الأربعاء 19/10/1444 هـ الموافق 10/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
فلسفة الأخوات الثلاثة والفِلاحة البيئية... سعد داغر

"تينٌ وعنبٌ وزيتون" ثلاثية من ثُلاثيات الإنتاج ميزت حياة الفلاحين في فلسطين، كالقِدر لا يجلس إلا على ثلاثٍ، فلا تكتمل حياة الاستدامة إلا بفكر قائم على تنوع الخيارات يدمج بين ثلاثية الروح والعلم والعمل. 

في ثقافات الشعوب على هذا الكوكب برزت منذ القدم ممارسات زراعية إبداعية، ميزت كل ثقافة من تلك الثقافات وانبثقت من ظروف اجتماعية، اقتصادية وجغرافية (وربما سياسية) خاصة بكل شعب، ولربما كان لبعض الكوارث الطبيعية دورٌ في تلك الإبداعات.

كانت أحياناً هذه الممارسات نتاجًا لتجارب، وعُمل بنتائجها من خلال التجربة والخطأ والمراقبة، هذا صحيح في جانب، لكن ما أراه أيضاً صحيحاً، أن تلك الممارسات ما كانت إلا تجسيداً لحالة تدفقٍ  للوعي البشري الجمعي، أنتجته ظروف كل مجموعة عرقية أو شعب قَطَنَ منطقة جغرافية، ذات ظروف مُمَيِّزَة لها، وذات تنوعٍ حيوي وطبيعة نباتية خاصة، أنتجت مزيجاً نباتياً وحيوانياً أثرَّ في العادات الغذائية لهذه المجموعة البشرية أو تلك، لتظهر أنواع أغذية، مبنية على ما يُنتج من أنواع المحاصيل، وأطباق ووصفات تلبي حاجات وأذواق شعب عاش في تلك المنطقة وربما ما زال والبعض الآخر ربما زال (كالأنباط مثلاً). 

ما ميز تلك الممارسات الزراعية أنها قامت على التعددية والتنوع الكبير في المحاصيل، التي تتقولب وتتماهى مع الظروف المناخية السائدة - زراعات مترافقة وزراعات مختلطة ومتداخلة، وتتماهى مع الاحتياجات الغذائية للناس، لكن تجد أن عمودها الفقري كان مجموعة من المحاصيل التي تُزرع مترافقة مع بعضها، حسب الفصل من السنة إن كانت محاصيل سنوية.

لم تُنتقَ تلك المحاصيل عشوائياً، بل كان انتقاء يحمل قيمًا تتصل بما تقدمه تلك النباتات من تنوع غذائي يتناسب واحتياجات الجسم الغذائية من سعرات حرارية على شكل كربوهيدرات ومن بروتينات ومعادن متكاملة ودهون.

 وفي هذا السياق أورد مثالاً عالمياً معروفاً كانت تتبعه الشعوب الأصيلة وما زالت، حتى يومنا هذا، في “جزيرة السلحفاة - Turtele Island” (المعروفة حالياً بالقارة الأميريكية، فالاسم الأصلي لها هو جزيرة السلحفاة، كما الاسم الأصلي لأفريقيا هو أَزَنِيَّا). 

وابتدعت شعوب تلك المنطقة ثُلاثيةً زراعية تقوم على زراعة الذرة، الفاصوليا والقرع (أو اليقطين أو الكوسا)، يزرعونها مجتمعة مع بعضها، في المكان ذاته والحقل نفسه، بتراتبيةٍ خاصة تعطي مشهداً طبيعياً، وفي ذلك حكمة كبيرة، نابعة من احتياجاتهم البشرية ومن حاجة هذه المحاصيل لبعضها لتكون مجتمعة، وكأن لسان حالهم يقول أن لكل محصول دوره في المجموعة، كما لكل فردٍ دوره في المجتمع الواحد/القبيلة، ولا يتكامل ذلك الدور إلا بالوجود المشترك للمحاصيل مجتمعة، كما للأفراد مجتمعين.

 وإذا ما تمت زراعة كل نوع منفرداً، فإن دوره سيكون ناقصاً وقد يحدث خلل في النظام، لأنه سيتحول للنظام الأحادي وستنشأ عنه المعضلات، التي نتفاداها بنظام الزراعة المترافقة والمحاصيل المتعددة في المكان نفسه، بل إن الأمر يتعدى ذلك ليصل إلى بناء نظام حياة مستقر، مستقل وحر، قائم بذاته، لا يعتمد على تدخلات خارجية، ويحمل صفة الاستدامة، يحمي نفسه بنفسه، ويتطور بشكل متواصل، خصب، غزير العطاء وقادر على الاستمرار الذاتي.

