبدّةُ وأنظمةُ القوى الظلاميّةِ في القرونِ الوسطى وما قبلها وما تلاها، تحُطُّ مِن قدْرِها وقيمتِها إنسانيًّا، وتنتهكُ حقوقَها المشروعةَ بحُكم القوى السائدةِ وغيابِ القانون.
هي المرأة.. مبعثُ فخْرٍ واعتزازٍ لأمّةٍ متحضّرةٍ تُقدِّرُ قيمتَها، أفلا ينبغي انعتاقها وتحريرَ المجتمعِ فكريًّا ممّا سبق، واستحقاقها يومًا دوليًّا وعالميًّا في 8 آذار من كلّ عام؟
استحقاقها؟ دوليًّا وعالميًّا؟ ماعلاقةُ المرأةِ الشرقيّةِ بالغربِ وبالعالميّةِ؟
هل توقّفتْ مآسي المرأةِ ومعاناتُها مِن مظاهرِ وأشكال العُنفِ والتّمييزِ والأمّيّةِ والتزويجِ المبكّر والمُكرَهِ وتقريرِ المصيرِ وختانِ البنات، كي تُتَوِّجَ أيّام عامِها بهذا العيد؟
كيفَ وهي ما زالت تُساقُ إلى مصيرِها المحتوم؟
هل هو يومُ تكريمٍ يتيمٍ في العام، وازدراءٌ واستغلالٌ لها باقي أيّامِه؟
أليستْ هناك أمورٌ كثيرة لا زالتْ مُعلّقةً ومُشرّدةً ومُغيّبةً في كثيرٍ مِن الأطُرِ الاجتماعيّةِ المُتزمِّتة في العديد مِن مجتمعاتِنا؟
كيف تتيقّظُ الشرقيّةُ لنهضةِ المرأةِ العالميّةِ وهي ما انفكتْ تَغُطُّ في سباتِها العميق؟ مَن المسؤولُ عن ديمومةِ غفوتِها وتخديرِها وما المصلحة؟
ولو افترضنا النيّةَ الطيبّةَ في إيقاظِها للحاقِ بدوْرِها الرائدِ عالميًّا، فكيفَ السبيلُ لذلك؟ كيفَ يمكنُ أن نَحيدَ عن استخدامِ أساليب التعاملِ الفظّ مِن أمْرٍ ونهْيٍ وإخضاعٍ وقمْعٍ، وتَخطّيها إلى نقاشٍ وإقناعٍ مبنيٍّ على أخلاقٍ عادلةٍ، يُخفّفُ وطيسَ تمرّدِها وانفجارِها؟
هل يمكنُ للشرقيّ أن يَخرجَ مِن قشورِ التربيةِ القديمةِ، واستهلاكِ المرأةِ كمُجرّدِ سلعةٍ بعيدًا عن السطحيّة، ليلبسَ فِكرًا جديدًا، له دوْرٌ أساسيٌّ في تعميق احترامِ حقوقِ الإنسان وحقوقِ المرأةِ خاصّة؟
كيفَ يتأتّى لها تحقيقُ دوْرِها الوطنيِّ الإيجابيِّ؟ هل مِن خلال الصحافة والإعلام؟
هل بحرّيّةِ التعبيرِ عن الرأيِ وبناءِ أحزابٍ ومنظّماتٍ تَرعى شؤونَها، وتُضيفُ لحضورِها رصيدًا نوعيًّا إيجابيًّا؟
هل بتوفيرِ سيادةِ أجواءٍ وبيئاتٍ ثقافيّةٍ مُتحرّرة؟
قال "جون ستيوارت مل" البريطانيّ في القرن 19: "لا ينبغي النظر إلى قضيّةِ المرأةِ على أنّ الحُكمَ قد صدَرَ فيها مُقدَّمًا، عن طريق الواقع القائم والرأي العامّ السائد، بل لا بدَّ مِن فتْحِها للنقاشِ على أساس أنّها مسألةُ عدالة"!
