الخميس 13/10/1444 هـ الموافق 04/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
حيفا على لسان أبنائها ....محطات تاريخية، حضارية وإنسانية في حيفا ...د. روزلاند كريم دعيم

حيفا 

قبل الحكاية بداية،

في سلسلة حلقات تعكس صورة المدينة الجبلية الساحلية حيفا من خلال نظرة سكانها، أعرض بعض العيّنات من الوثائق الشفوية النابعة من ذاكرة أهالي وسكان حيفا الشعبية، التي بدأتُ بتوثيقها وجمعها بشكل منهجي عام 1999 لأهداف أكاديمية، بالإضافة إلى بعض المعلومات التي كانت بحوزتي قبل العمل الميداني وتعتمد بالأساس على وثائق أسرية.

من أجل الأمانة البحثية أشير إلى أني قد نشرت بعضًا منها في الصحافة المحلية، بدءًا من العام 2005، وأعود لأنشرها بشكل موسّع قبل أن تخونني الذاكرة ويداهمني الزمن.

 

ممّا لا شكّ فيه أن توثيق الذاكرة الجمعية هو مشروع وطني يتطلب موارد بشرية ومهنية ومادية تعمل تحت سلطة دولة أو مؤسسة ترعى العمل وتدعمه. وليس هذا ما يحدث في فضائنا التوثيقي الفلسطيني المحلي، رغم تنوّعه؛ ما نلمسه على أرض الواقع هو الفردَوِيّة البعيدة كل البعد عن التعاون وتضافر الجهود، أو المجموعات المؤسّساتية المحصورة في فئة من المستفيدين أو الباحثين، أو المجموعات الأجنبية التي تبحث عن الرواية الشفوية الفلسطينية وما تبقّى من ذاكرة أبنائها لأسباب قد تكون إنسانية أو بحثية، وقد تكون مادية في بعض الأحيان – وجميعها مبادرات مباركة. 

من أجل الأمانة العلمية والتاريخية والإنسانية لشعبنا، الذي حمل همّه وإرثه الثقافي في أرجاء المعمورة، هذا الإرث الذي يُخشى عليه من الضَّياع نظرًا لتقدُّم حافظيه بالسنّ، أمدّ الله عمرهم بوافر الصحة، أو رحيل بعضهم، ولهؤلاء طيب الذكر، أرى من واجبي أن أشارك سكان حيفا الباقين فيها والمهاجرين عنها ما جمعتُ من أحاديث وقصص وذكريات شخصية، تشكِّل محطات تاريخية حضارية وتكون في متناول الأجيال القادمة.

ويُسعِفنا التواصل الرقمي في نشر ذكرياتنا وحكاياتنا؛ فقد حمل الإنسان الفلسطيني معه ذاكرته وذكرياته وخلق ثقافة مشابهة في أماكن تواجده الجديدة والكبيرة [أبو غوش ومحمد، 18]، وغالبًا ما يكون قد نسج ذكريات وحكايات موازية أو متقاطعة أو مكمّلة لما سيرد في الحلقات القادمة، ولعلها تكون فرصة ذهبية للتواصل بين أبناء البلد لتتشكّل الحكاية وربما تقترب من الاكتمال.

وللرواة جميعهم عليّ واجب الشكر؛ أطال الله عمرهم ورحم من رحل عنا منهم قبل نشر وثائقه الشفوية. أشكرهم على استقبالي وتكريس وقتهم الثمين وكشف قصصهم وخصوصياتهم وتزويدي بما لا يعرفه غيرهم من الأمور التي روتها الذاكرة الشفوية الجمعية أو صمتت عنها، ليساهموا في رسم معالم حضارة إنسانية قبل أن تختفي الذاكرة. 

تحمل القصص التي سيتم عرضها طابعًا شخصيًّا بالأساس؛ والقصة الشخصية جنس أدبي تم تشكيله من عدّة أجناس، يعيد بها صاحبها (الراوي) صياغة أحداث وتجارب حياة وقصص شخصية وأسرية، وأحيانًا وطنية، كان لها أثر في تشكيل روايته وهويته الفردية والجمعية.

بالرغم من أن القصة الشخصية المرتبطة في المكان هي إنتاج شخص واحد، إلا أنها تحمل ملامح الهوية الجمعية، كما أنها ترسم ملامح المكان، كما يتجلى في عيون أهله وسكّانه في فترة محدّدة أو لحظة آنية قد تصبح تاريخية يومًا ما.

