السبت 11/10/1445 هـ الموافق 20/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
قراءة في رواية ' جوبلين بحري ' للكاتبة دعاء زعبي..... خالدية أبو جبل

رواية غلافها ذاكرة من الألم والشوق والحنين ، تطل من عتباته بقايا صور قديمة بالابيض والاسود لزمن جريح .
وتكاد تشّم رائحة زيت زيتون عتيق من على مفتاح طويل ، وتشم عطر فلّ وياسمين من على مفتاح أقل طولا ، تجمع بينهما حلقة ، هي تقلّب الايام وغدر الأقربين . ويشمخ البحر شاهدا على حق لن يقدر على طمسه تلوُّن السنين .
تطل الكاتبة من عتبة روايتها على أبواب فلسطينية طال أمد إغلاقها ، وعلى أبواب شاميّة لا زالت الرياح تضرب 
بدفتيها بصلف ووقاحة . 
       .... 
بلّل البحرُ صفحات روايتك يا دعاء .
لم أقرأ الكلمات دعاء ، هي محارة نسيّها الموج تُداعب الرمل حفظت كل الرواية ، ألقتها على مسامعي مرة واحدة .
وأعادتني لطفلة تصخي السمع لحكايا البحر واسرار الموج من جوف محارة ، أتى بها والدها لها إثر عودته من العمل .
تتراقص في عينيها دمعة لا تفقه كُنهها ، أهي رهبة من 
هيبة الصوت ، ام من جموح خيال امتطى صهوة الامواج  وأبحر حيث الغموض .
أما اليوم فلم تترقرق الدمعة في عينيّ فحسب ، بل هي دمعة ميار المترقرقة في مآقيها ، تأبى أن تسيل فتكسر هدب العين وتنكسر معه شوكة النفس وكبرياؤها .
أجل كان ثمة قرار غامض يتشكل في روحها ، في الوقت الذي كانت سارة فنلكشتاين تصُبُ حِمم عنصريتها وعنجهيتها واستعلائها ، على قلب وعقل وشباب وعنفوان ميار ، على كيانها وصمودها .
قرارٌ كان بداية لرحلة المجهول ، رحلة التحدي 
قرارٌ أعلن بصوت عالٍ : أن الحرية والكرامة لا تقلّ روعة  وأهمية عن  الحب .فتنازلت عن حب قلبها تلبية 
لنداء عقلها .
قرارٌ ، اعلن بحزم وادب ومحبة ولاءه لأبوين ، انتظرا 
بشغف رحيق زهرتهما الوحيدة ، فكان وعدها لهما ان تكبر وتكبر ليملأ اريجها ورحيقها الارجاء .
أبوان غلّفا ألمهما بالامل ، وجفْفا دمع الفراق بمنديل الدعاء والدعم والمؤازرة .
قرارٌ كان لا بد لبحر يافا أن يُوقع أوراقه بقبلة صادقة 
انتزعها من الاعماق طاف بها حواري يافا وشوارعها وازقتها ، أودعها محارة ، أسكنها قلب ميار فإن رحلت هي عن يافا ، لن ترحل يافا عنها ، وسيعود بها النداء 
يوم ان تضيق بالصبر على الفراق .
.....
تُسافر ميار وقد تزودت بما يكفيها من إصرار وتحدي 
لدحض مقولة سارة فلنكشتاين ، انها لا تصلح الا للزواج والانجاب وتربية الاولاد ، ولتثبت لها ان المرأة الفلسطينية قادرة على الزواج والانجاب وتربية الاولاد 
وتحصيل مراكز علمية واجتماعية وسياسية مرموقة .
وهذا ما كان ، تُسافر كاتبتنا بميار الى برلين بلد الجمال والعلم والحرية ، بلد يرفُد اليه أبناء الدول العربية ، ليصح فيهم قول من قال : وكل غريب للغريب نسيب"
ليعيشوا البعد عن الوطن الاصغر في حضن الوطن الاكبر .
فهناك فقط في البلد الاجنبي حيث اللاعربية ،تتحطم حواجز الدول العربية ، ليحيا ابناؤها التآخي والمحبة والصداقة ، وليتقاسموا الرغيف الفلسطيني والمكدوس السوري .
تقطع اواصرهم السياسة ويجمعهم حيّ في برلين .
وتبقى ازمة الفلسطيني كالشوكة العالقة في الزور ،
يحمل رقم أسره حيث حلّ وارتحل ، تختلف وجوه آسروه ،والكل يتجاذب أطرافه ليلقي بها الى التهلكة .
في رحلة صيف يركب حسام وميار الفلسطينيّن وحلا السوريةالبحر متوجهين الى مدينة طنجة شمال المغرب ،
فيكون الرفض والطرد بالتي هي أحسن لحمَلَة الجواز الاسرائيلي ، والترحاب بحلا السورية الاصل والتي تحمل  الجنسية الالمانية  .
