الأربعاء 19/10/1444 هـ الموافق 10/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
حكاية عشق-- من السيرة الذاتية (بين مدينتين)..من دمشق الفيحاء..إلى أطلال الفردوس المفقود...في صفد!/فتحي فوراني

 

جدي من هذه المدينة
محطة أولى على طريق السيرة الذاتية "بين مدينتين"
*
من دمشق الفيحاء..إلى أطلال الفردوس المفقود...في صفد!


**
• أم البدايات- جنة الله على الأرض
وتلفّتت عيني فمذ خفيت     عني الطلول تلفّت القلبُ             (الشريف الرضي)
**
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى    ما الحب إلا للحبيب الأول
وكم منزل في الأرض يعشقه الفتى     وحنينه أبدًا لأول منزل          (أبو تمام)

• ألطريق إلى صفد..إلى الحلم المشتهى!
من مخيم  اليرموك في دمشق الفيحاء عاصمة الأمويين..وسيدة العواصم..جاؤوا!
شدّوا الرحال إلى ملاعب الطفولة..حملوا معهم ذكريات الصبا وكتاب تاريخ مملوءًا دمعًا ودمًا..يمتد على أكثر من  خمسين عامًا..منذ النكبة وحتى عصر الانكسارات والنكبات!
تنطلق الحافلة التي استقلها الباقون في وطنهم والمتشبثون بترابهم..ومعهم الغائبون العائدون تحت جنح الظلام..الذين اقتلعوا من وطنهم..وألقى بهم الثالوث المدنس..أيدي بني عرب وأيدي بني غرب وأيدي "أولاد العم"..في جهات الدنيا الأربع!
لاجئون في وطنهم..ولاجئون في الغربة!
غرباء في وطنهم..وغرباء في الغربة!
وغربة صغرى..وغربة كبرى!
والغربة الصغرى أشدّ مضاضة على المرء  من الغربة الكبرى!
وكلنا غرباء!
وما غريب في الحقيقة إلا الشيطان الرجيم..الخبير في الابتلاع والاقتلاع ..ابتلاع الأرض واقتلاع أهلها والإلقاء بهم في صحارى التشريد والضياع..والغربة في جميع الأصقاع!
**
تدخل الحافلة في منعطف..فيميل القلب على القلب..والرأس على الرأس..واللهفة الجامحة تقفز من القلب..ويقتلها الشوق  لاكتشاف المدينة الضائعة..وتحقيق الحلم المشتهى..بعد غياب خمسين عامًا!
ومن بعيد..تطلّ المدينة يتيمة حزينة!
مدينة صفد..هي المدينة الضائعة..هي الفردوس المفقود..وهي الشوق..وهي  الحلم المشتهى !
إن العصافير يقتلها الشوق والحنين..للعودة إلى أعشاشها!
**
ألقت الحافلة "عصا الترحال" على مشارف المدينة..
صفد..أقصى مدن الشمال..وسيدة المدن الجميلة في أرض الوطن..
يطل الأحبة على أطلال كانت شاهدًا على الميلاد وعلى مسقط رأسهم..وفيها رضعوا طفولتهم وفيها درجوا على ملاعب الصبا..
إنها موطن الأحلام!
وروضة من  رياض الجنة!