على مستوى الجانر، تتقاطع القصص الشخصية مع قصص المكان وجانرات أخرى مثل قصص الأولياء والقديسين، فيظهر شكلًا مغايرًا عن الأشكال التي اعتادتها دراسات الأدب الشعبي التقليدية. 

ما يميِّز القصص الشخصية هو جرأة واستعداد أصحابها لعرض الأمور الشخصية – وإن كانت تصمت أحيانًا كثيرة عن بعض المعطيات أو تنتقيها حفاظًا على الذوق العام، وهذا ما يقوم به الباحث الموثِّق حين يدرس ما يمكن توثيقه وما يمكن أرشفته لئلا يؤدي عمله إلى نتيجة سلبية في كشف قضايا كان من الأفضل لأصحابها لو بقيت مستورة، خاصة إذا كان سترُها لا يشوِّه الرواية الجمعية ولا يضر بها – ففي كل رواية مجال لحوار القارئ مع النص من خلال تلك الفجوات غير المكتملة، بحسب نظرية التفجية [آيزر]. من هنا، فإن الرواة – في غالبية القصص الشعبية - هم أبطال القصص أو أشخاص من محيطهم القريب. وغالبًا هم ليسوا رواة محترفين، ومن دون شك أن للأمر أثر بالغ على الجوانب البحثية، والأدوات المتاحة لتحقيق هذا الغرض.

في حين يرسم ويشكّل التاريخ الشفوي معالم الحضارة والسكان، فقد تشمل القصة الشخصية أي جزء أو فترة حياتية أو تاريخية، أو نقطة تحوُّل في حياة الفرد والأسرة؛ حيث تتحوّل الفلسفة الحياتية الفرديّة إلى قصة شخصية، يغلب عليها الطابع الأسري المتدفّق المشاعر، وإن كانت ترافقها أسئلة فلسفية مركَّبة، قد يُسهم تحديد ملامحها في فهم أقسام من التاريخ الشفوي والهوية الجمعية للشعب الفلسطيني في حيفا والمناطق المجاورة لها، والتي لا تختلف بجوهرها عن فلسفة الشعب الفلسطيني عامّة، رغم خصوصية المكان واختلاف الحقبة الزمنية.

ترافق عملية إعادة صياغة القصة الشخصية تحدِّيات وصعوبات تدور في فلك الحفاظ على جوهرها وخطاب صاحبها، إلا أنها تُسهم في فهم الجنس الأدبي وبلورة أدواته البحثية، ما قد يزيد لبنة على دراسة الأدب الشعبي المعاصر عامة. 

ولعلَّ القيمة المضافة للقصة المرتبطة بالمكان هي رسم ملامح المكان واستقراء تجلياته كانعكاس للواقع من خلال القصة والذاكرة التخييلية، التي تعود بنا على محور الزمن إلى الوراء، لنعيش حضارة كانت هنا بروائحها وناسها ومساكنها وعمرانها وتجارتها ومقاماتها ومقدَّساتها ومرافقها...  

لن أتبِّع في هذه الحلقات منهجية واحدة، ولن ألتزم بالنقحرة اللغوية، كما هو الحال في دراساتي الأكاديمية، لأني أختار زهرة من كل بستان لتلوين التجارب وبساتيني غنية بالأزهار. ولن أبخل بعرض تجرتي الشخصية كموثِّقة وباحثة ابنة الحضارة والمكان والسكان.

أؤكد أعزائي أن ما أورده هنا عبارة عن وثائق شفوية أنقلها كما سمعتها وكما رواها الرواة، ولا أتوخّى في ذلك البحث عن الدقة التاريخية، فللتاريخ خبراء يتحملون مسؤولية تدوينه.

وأخيرًا، أهدي أوراقي إلى جميع أبناء حيفا في البلاد والشتات، إلى جيران وأصدقاء طفولتي في وادي النسناس، إلى أصدقاء أهلي، إلى أرواحهم وأحفادهم، إلى أسرتي في لبنان وأمريكا وكندا وأستراليا وألمانيا وبلجيكا والسويد، إلى أسرتي في البلاد الدرع الواقي والنبع الذي لا ينضب وإلى روح من سبقنا منهم إلى جوار الباري، وإلى كل من تتوق إليه نفسه لينعم بعبق حيفا وحاراتها الممزوج بصنوبر الكرمل وزعتره ونرجسه وبملح البحر وسمكه ورمله.

محبتي

د. روزلاند كريم الدعيم وتريز خليل النخلة النابلسي الدعيم

وادي النسناس 25، 55، عباس 37، حيفا.

 

2021-05-29