إنها سخرية الاقدار وسخافة السياسات التي تعاقبنا على قومية نفخر بالانتساب لها . وهوية فُرضت علينا 
فكان الظلم والعقاب مضاعف .
تدور عجلة الرواية ، لتجد ميار لرأسها متكأ على كتف البحر ، تعرض عليه نجاحاتها بزهو ، بعد ان تحقق لها 
اللقب الثالث في علوم السياسة والصحافة والاعلام 
واصبحت المحاضرة الفذة التي يشار اليها بالبنان .
وتبُّثه شوقها لبحر ( بحر يافا ) تعمدت على شواطئه بعشق وطن حملت كل تفاصيله في ذاتها وثيابها وعطرها ومطبخها ومفتاح بابها .
وودعت حبيبا لا زال يطل بوسامته من خلف ضحكات بحرية ، لعاشقين افترشا الموج والتحفا الازرق .
ينثر البحر رذاذه وتنثر ميار دمعها مالحا حزنا على رحيل  حلا السورية .
حلا التي عاشت   معها ميار الحارة الشاميّة وعبق ياسمينها .
وبكت معها الوجع السوري وشقاء الياسمين وبؤسه 
بعد أن انقلب الدهر عليه .
حلا التي ضحكت وكأن الدنيا لم تحرمها حنان أم 
آثرت البقاء في الغرب وتركتها لوحدتها ،
رحلت حلا ، ليبقى الرحيل  الندبة في عمق قلب ميار وفضاءات أيامها.
هو ألم السوري والفلسطيني كاتنبتنا ، الذي فاق الشكوى والصراخ والكلام .
" اللي ما شاف من الغربال يا بيروت ، يا دمشق ، يا يافا 
أعمى بعيون أمريكية " 
رحلت حلا وتركت ادراج الذكريات طافحة بالابتسامات والدموع والعطور والحسرة .
وكم كانت الكاتبة رشيقة الخطوات هنا ، فقد رمت بمرض حلا ، مثل كلمة عابرة ، يوم اعتلى الاصدقاء السفينة متوجهون الى المغرب ، ليظنوا أن ما أصابها دوار بحر ليس إلا ...
         ....
وكانت ليلة راس السنة ، رمزية رائعة للانتقال الى عالم آخر وحياة جديدة 
ليلة أستغرق الوصول اليها خمسة عشرة سنة 
كان الجوع قد افترس أحشاء ميار ، جوع للوطن ، جوع للاهل ، جوع للعشق والحب ، جوع للانتقام .
وقد اوحت الكاتبة لهذا الجوع ، بجوع ميار للطعام 
التي راحت تفتش في مطبخها الانيق عما تأكله .
لتشبع جوع امعائها وجوعها لاهلها بالتلذذ بحبات الزيتون الاسمر وكرات اللبنة ( ريحة الاهل وخيرهم )
لكن جوعها كان اكبر ، فاشبعت جوعها للانتقام ، برسالة بعثت بها لسارة تعلن فيها انتصارها .
اما جوعها للوطن  فاشبعته برسالة لهاشم ، الذي يحمل من اسمه ما يكفي لرمزية المقاومة ، وما اختيار غزة بالذات إلا اعتزازا بصمودها وايمانا بنصر أكيد .
وما كان أصعب من جوع حبها وعشقها ، لمن جعل روحها تستفيق من غيبوبتها لتعود وتسمع عزف حب 
ما انطفأت جذوته يوما وقد سكن أدفأ مكان في قلبها ،
كتبت اخيرا لنديم تبوح له بحب عظيم أينع وترعرع في ارض الحرية ليحيا من جديد .
تكتب لحلا في ليلة الرسائل هذه والتوليب يداعب عقارب الساعة بكبرياء ، " مسافرة ستبقين معي في إيقاع نبضي وعروقي ، وفي كل عين زرقاء المحها من بعيد ، وفي اسرار الفرح الصغيرة وصمت ليالينا الكئيبة " ص 136
هي ليلة لملمت فيها نفسها وظلها وحررتهما من زمن الاحزان ، لتعبر للعالم القادم مثلما ارادت هي لا كما ارادوا لها .
ويؤتي الصبر والكفاح والتحدي أُكُلهم بميلاد الخطوة الثابتة الاولى على مسرح جامعة برلين ، لتهزّ بكلماتها الضمائر وترتعش المشاعر ، ويقلق ويرتعد الظالم ويرجف من انتقام السنين .فها هي تقف ندّا( لكابتن طيّار) سارة فلكشتاين على ذات المسرح وفي نفس الجامعة لنقاش ذات الموضوع !!
وتكون الخطوة الثانية وداع وطنا شهد نضوج فكرها ومشاعرها ونجاحاتها ، للعودة الى وطن حضن طفولتها واحلام شبابها ، وضم بين جناحيه والديها واحبابها 
وعشق ايامها .
