الأربعاء 12/10/1444 هـ الموافق 03/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
حين تم طرد النساء اليهوديات – أخ يا ديسكي –شوقية عروق منصور

تعلمت المشي  لكن لم أتعلم الهرب، لكن تلك الليلة هربت، من المضحك أن أقع في حالة من الذعر دون تأمل، وبعد الذعر تموج الضحكات واكتشفت أن العمر أقرضني تجربة تستيقظ كل فترة على صوت غليان الأحداث .

كان الاتفاق أن نسافر إلى الأردن، وفد أدبي نسائي ، لزيارة اتحاد الكتاب الأردنيين، لكن عند اللقاء على الجسر وخلال الدخول إلى المعبر ، اكتشفت أني وقعت في مصيدة التعايش "  اليهودي العربي" لأن الذي شكل الوفد لم يقل لي أن هناك عدة نساء يهوديات قد التحقن بالوفد الأدبي – لا نعرف كيف جئن  - وما هو اتجاههن ؟؟! حاولت الاحتجاج ، لكن شفرة السكين كانت تحز رقبتي ورفيقاتي يقلن لي _ مشيها عاد _ وكنت أنظر من خلال شبابيك الباص لعل الزجاج يفتح وتنطلق روحي التي ضاقت من الأجواء وتريد الانطلاق .

خلال السفر شعرت أن هناك شيئاً ليس طبيعياً، لكن قلت بيني وبين نفسي ، لعل احساسي قد أصيب بعطب من شدة عدم الثقة التي حرثت أرض خيالاتي وزرعت في تراب التوقع صوراً شيطانية ولعل قلبي الذي طار بفضاء الواقع يحمل خريطة الخوف من الآتي .

ولأنني أعرف جيداً المواقف السياسية لاتحاد الكتاب الأردنيين ، وأقرأ تصريحات الأدباء ومقاومتهم للتطبيع، كانت الزيارة تخلع ضباب تفاصيلها على مقاعد الباص وترتدي سواد اللحظات القادمة.

وصلنا العاصمة عمان ، وبعد الاستراحة في ردهة الفندق ، جاء موعد الذهاب إلى مقر اتحاد الكُتاب الأردنيين الساعة السابعة ليلاً، كنت على استعداد للقاء بعض الأدباء الذين قرأت لهم ، وقد وضعت عشرات الأسئلة في المفكرة حول رواياتهم وقصصهم التي أحتلت مكانة هامة في الأدب العربي الحديث.

تقع بناية اتحاد الكتاب الأردنيين في الطابق الثاني في إحد الأحياء الراقية، تسلل إلي أعماقي شعوراً بأن شيئاً سيحصل – تذكرت الفنان نجيب الريحاني وهو يغني لليلى مراد " حاسس بمصيبة جياني  يا لطيف .. يا لطيف - ، لذلك قررت أن أتلكأ وأكون آخر واحدة تنزل من الباص ، وتركت الوفد النسائي يصعد ، وفي منتصف الدرج بدأت أسمع أصواتاً .. صراخ و صياح .. والنساء اليهوديات يهرولن هاربات ... ويقف أحد الرجال أعلى الدرج ويقول بصوت جهوري صاعق :

-          برا ... أطلعوا بره ..!! لحسن حظي وجدت نفسي أقف خلف أحد الأعمدة ، والنساء يهرولن بسرعة ويتعثرن بعضهن ببعض، لجأت إلى الصمت حتى فرغ الدرج من خطوات النسوة، صعدت إلى المقر وبعد التعريف عن نفسي كان اللقاء الجميل مع أدباء قرأت لهم، والحوار بيننا كان يتحدى خط التوتر العالي، أحد الأدباء قال لي : اعتقدت أنكم أديبات عربيات .. لكن ما أن دخلن النساء وقالوا " شالوم " حتى شعرت أن أعصابي لا تتحمل ، فقمت بطردهم ، وهمست إحدى  الكاتبات الاردنيات في أذني :

-          لا أصدق أنني قد سلمت على شخصية يهودية .