8 آذار؟ ما هذا التاريخُ الذي تدخلُهُ المرأةُ فجأةً من أوسعِ أبوابِهِ، ومَن يقفُ وراءَ هذه المُسمّيات؟ هل مَرَدُّ هذا التاريخ يعودُ إلى تاريخ اليهودِ وإستر في بابل، أم إلى الاشتراكيّةِ أم إلى.. ؟
هل بهذهِ الحركاتِ والنداءاتِ ما هو مُنافٍ للتراثِ والأديانِ والعقليّاتِ والمجتمعات؟ وهل تُرفضُ الفكرةُ لمجرّد أنّها مِن صُنْعِ فِكرٍ مُغايرٍ أو معادٍ؟
ثمّ؛ ما هي أهدافُ المناقشاتِ حول الحرّيّاتِ والمطالبةِ بالمزيد مِن التقدّم والنموّ للمرأة؟
وما هو سلاحُها النفّاذُ المتطوّرُ زمكانيًّا، إضافةً للمعرفةِ والدين والعِلم وحمايةِ القانون؟
وهل لهذا كلِّهِ دوْرٌ أساسيٌّ فعلاً في دفْعِ عجلةِ السلامِ الدوليّ والعالميِّ كما رُسِم وخُطِّط؟
ها المرأةُ الناضجةُ سعَتْ مِن خلالِ عِلمِها وعَملِها خارجَ إطارِ البيتِ إلى الكفاحِ والنضالِ والتطوير، مِن أجلِ تحسينِ الأوضاع المعيشيّة والاقتصاديّة للأسرة؟
وهل دأبت التشكيلاتُ النسويّةُ العاملةُ بالاحتجاجاتِ إزاءَ تغييبِها وتهميشِها، والمطالبةِ بالتحرّر مِن الظروفِ التعسّفيّةِ والتفرقةِ العنصريّةِ والطبقيّةِ والجنسيّة، فاهتمّتْ بصياغةِ دستورِ تنويرٍ وتنظيمٍ يُحقّقُ العدالةَ الاجتماعيّةَ والنِدّيّة، وكرامتَها كإنسانٍ يثبتُ أحقيّتَهُ في الوجودِ ككيان؟
هل ساهمتْ في الدفاع عن حقوقِها المسلوبةِ والتوعيةِ والمساواةِ والتكافؤ مع الرجُل، وذلك برفْع أجرِها في المصانع، وتحسين ظروفِ العمل، وعدم استغلالِها أو التعاملِ معها بدونيّةٍ!
وهل كانتِ المرأةُ تحتاجُ إلى وضْعِها على محكّاتِ الحروبِ العالميّةِ والأوضاعِ الاقتصاديّةِ المُزريةِ والمُتردّيةِ، لتعي حقيقةَ وجودِها وحقِّها بالحياةِ الكريمةِ، ومِن ثمّ التمرّد على التقاليد؟
عام 1857 كانت أوّلُ مظاهرةٍ نسائيّةٍ في الولاياتِ المتّحدة، حيثُ اعتصمْنَ في أحدِ المصانع مطالباتٍ بحقوقهِنَّ في رفْعِ أجورِهنَّ، وكانَ نصيبُ 72 منهنَّ الحرْقَ بالمعمل، لكنّ مطالبَهنَّ التي رُفعتْ لم تُحرَقْ ولم تترمّدْ، إنّما أينعَت الخمسونَ عامًا نشاطا نسويًّا جبّارًا وحثيثا، تخلّلتْها مسيراتٌ وإضرابٌ ثوريٌّ طويلٌ، من أجلِ الالتحاقِ بالوظائفِ العامّةِ وتحسينِ ظروفِ العملِ والعاملاتِ والأجورِ وتغييرِ الواقعِ السائد، وتلتْها ندواتٌ تنويريّةٌ ومؤتمراتٌ نضاليّةٌ ومظاهراتٌ سلميّةٌ لعشراتِ آلافِ العاملاتِ في نيويورك عام 1908 و1909، ومنذُها، تنبّهَ العالمُ إلى حقوقِ المرأةِ والطفلِ والعملِ والمساواةِ والأجورِ، وعام 1910عُقدَ أوّلُ اجتماعٍ في الدنمارك/ كوبنهاجن بدعوةٍ مِن الأممِ المتّحدة، لتُعلنَ الألمانيّةُ كلارا فيتكين عن 8 آذار عيدًا لجميعِ نساءِ العالم، وصارَ يومَ ثورةٍ تشريعيّةٍ للحقوق، يؤرّخُ حركةَ المرأةِ العاملة فكريًّا ووجدانيًّا، ويؤكّدُ عطاءَها في الحياة الخاصّةِ والعامّة، وقد انبثقتِ الفكرةُ مِن الدولِ الاشتراكيّةِ الصين وروسيا وكوبا بمظهرٍ احتفاليٍّ عارمٍ، كتقديرٍ واحترامٍ وتميّزٍ لأدوارِ وإنجازاتِ وطموحاتِ المرأة ودوْرِها الوطنيِّ الفاعل، وكمقياسٍ أساسيٍّ في تطوّر وتقدّم المجتمع مدنيًّا وصناعيًّا وحضاريًّا وإنسانيًّا!