• يقول أبي..نبع الصفا كان صافيًا!
هنا..توقف..هذا بيتنا!
تغرورق العينان دمعًا..
وجوه عليها غبرة تحتل بيتنا  وملاعب الطفولة!
- ذات مرة..وقعت عن هذه الشجرة..وكسرت يدي..كسر الله أيديهم ورقابهم! ولعن آباءهم وأجدادهم!
**
هذه هي البئر الأولى..
إنها نهر من أنهار الجنة!
كان نبع الصفا صافيًا عذبًا!
وكانت السماء زرقاء زرقاء!
هذه الشرفة..كنت أطل منها على الجبال الشماء..والسهول الخضراء..
إن حدائق الله..ما زالت عرائش الزهور كما تركناها..ليس تمامًا كما تركناها..فقد تغيرت  ملامحها  قليلا..لم تنس أبناءها وعشاقها العائدين!
ويتوثب القلب ليخرج من سجنه..ويحلق في سماء صفد!
من هذه الشرفة كنت أطل على الدنيا..على مملكة الرب!
أنظر إلى الجرمق الذي يعانق السحاب..وتحيطه الجبال والتلال وأشجار الصنوبر..هذا الوطن مملكة خضراء!
**
فجأة..
يخرج أولاد "الطيبة" الذين جاؤوا من "المنافي"  واستباحوا البئر والشرفات..وتسلبطوا على البشر والشجر والحجر..واللوز والصبر والتين والزيتون وطور سينين!
في غفلة من التاريخ زحف المغول على الأرض الطيبة..فطردوا العصافير..وسطوا على البيت الصغير والبيت  الكبير!
"تخدش"  آذانهم لغة لا يفهمونها!
فيخرجون مذهولين..ومن عيونهم ينطلق الشك والدهشة..أمام "الغرباء"!
- من أنتم!؟ ماذا تعملون هنا!؟ ماذا تريدون!؟
ويردّ أبي بإصرار وتحد..عيناه تقدحان شررًا يكفي لحرق غابة  بأكملها، ولحرق  الدنيا وما فيها: لقد ولدت هنا..هذا البيت لي!
هذه اللوزة لي!
وهذه البئر لي!
وهذا الهواء لي!
يقول والدي رحمه الله: هذا هو بيتنا..هنا ولدت!
ومن هذه البئر شربت..

• هنا بيتي!..تقول عمتي
هنا بيتنا..تقول عمّتي..
في هذا المكان كانت شجرة لوز..قلعوها..قلع الله جذورهم!
وتقول خالتي:
هذه "التوتة"..زرعها أبي..ولطالما حنّينا أصابعنا بلون التوت الأرجواني..لباس الملوك!
ويقول ابن عمتي مستحضرًا أيام الصبا: هذه الساحة كانت ملاعب الصبا..فأين أنت يا ليلى!؟
*
ويقول الراوي:
وحبّب أوطان الرجال إليهم     مآربُ قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم       عهودَ الصبا فيها فحنّوا لذلكا   (إبن الرومي)

• ضباب الذاكرة..في حارة الصواوين!
لا يذكر الصبي شيئا من صفد!
ألدنيا ضباب!
قال والدي: بيتنا  في حارة "الصواوين"..والحارة أطلال "تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد"!
**
من أرشيف الذاكرة يطل مشهد يخيم عليه الضباب..نساء وصبايا يرتدين "الملايات" الصفدية ذات اللون الذهبي المخطط..تشبه إلى حد بعيد "الملايات" التي ترتديها النساء الشركسيات..
ألأولاد والبنات يرتدون ثيابًا جديدة..عصافير تتقافز مرحة..ألعاب و"مراجيح".
حلوى..غزل البنات..بوظة..عرقسوس..أسكيمو وآرتيك  بشوكولاتة..
زيارة القبور..توزع الحلوى على الأطفال..وخاصة كعك العيد..باقات الورد الملونة تزين القبور التي ترتدي اللون الأبيض..
الدنيا عيد!
عيد في المقابر!؟
ما العلاقة بين الأعياد والمقابر!؟
يفكر الطفل..
**
ضباب الطفولة يخيّم على ذاكرة الصبيّ..
ولكن..تظل صفد "الحلم" وذكريات الطفولة الضبابية..عميقة في الوجدان والذاكرة..
**
الذاكرة؟!
صفد..هي الحلم المشتهى!
إنها جنة الله على الأرض!

