كنت أعتزم إماتة الكاتب قبل أن أشرع بقراءة قصائد مجموعة مرثية لطائر الحناء ؛ مستئنسا بل ومطبقا المنهج البنيوي الذي يعنى بالنسق دون السياق ولكنني بعد القراءة المعمقة لنصوص المجموعة وجدت ذلك مستحيلا ؛ لأنه سيكون إجحافا في حق النصوص وكاتبها ؛ كون جل نصوص المرثية متكئة على واقع سوسيولوجي وآتية من واقع سياسي مرير بتوابعه المأساوية الكارثية .
ثم عزمت على الاستضاءة بالمنهج التفكيكي المابعد حداثي الذي يفكك النص إلى أوالياته اللسانية ولا يعترف بشيء خارج النص ويعتمد على مقولتي التأجيل والاختلاف في مقاربة النصوص وعلى مقولة إساءة القراءة بمعنى أن كل قراءة للنص من قاريء ما هي إساءة لقراءة سابقة وبتبسيط أكثر أن كل قاريء تختلف قراءته التأويلية للنص بناء على خلفيته الثقافية وحتى السيكولوجية . ولكنني عدلت عن ذلك أيضا للسبب السابق ذاته وأيضاً كي لا نقع في التجريد واستثارة الملل عند السامع الذي سنقرأ هذه الكلمة عليه .
إن كل نص أو هكذا نفترض يخلق واقعه ويفرض نفسه ويكون مجاله الحيوي شعريا كان أو سرديا وهنا نحن إزاء نصوص ذات جرعات شعرية عالية خلقت واقعها الإبداعي وسبحت في مجال شعري حيوي استدعى مفرداته وصوره ودلالاته من واقع مشهود يعيشه الشاعر ومن ينتمي إليهم مكانيا وزمانيا ولكن هذا الواقع لم يؤخذ كما هو بطريقة فجة مبتذلة وإنما صعد به الشاعر إلى درجات عليا من الشعرنة وتم تفعيل ذلك الواقع بمفاعيله كافة في معمل شعري عمل فيه الشاعر ككيميائي حاذق .
وإذا ما استئنسنا بالسيمياء فيما يخص عتبة المجموعة الأولى ( العنوان ) مرثية لطائر الحناء فطائر الحناء طائر عصفوري رقيق مهاجر يغرد طوال العام ويكيف معيشته مع أبسط الأشياء مثل شجرة أو سترة مهملة أو إناء قديم ولكنه يفقد كثيرا من صغاره قبل اشتداد عودها واستواء غنائها بسبب الصيد أو بسبب عجزها عن الدفاع عن نفسها وفي الوقت ذاته فطير ألحناء شرس في الدفاع عن أرضه ولا يسمح لأحد باحتلال حديقته ومع ذلك هو من أكثر العصافير الذي يقع ضحية للقطط ويعيش طليقا ثلاث سنوات ولكنه قد يعيش في القفص أكثر من خمس عشرة سنة.
والآن هل رثى الشاعر هذا الطائر الذي هو بتلك الصفات والعادات والمآل كما بينا ؟ نكاد نطمئن إلى رأي وصلنا إليه سيميائيا ورمزيا إلى أن الطائر الذي رثاه الشاعر هو المكان الذي ينتمي إليه الشاعر وهو قطاع غزة . مقارنة بسيطة بينه وبين غزة تقربنا من مقصد الشاعر المرمز .
إذن الشاعر هذه المرة يتخلى قليلا عن الشعر كلغة مهومة تنهم بخلق الصورة التي تتكيء وتركز في اللعب اللغوي المدهش وينزل إلى الشعر الذي يتزيا بالمعنى / الفكرة . ولا نريد أن يعد أحد ذلك نقيصة أو خفوتاً لوهج الشعر الذي لمحناه في مجموعات الشاعر السابقة ؛ بل هو علو هم ومسؤولية ذات طابع رسالي يشعر الشاعر بثقلها فيتخفف منها شعرا وصورة تحمل فكرة ومعنى ونحن من أنصار شعر الفكرة/ شعر الفلسفة ولا نطمئن كثيرا الى شعر التهويمات والهلاوس اللغوية والاستعراضات الصورية ولطالما نادينا بالتجاور بل بالانصهار بين اللغة والفكرة واعتبرنا أن القصيدة التي لا تأتي من مناطق الفلسفة والفكرة والرؤيا في حكم الميت إكلينيكياً .
وبعد هل كان الشاعر صادقا في مرثيته وهنا لابد لنا من الاستعانة بالمنهج الإحصائي فعملية إحصاء بسيطة لعتبات جل النصوص تجيبنا ؛ نعم كان صادقاً (مرثية الأعمى أيام ميتة غياب فزاعات خسارات السياج ضجر رثاء المغني سعال انتحار ميت طازج ندم رصاصات زهايمر خالية منحدر ناب مخلوعة سيارة الموتى المساء ) ويلزم هذا الاستعراض الإحصائي تحليلاً سيميولوجيا لسبر العتبات سيكولوجيا وسيسيولوجيا وسياسيا و...والمقام هنا لا يسمح بذلك ولكننا نترك هذا للمتلقي وكل متلق سيقرأ قراءة مغايرة تبعا لثقافته وقدرته النقدية وهنا نعود لتذكر مقولة التفكيكيين إساءة القراءة وأيضا نذكر بنظرية الألماني ياوس في التلقي .