 نظامٌ يحمي الأرض-الأم، أو كما يسميها السكان الأصليون في جزيرة السلحفاة: “الباتشاماما”، أي “أمّنا الأرض”. قد لا نستطيع اليوم معرفة كيفية الوصول إلى هذه الممارسة، لكننا نستطيع أن نستشف الحكمة وراء ذلك. 

والأكثر من ذلك، قد نستشف أن هذه الحكمة مرتبطة بعقد اجتماعي مبني على الحكمة في بناء الديمقراطية الاجتماعية الحقيقية والجمعية، التي تقوم على المشورة بمشاركة القبيلة ويباركها القائد، بعيداً عن الفردية والأحادية، التي تميز عصرنا.

 فأحادية لباس العسكر وسلوكهم، وأحادية المحاصيل التي تُزرع في الزراعة الكيميائية الآتية من الفكر العسكري الحربي القائم على القتل، قادت إلى الفردية، وما يصاحبها من أمراض نفسية وانطواء، التي تميز حياة البشر في هذا العصر.

نحتاج إلى وعي البركة

 ديمقراطية القبيلة وأهل الضيعة أو القرية الفلاحية، هي ديمقراطية فن العيش واستمرار الحياة، التي تتناقض جوهرياً مع الفردية ومع "ديكتاتورية الشركات العابرة للقارات"، فتلك تنشُد التعددية في فكرٍ يتدفق منه وعي ينتج غذاءً، يغذي الروح في رحلة إنتاجه، و يغذي الجسد في هضمه وامتصاصه ويتماهى معه.

 فكرٌ ينتج غذاء البركة، والبركة هنا لا أقصد بها وفرة الغذاء فحسب، بل هي وفرة الغذاء الممزوج بمباركة قوة الخلق، أو الطاقة الكونية أو رب الكون، كما يسميه كل شعب أو أمة، أو بمعنى أدق هي الوفرة المباركة، التي نطلق عليها مفهوم البركة. 

وقد يكون وعي البركة هو ما يحتاجه الناس وتحتاجه الشعوب، للخروج من حالة الارتكان والارتهان التي تكرس التبعية والعبودية والاستهلاكية، إلى حالة الوفرة المباركة - “البركة”، التي تفتح الأبواب نحو الإبداع في فن العيش، لعيش الحرية والتحرر من أشكال التبعية والخط المستقيم وفكر الحرب والعسكر القائم على الأحادية، فالملبس واحدٌ والمِشيةُ واحدة والصرخة واتجاه الرأس وحركة الأيدي والإمساك بالبندقية.

بينما قادت ديمقراطية التنويع الزراعي إلى ديمقراطية التنوع وقبول الآخر، وهي القادرة اليوم على أداء ذات الدور، فيما خلق التنوع شعور البركة، الذي كان الناس يعيشونه واقعاً في حياتهم ويجسدونه نهج عيش. 

وما ميز تلك الحياة أن الناس كانت تعتمد على الأساليب الطبيعية في الإنتاج ضمن حالة تدفق وعي أخرى، جعلتهم في حالة انسجام مع الطبيعة، يقدمون لها الحب فترد عليهم بالبركة، يتعاونون فتعاونهم الظروف وتعاونهم الطبيعة التي يحترمون.

أما الشركة، فَجُلُّ ما تصبو إليه هو تعظيم الربح، الذي يتأتى بسلب عقل الفلاح، والإيقاع به ليتحول فريسةً لها، تملي عليه ما تريد لتسحب منه ما في جيبه وخزينته وتُلقي به حبيساً لهمومه.

والأهم سحب إرادته، فالبذور منها محددة بصفاتٍ تفرضها عقلية الشركة، القائمة على سَجن الفلاح في حلقة التبعية، لتستنزف موارده، ليس فقط بسلب الفلاح القدرة على إعادة إنتاج البذور بنفسه، بل لأنها تجعله مُجبراً على استخدام ما تنتجه أو شركات رديفة تابعة لها من سموم كيميائية، في هيئة أسمدة أو مبيدات متعددة الاستعمالات والأغراض (مبيدات أعشاب، حشرات أمراض، قوارض …). 

ثم تأتي هذه الشركات وتنسف كل الإبداع الإنساني للبشرية على مر العصور، مدعيةً أنها صاحبة نظرة مستقبلية في إنتاج “الغذاء”. 

تنسف إبداع الفلاحين في القدرة على صيانة التربة منذ العصور الغابرة حتى يومنا هذا، تنسف قدراتهم وخبراتهم في إعادة إنتاج البذور والحفاظ على التنوع الكبير لتلك البذور، تنسف معارفهم وخبراتهم في التعامل مع الكوارث والحشرات والأمراض النباتية، تنسف قدرتهم في التكيف مع الفصول والمتغيرات، وتستأثر بسلطة التحكم في إنتاج السلع الغذائية، لتكرس "دكتاتورية الشركة" وتهدم ديمقراطية الجماعة، تكرس الأحادية لتقضي على التعددية، تكرس التبعية لتنزع من الناس الحرية. 