• أجمل المصايف..جبال صفد!
فلترفع الصواري..ولتفرش الأشرعة..ولنركب البحر..في رحلة إلى الماضي..إلى جزر الأحلام الخضراء!
يأتي العُـربان من جميع أنحاء الوطن  العربي..ومن بلاد الله الواسعة..
فقد  ضربوا موعدا مع  الشمس..والماء والخضراء والوجه الفلسطيني الحسن..
أتوا ليصطافوا في صفد..عروس الجبل..وأجمل مصايف فلسطين!
يعود "الحجاج" إلى بلادهم وقد طبعت الشمس قبلاتها  السمراء على وجوههم..فتزودوا نسيمًا عليلًا..ومتعوا ناظريهم بمناظر الجبال الساحرة التي تسكن فوق الضباب..وتخلب الألباب..ولن ينسوا أن يغرفوا ما تيسر من ريح الصبا الذي تعمدت في "عرار نجد"..
لقد تزودوا بخير الزاد..ما يكفيهم للسنة القادمة..وما يكفيهم للعمر كله..
ولم يتوقعوا أن لا يكون "بعد العشية من عرار"!
قديما قال صاحبنا الجاهلي:
تمتع من شميم عرار نجد    فما بعد العشية من عرار
(والعرار نبات طيب الرائحة)
أما لهذه "العشية" من آخر!؟
لقد أصبحت هذه "العشية" المزمنة سيدة المشهد..
وما زال ليل امرئ القيس يلقي بظله الثقيل وكوابيسه المرعبة..وما زال يخيم على الجرح العربي النازف!
أما لهذا الليل من آخر!؟
يغوص الرمح في الخاصرة..ويمتد الجرح عميقا من القلب..إلى زمن الانكسارات..ويغطي جميع أنحاء الدنيا العربية!
فما زال الجرح مفتوحًا..و ما زال النزيف مستمرًا!

• تمنيت عاصفة من الحمى القلاعية!
  ما أجمل التاريخ!
  ما أقبح التاريخ!
وغطيت عينيّ براحتي يديّ..
**
هذا بيتي!
وتمنيت عاصفة من الحمى القلاعية تقلع الضرس وتقلع وجعه..فلا تبقي ولا تذر..وتقوم  بواجبها الإنساني على أكمل وجه!

• ألموت في الغربة..غصّة في الحلق..وفي القلب حلم!
كان جدي لوالدي تاجرًا تكلم لغة الإيديش- وكانت تربطه علاقات تجارية مع التجار الحيفاويين الذين تكلموا الإيديش..فتعلم لغة "ألقوم"..لكي يأمن مكر الليالي ومكرهم!!
وجه لفحته الشمس..كرغيف الخبز المقمّر الخارج لتوه من أحشاء الطابون..
لحية بيضاء مدوّرة ومهندسة "على البيكار"..وعينان زرقاوان كزرقة  السماء في يوم ربيعي صاف..ولا سيما سماء صفد صديقة الأولمب!
قمباز روزا مخطط  وشملة  ودكّة وحطة (كوفية) وعقال و"مسبحة كاربا" ذات الخرز البرتقالي..وعلبة الدخان "الحلّ" الفضية التي دأبوا على تسميتها "علبة تتن"..في داخلها يزدحم التبغ العربي..يغطيه  دفتر صغير ذو لون أزرق  يضم بين دفتيه ورق الشام شفافًا ناعمًا..
ألعكاز الأنيق للعياقة ليس إلا..
منتصب القامة يمشي..مشية فيها أنفة وهيبة وشباب ورزانة  وكبرياء..
**
لقد اقتلع جدي من أرض آبائه وأجداده..فوجد نفسه "لاجئًا" في بلاد الغربة..عند "ذوي القربى"!
ألم يساو رب العباد بين الْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْأَوْطَانِ؟ (سورة النساء)
ألم يقل الرسوال العربي (ص)  "ألخروج عن الوطن..غربة"!؟
ألم يخاطب مكة قائلا "ما أطيبكِ من بلد..وأحبَّكِ إليَّ..ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ" .
ألم يوصِ الإسكندر إِذَا مَاتَ أَنْ يُحْمَلَ إِلَى بَلَدِهِ حُبًّا لِوَطَنِه؟
ألم يقل أجدادنا "من علامة الرشد أن تكون النفس إلى أوطانها مشتاقة..وإلى موطنها توّاقة!؟
لقد ووري جدّي التراب..بعيدً عن وطنه..في أرض يباب..
**
الغصّة في الحلق..والرمح في الخاصرة..
في قلبه صفد..وفي وجدانه حلم مشتهى..أن ينهض واقفًا من قبره..ويمشي ويمشي ويمشي..ويعود إلى مسقط رأسه..ليدفن في تراب وطنه..إلى جانب حوض النعناع..وتحت دالية ظليلة..في صفد!
**
(هذه صفحات أولى تفتتح الفصل الأول من السيرة الذاتية "بين مدينتين". كتبت هذه الصفحات  بتاريخ 22-3-2006)

البوم صور
2012-11-25