هل يجوز للشاعر أن يكون حكيما كالمتنبي أم فيلسوفا كالمعري ؟ نقول ذلك ونحن بالتأكيد نميل إلى الثانية ولكن ما مناسبة هذا التساؤل ؟ في ثنايا النصوص اجتهد الشاعر بأن بتمثل دور الحكيم ولكننا عثرنا على هذا الدور بشكل ساطع في نصي صفقت لي وحدي وتأملات الذي صاغها الشاعر على طريقة الصوفي العارف شمس الدين التبريزي ونثرها شذرات على طريقة نيتشة واميل سيوران ونحن إذ نحمد له المحاولة وجهد التأمل ؛ فإننا لم نجده شاعراً قد استطاع أن يضم خيوط الحكمة والتأمل في ثوب شعري واحد يكون نسيجاً وحده .
دلالات التوسيد والحنين :
لعل ما يجعل الشعر شعراً من بين جماليات أخرى هو انزياح الدلالة ؛ أي خروج المفردة من معناها المعجمي إلى فضاءات دلالية أخرى تسبح فيها داخل النص الذي يخلق معان جديدة مدهشة . ولقد وجدنا في نصوص المرثية مفردات انزاحت دلاليا عن معناها المعجمي وقد تكررت بإصرار عبر صيغها الصرفية المتعددة . من هذه المفردات الشرفة والسياج والحنين والتوسيد بتفرعاته الصرفية توسدت وسادة وسائد تتوسد .. ونحن سنترك السياج الذي يدور في مجال دلالي مفهومي هو الحصار وكذلك الشرفة وهي ضد الأولى التي تحيل إلى دلالة الحرية والتوق إلى الانعتاق . وسنقصر التحليل الدلالي على مفردة التوسيد التي وظفها الشاعر دالا بها على طلب الراحة المفقودة : فقط دع هاتفا يمكنه الرنين في حلم سيدة توسدت سلتها ونامت ق درج المسرة ص 6 وتحت الوسادة مسخ ينام كسولا ق ضجر ص28 وهنا يشير الشاعر رواية المسخ لكافكا بأجوائها السوداوية التشاؤمية العبثية وهذه دلالة أخرى تحيلنا إلى الجو السيكلوجي الذي كتب فيه الشاعر معظم قصائد مرثيته .. أعمال كاملة تحت الوسادة (عنوان )ص42 تحت وسائد الغرباء ص43 حلما في وسادة ق حصان على منحدر ص60 وأحلامه التي في الوسادة ق أفكر في الغيم ص71 لماذا لا غيمة واحدة تتوسد ضحكة الحديقة ق تأملات ص 91 لماذا نسي وجهه على الوساد ق تأملات ص 94 ...
والحنين .. يقول الشاعر سعدي يوسف إنه واجه الغربة والمنافي الكثيرة بقتله للحنين والحنين هنا هو الشوق إلى الوطن العراق . ولكنا نجد هنا في مرثية لطائر الحناء مفردة الحنين حاضرة ليس بإصرار فقط وإنما أيضا بطغيان ... كيف يحن الشاعر إلى مكان يسكنه فالحنين لكي يشرق في معناه لابد من توفر عنصري البعد والفراق و.. وهنا يبرز مفهوم الاغتراب الذي يعاني منه الشاعر وهو في وطنه والغربة أهون من الاغتراب فالأولى تنطوي على معنى جسدي والثانية على معنى نفسي . إذاً الشاعر يحن إلى مكان يشغل حيزا فيه جسديا وكأنه يريد أن يقول : هذا المكان ليس لي رغم وجودي فيه الذي هو للضرورة وليس للصيرورة ومن خلال استعراض بعض الأسطر سنتبين ذلك :
من يعيد لي قطيع الحنين لأذبحه واحدا واحدا بالغناء ق عكاز الأعمى ص 8 * * دع الحنين خارج البيت حين تنام ق نم في مكان آخر ص 9 وهذا السطر يتوافق تماما مع ما دعا إليه سعدي يوسف .على مقربة من حنينك أرمي قلبي ق أصطاد الهواء ص 15 ** وتترك باب حنينها مواربا لحنيني التائه ق أعمال كاملة تحت الوسادة ص 42 ** رماد يساقط من أصابعها وهي ترفو ثوب الحنين الممزق ق سيدة الشرفة العالية ص 43 ** وأنت كإبرة خياطة تعبر القلب رائحة غادية توصلين خيط الحنين ق يمسح طاولة ولا يغادر ص 49 ** ماء أنت يفتت حصاة الحنين ويلوكني ق حديقة الجنون ص 50** وأصحابه يفرقون الحنين ق صفقت لي وحدي ص 76 وهنا يسطع بريق الحنين ويكشر عن نيوبه الاغتراب المتوحش وقد أعادتني هذه القصيدة إلى قصيدة والت وايتمان أغنية لنفسي في أوراق العشب رغم أن القصيدتين تخلقتا في فضائين مغايرين . أنا هواء حنينك لي ق إلى السحابة يا طائر الحب ص 85** أو تمرر فاكهة البكاء على أعين الحنين ق تأملات ص 91 .
وبعد ، فالشاعر الذي بدا لنا ذاتياً ولائذا بغنائية محببة لم يتكلم بضمير المفرد وإنما بضمير الجمع فليس هو وحده الذي يطلب وسادة ليرمي همومه عليها ويستسلم للنوم وليس هو وحده الذي يشعر بضغط الحنين إلى يوتوبيا خاصة به . لقد عبر الشاعر عن الحال الراهنة بوساطة ضمير مفرد بصيغة الجمع .