وطن حضن بحر يافا الذي لم يغادر أسماعها .
شوق خمسة عشر عاما سكبه الحبيبان في قبلة شاركهما 
فيها بحر يافا حرارة العناق ولهفة اللقاء ، كفيلة لبدء 
حيوات من الحب والجمال ونعمة الابناء .
وكانت الابنة المنتظرة يافا ،
 فصارت الابنة المنتظرة  حلا ( الشام )
ولن ينقطع يوما هذا الحبل السري ما بين فلسطين والشام  .
         ...................
دعاء زعبي كاتبة تحلق في سماء الابداع ، في رواية
وظفت فيها كل مخزونها المعرفي و الثقافي والفكري  لتكون أنموذجا مُغايرا للرواية الفلسطينية . تحمل رسالة ذات فكر جديد ، يكسر القالب النمطي للرواية الفلسطينية 
التي حملت عذابات الفلاح وشقاء الارض وبكاء التهجير 
بدون ان تتنكر لهم ، بل أضافت لهذه الآلام ، وجع المدينة .التي اصفر وجهها وشحُب بعد ان كان يفيض حيوية وحضارة ، وغضب بحر ساخط رافضا للغريب 
حانيّا على أبنائه .
فما كان اختيارها لمدينة يافا  مدينة الفن والحضارة الا ضمن خطة مدروسة بتأن وهدوء لخريطة روايتها .
مدينة شهدت تحولات الشعب الفلسطيني بعد النكبة 
الذي راى في العلم السلاح الاكثر قهرا لعدوه والطريق 
الاوحد للبقاء .السلاح الذي يُرجح كفة الحياة على الموت . إنطلاقا من هذا الايمان الحتمي ، جاء  دور 
العائلة الداعم لقرار سفر البنت الوحيدة لاتمام تعليمها 
وتحقيق ذاتها وحلمها .
جعلت الكاتبة من ميار الفتاة الفلسطينية  أنموذجا  لهذا 
التحول الفكري .
حملت ميار حقها الشرعي في الانتقام على كتفيها ، وطوّعت التحدي والاصرار طريقا لها لتحقيق النجاح 
وأخذ حقها في الحياة الكريمة .
عاشت ميار حريتها واستقلاليتها وفرديتها ، التي تحلم بها كل فتاة . بفارق وحيد ، أن ميار ذوتت معنى هذه الحرية في نهج وخطوط خريطة حياتها واضحة الهدف .
فما بين حبات زيتون محصورة في وعاء زجاجي  واريكة صفراء .استطاعت ميار أن تحفظ ولاءها وانتماءها للوطن فاتحة ذراعيها لاحتضان كل علم 
وتقدم يخدم قضية وطنها .
حرية لم تُنسها حبا أثث كيانها  فاشعل فؤادها شوقا 
وأذاق الجسد والروح جوعا وعطشا والمًا.
وقد اشارت الكاتبة بمرونة جذابة لبقة لجوع الجسد وحرمانه .
( تُنهي حمّامها، ينتعش جسدها داخل برنس أبيض لفّها بحميميّة ورفق ممتصّا ما تبقى من قطرات ماء دغدغت جسدها بتدحرجها المشاكس من اعلى العنق وحتى أخمص القدمين ، مثيرة فيها بعضًا من قشعريرة وامتعاض ) ص172
         .......
ميار الفتاة الفلسطينية التي حوّلت القهر الى قوة 
والانتقام الى نجاح وحياة .
(ترتدي ثيابها وهي تستعرض امامها كل تفصيل صغير 
رافق رحلتها الطويلة ، تشعر بالفخر والاعتزاز والرضا عن كل انجاز حققته حتى الآن وعن قدرٍ ساقها يوما الى برلين ) ص174
وهل ملك  يوسف  مفاتيح خزائن  فراعنة مصر ، لو لم 
يُلقٍ به إخوته في الجب ؟!
       ........            ..........
جوبلين بحري 
رواية سردية فائقة الجمال ، طرزتها كاتبتنا  على صدر ثوب فلسطيني بخيطان حريرية  من عالم السحر والخيال ،زركشته بياسمين الشام ، وقلّدته عِقدا أنيقًا من أضواء ليل برلين .
سافرتُ فيها برحلة خريطتها واضحة المعالم ، 
داست قدماي حواري الشام ، وسمعت اصوات الباعة في سوق يافا القديم ، وعشت الحلم بالحرية في برلين .
سفرة أشبه بالحلم الجميل ، صادفت فيه احداثا كثيرة 
وان لم تكن أحداث الرواية كثبرة .
والتقيت فيه بأناس كثيرين ، وإن قلت شخوص الرواية .
وهنا يكمن الجمال وسر الابداع . 


خالدية أبو جبل 
طرعان ، الجليل الفلسطيني 
12نيسان 2021

2021-04-13