وفي عام 1977 وجّهتْ جمعيّةُ الأممِ المتّحدةِ نداءً يدعو كافّةَ الدولِ في العالم، تخصيصَ 8 آذار كيوم المرأة العالميّ للاحتفالِ بحقوقِها على جميعِ الأصعدةِ الوطنيّةِ والأسريّةِ والاقتصاديّةِ والتنموية والثقافيّةِ، فمُنحت النساءُ الهدايا والمِنح والاجازةِ وحقّها في الاقتراعِ والتصويت!
وها ديكارت يطالعُنا بمقولتِهِ: "أنا أفكر.. إذًا؛ أنا موجود"!؟
وها المفكّرُ سليم البستاني انتقد الوضعَ العربيّ في القرنِ18 قائلا: إنّ الشعبَ الذي يحاولُ ذكورُهُ التقدّمَ دونَ نسائِه، كالشخصِ الذي يُحاولُ السفرَ ماشيًا برِجْلٍ واحدة".
والمفكّرُ قاسم أمين قبلَ مئةِ عام إلى التنبّهِ لشأنِ المرأةِ العربيّةِ اجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، إلاّ أنّ صوتَهُ انتهى دونَ صداهُ في مجتمعاتٍ تقوْلَبتْ في عاداتِها وتقاليدِها.
لكن.. كيفَ يُعامِلُ المجتمعُ الشرقيُّ مفكّرينا، وخاصّةً المرأةَ حينَ تسيرُ بعكسِ التيّارِ فكريًّا، وتُطالبُ بالتغييرِ وتثبيتِ حقوقِها، كالكاتبةِ ليلى العثمان والباحثة نوال السعداوي؟
هل جعْلُ المرأة تغرقُ في أمّيّتِها هو نوعٌ مِن أنواعِ السياساتِ المبرمَجةِ والمُتعمَّدةِ؟ هل ما زالت العقولُ الشرقيّةُ مُغلّفةً بضبابٍ كثيفٍ مِن القُوى السائدةِ، والتي تَحجُبُ فِكرَها ومنطقَها، وتُشكّلُ ديمومةَ أزمةٍ رافضةٍ متعصّبةٍ لا تلينُ، فلا يمكنُ اختراقُ واجتيازُ هذهِ الحُجب الدينيّة والتراثيّة والتاريخيّة؟ لماذا؟
هل لأنّ الإنسانَ الشرقيَّ لازالَ محتلاًّ فِكريًّا، ولا يمكنُهُ التحرّر مِن تاريخِهِ وعقليّاتِهِ الموروثةِ المُكبّلةِ بالعاداتِ والتقاليد، أم أنّه يخشى اهتزازَ عرْشِ سيادتِهِ على المرأة؟
هل لأنّهُ يملكُ مفاتيحَ الفِطنة لفتْحِ أقفالِ الحكمةِ، دونَ أن يخدشَ أو يَكسِرَ قِيَمَ المجتمع الذي يسعى إلى تطوّرِهِ ورِفعتِهِ المنشودة، أم أنّ ثرواتُ شرقِنا حقًّا تعملُ على تكريمِ المرأةِ إنسانيًّا، وتنعيمِها حياتيًّا، وعلينا أن نكُفَّ عن ترديدِ الشعاراتِ الغربيّةِ كي لا نُزيّفَ واقعَنا؟
من كتابي "رؤى" الصادر عام 2013