فمع سيطرة عقلية الشركة أصبحت الخيارات الزراعية محدودة، وباتت ثقافة الخط الواحد هي المهيمنة والمتحكمة بالفلاح وتأتيه في صور متعددة وخبيثة، لتوقعه في براثنها.

 

الحقل مسرح للإبداع

تينٌ، عنبٌ وزيتون.. فلسفة حياة وليس فقط منهج زراعة: فكما ابتدع أهل جزيرة السلحفاة فلسفة ثلاثية "الذرة - القرع - الفاصوليا" (وهي المثال الأكثر انتشاراً، ولديهم ثلاثيات أخرى)، تدفقَّ وعي أهل فلسطين لينتج "ثلاثية الأخوات" من أشجارٍ لم يزرعوها مجتمعةً عبثًا، بل وراء ذلك كانت فلسفة حياة، ذلك أن الحقل كان مسرحاً للإبداع، في سبيل العيش الحر والاستقلالية والكرامة. 

عنبٌ بأصنافٍ متنوعة في نفس الحقل تأكله طازجاً، تصنع منه الملبن الذي يُخزن بلا مخازن مبردة، ودبس وزبيب، خلٌ، نبيذ وشراب ومربى، وفي الحقل له دورٌ آخر (سيأتي الحديث عنه في مقالٍ آخر). 

وتين يؤكل طازجاً وينضج كما العنب على فترات ممتدة من (حزيران حتى تشرين الثاني) بأصنافه العديدة، ويُحضّر منه القُطين والمربى، ليأتي موسم الزيتون فنحصل منه على “الزيت عمارة للبيت”، ونخلّل الزيتون. 

الحقل حينها لم يكن حقلاً للزيتون وحده، بل تآلفت فيه الأخوات الثلاثة مع ثلاثيات أخرى، ومنه حصل الفلاح على القمح لطحينه والفَريكة، وتبن وقش للمواشي والحمار والبغل والخيل كما زرع الشعير والذرة والبيكا، ومن قشه صنعت النساء السلال والصواني. 

وزرع الفول والعدس والحمص، والبصل والثوم والسمسم، علمًا أن الحديث عن ثلاثية المحاصيل لا يعني بالضرورة وجود ثلاثة محاصيل فقط مع بعضها، لكنها تعبير رمزي عن اعتماد الزراعة المتنوعة وليس الزراعة الأحادية.

فلاح مَكفيّ سلطان مخفي

لم يكن الاختيار للمحاصيل التي تُزرع معاً مصادفة، بل جاء تتويجًا لمعرفة متراكمة، أبعد من علمٍ مجرد، فالعلم يبقى علماً ولا يرتقي إلى المعرفة إلا عندما يُختبر في التطبيق. 

وهذا ما كان لدى الفلاح: علمٌ غير مكتوبٍ في الكتب، يتدفق عبر رسائل كونية تأملية يختبره بالتطبيق العملي، فتتجلى نتائجه في الحياة العملية ليتوج معارف موروثة. 

فوجود شجرة التين مع الزيتون كان يعني توفير حماية متوازنة للمحصول من ذبابة ثمار الزيتون، كما سيدة الحقل التي كانت تحمي أيضاً واُستغني عنها - شجرة الخروب-، التي كان كل حقلِ زيتون تقريباً يحتوي على واحدة منها أو أكثر وفق المساحة. 

ولتلك "الخروبة" أدوار في حياة الفلاح، فهي مُسْتَقَرَهُ للراحة والاسترخاء والاحتماء من حر الصيف مع إبريق الفخار، وهي بثمارها الخضراء التي تأتي في موسم إنتاج حليب الأغنام فيصنع منها شراب "المكيكة"، ثم حين تنضج يُحضرّ منها شراب الخروب ودبسه، وكذلك الخبيصة، وما يتبقى من ثمار غير صالحة تذهب لتغذية الحيوانات، وبقايا الثمار بعد عصرها للدجاج، ولكن في تعددية الزراعة هي أيضاً حامية للزيتون بالدبابير الصغيرة التي تجذبها إليها وبها تحمي ثمار الزيتون. 

وفي الثُلاثيات يمكن أيضاً أخذ ثلاثية القمح والزيتون والتين، التي ترافقت في الحقل وعلى المائدة في طبق غذائي متكامل: طحين القمح الممزوج بزيت الزيتون الذي يعطي طبق "البسيسة" ويؤكل بالتين الجاف/القُطين.