في صباح اليوم التالي وعلى مائدة الفطور كان الابتعاد عني .. لم أهتم ؟! لكن المرأة التي تقود النساء اليهوديات قالت لي " أنا عاتبة عليك ؟؟!! لماذا لم تتضامني وترجعي معنا .. فقد سمعت أنك بقيت هناك .. لم أجبها لأن  كمبيالة الوطن ومأساة شعبي لا أستطيع صرفها بحديث عابر .

أتصلت بي أديبة أردنية وقالت لي أدعوك لحضور مسرحية " آخ يا ديسكي " للفنان الأردني " نبيل المشيني " أبو عواد ، وقد كنت من أشد المعجبات بمسلسل " حارة أبو عواد " من حيث الأفكار الاجتماعية التي كان يطرحها المسلسل من خلال شخصية " أبو عواد" حيث يحارب بهذه الأفكار التصرفات والسلوكيات التي تعيق تطور المجتمع ، وكان دائماً يسعى إلى التغيير والاهتمام بقضايا المجتمع حتى يرتقي المجتمع ويدخل سلك الحضارة .

شاهدت المسرحية لكن لم أجد فيها " نبيل المشيني " صاحب المواقف الاجتماعية التي كان يبرزها في مسلسل " حارة أبو عواد " فقد كان المسلسل علامة فارقة في الفن الأردني من حيث الموضوع الاجتماعي والحوار الفكاهي في التعامل بين الجيران في الحارة .

وحين قلت للصديقة الأديبة أن " أبو عواد " خيب أملي " في مسرحيته التي كانت سطحية جداً ، فما كان منها إلا أن ذهبت وراء الكواليس وقالت للفنان " نبيل المشيني " هناك من يخالفك الرأي لم تعجبه المسرحية -  وتبين أنها صديقة لعائلة الفنان نبيل المشيني - .

وجاء الفنان " نبيل المشيني " ليرى التي لم تعجبها مسرحيته، بدأ النقاش بيني وبينه ، ولخصت حواري أن مسرحية – آخ يا ديسكي -  كوميدية لكن فارغة من المضمون وتعتمد على الحركات التي لا معنى لها سوى اضحاك المشاهد ، ولم أجد مثلاً شخصية " أبو عواد " صاحب المواقف الاجتماعية الحادة.

أجاب بألم " أن الفنان العربي قد يصل به الوضع لقبول أي عمل حتى يبقى في الصورة، وقد يتنازل كثيراً ، ولكن خلال التنازل يجد عملاً جيداً يحمل ملامح شخصيته وتفكيره- وعلى وقع الألم شعرت أن الفنان تطحنه الظروف الاقتصادية والسياسية  – وأضاف أن العالم مصاب الآن بديسك ، ظهر العالم الذي من المفروض أن يحمي الحق والعدالة أصيب بكسر واعوجاج ، والفقراء والمظلومين يعيشون بين الاعوجاج ويمارسون لعبة التحدي مع الحياة الصعبة، وفي أرواحهم شعلة البقاء مهما أظلمت الدنيا ، وعندما حدثته عن حكاية الطرد التي جرت في اتحاد الكتاب الليلة الماضية ، ضحك بأعلى صوته وقال : آه ... راح ديسكي .. خلص راح ... "

تذكرت هذه العبارات عندما سمعت عن موت " أبو عواد "  الفنان نبيل المشيني ، شعرت أن العالم خسر صوتاً فنياً كان يحاول أن يقدم من خلاله النصيحة  بأسلوب فكاهي مبطن، وكل ذلك  من خلال حارة كل رجالها يتذوقون طعم التشفي والشماتة والرصد والقيل والقال، والزوجة الفنانة – رشيدة الدجاني – والأبناء عواد – ربيع شهاب – والأبنة نجاح – عبير عيسى – يحاولون التسلل من شاشة التلفزيون ، حيث يقدمون النصائح والتوجيهات للأسرة العربية والمواطن العربي، مسلسل " حارة أبو عواد " مسلسل أردني كان يحمل لنا براءة الأيام قبل الوقوع في مصيدة " الفضائيات"  .

شوقية عروق منصور 

من كتابي الذي سيصدر قريباً " الوجوه قناديل الذاكرة " 

 

2021-07-30