 أي ثلاثية غذائية هذه؟ أي علمٍ اُختبر هنا؟ هذا طبق يستحق من أهل علوم التغذية أن يَدخلوا كُنْهَهُ ليُفَصِّلوا لنا قيمته في علوم الصحة والتغذية: سكريات، دهون بروتينات طبيعية في طبقٍ فلاحي واحد، ربما يصلح لمراكز بناء العضلات.

دواجن - أغنام - خيل، هي أيضاً ثلاثية ميزَّت حياة الفلاح، إذ كان يقتني الخيل (أو البغال أو الحمير) ومعها الأغنام وثالثها الدواجن (دجاج، بط أو حمام)، ومع ثلاثيات المنتج النباتي حقق مبادئ السيادة الغذائية بأبرز تجلياتها، فالأرض هناك والنبات والحيوان - لا كيماويات تسمم التربة الأم، نباتات متنوعة تحفظ بعضها بلا سموم، وحيوانات تعمل بلا وقود خارجي. العلف من الحقل للحيوانات، والصوف من الأغنام للفراش، حليب وألبان وأجبان، بيض ولحمٌ، زيت وعنبٌ وقمح - فلاحٌ مَكْفيٌ سلطان مخفي. فحين يكون الفلاح مكتفياً فهو سلطانٌ ولا سلطانَ للسلطانِ عليه.

ثلاثية الروح والعلم والعمل

اتسمت حياة الفلاح بالاستقرار والاستدامة والمرونة في التكيف مع ظروف الحياة، فعاش حراً ومتحرراً من قيود قد تُملى عليه، حتى لو كنا نرى أن حياة تلك الحقبة قاسية. 

التنويع في المحاصيل (والطيور والماشية) كان إستراتيجية الفلاح، وبها طور أساليب زراعية امتازت بالقدرة والمرونة في الاستجابة لاحتياجات الإنسان اليومية، والفاعلية والاستدامة. 

وفي حياة الشعوب التي كان عند كلٍ منها فلسفة "المحاصيل الأخوات الثلاثة" بطريقتها وحسب احتياجاتها، كان هناك قدرة على مواجهة ظروف الحياة لدى كل شعب وكل مجموعة، إذ تميزت أنماط فِلاحتها بمحافظتها على خصوبة التربة. كانت زراعة بلا كيماويات، تنسجم مع الطبيعة، من دون مدخلات قسرية - كانت فِلاحة بيئية واعية، نحاول اليوم استعادتها والسير على خطاها نحو الصحة والاستقلال وحفظ المصادر الطبيعية، أملًا في مستقبل أجمل. 

إنها فلسفة الأخوات الثلاثة وممارسة فن العيش المتماهية مع ثلاثية الروح والعلم والعمل التي تنتج ثلاثية الحرية والكرامة والارتقاء.

 

 

 

تنسف الشركات التجارية الاحتكارية كل الإبداع الإنساني للبشرية على مر العصور، مدعيةً أنها صاحبة نظرة مستقبلية في إنتاج الغذاء. 

إنها تنسف إبداع الفلاحين في القدرة على صيانة التربة منذ العصور الغابرة حتى يومنا هذا، تنسف قدراتهم وخبراتهم في إعادة إنتاج البذور والحفاظ على التنوع الكبير لتلك البذور، تنسف معارفهم وطرائقهم في التعامل مع الكوارث والحشرات والأمراض النباتية، تنسف قدرتهم في التكيف مع الفصول والمتغيرات.

فيما تستأثر بسلطة التحكم في إنتاج السلع الغذائية، لتكرس "دكتاتورية الشركة" وتهدم ديمقراطية الجماعة، تكرس الأحادية لتقضي على التعددية، تكرس التبعية لتنزع من الناس الحرية، فمع سيطرة عقلية الشركة أصبحت الخيارات الزراعية محدودة، وباتت ثقافة الخط الواحد هي المسيطرة والمتحكمة بالفلاح وتأتيه في صور متعددة وخبيثة، لتوقعه في براثنها.

وفي حياة الشعوب كانت هناك قدرة على مواجهة ظروف الحياة لدى كل شعب وكل مجموعة، وتميزت أنماط فِلاحتها بمحافظتها على خصوبة التربة. 

كانت زراعة بلا كيماويات، تنسجم مع الطبيعة من دون مدخلات قسرية، كانت فِلاحة بيئية واعية، نحاول اليوم استعادتها والسير على خطاها نحو الصحة والاستقلال وحفظ المصادر الطبيعية، أملًا في مستقبل أجمل. إنها فلسفة ممارسة فن العيش المتماهية مع ثلاثية الروح والعلم والعمل التي تنتج ثلاثية الحرية والكرامة والارتقاء. 

 

 آفاق البيئة والتنمية

2021-09-22