السبت 11/10/1445 هـ الموافق 20/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
بريد المغرب يروج للإستعمار الفرنسي والعنصرية واضطهاد النساء....د. حميد لشهب

تناقلت الكثير من وسائل الإعلام المكتوبة والرقمية والمرئية والمسموعة خبر احتفاء بريد المغرب بالرسام الفرنسي "أوجين دولاكروا". ومن العار والعيب أن تقدم مؤسسة مغربية رسمية على مثل هذه الخطوة، لو لم تكن خادمة طيعة للتبعية الثقافية الفرنسية من جهة ولا تهمها كرامة المغرب، ولا التاريخ الإستعماري لفرنسا في المغرب وعموم المغرب العربي وبعض الدول العربية الأخرى. فإذا كان بريد المغرب يحتفي، أي بالمعنى الدقيق للكلمة يُكرّم فنانا عنصريا ومحتقرا للمرأة العربية على العموم، بل يعمل على المحافظة على ذاكرة هذا الإستشراقي، الذي لم يكن يُكِن للثقافة العربية أي احترام، بل كان يفحأها، أي يقاومها، باحتفائها واقتلاعها من منبتها، بل حفا شاربها وبالغ في قصه، فإن المهمة التي اضطلع بها دولاكروا في لوحاته كانت تتمثل أساسا في الإستحفاء بالثقافة العربية، وبالخصوص المغاربية منها، وبهذا يكون قد احتفى ومشى على تربة الثقافة العربية دون نعل ولا حذاء، ويكون بهذا احتفّ هذه الثقافة، بل أحتفها، بقصفه لجذورها الثقافية والأخلاقية والعقائدية، موصلا إياها إلى حافة العدم، وما نراه من عدمية في ثقافاتنا هو نتيجة مثل هذا التدخل السافر للمستعمر في المقومات الثقافية للبلدان التي سيطر عليها.

لكي لا نبقى في عموميات لا تسمن ولا تغني من جوع، ونحط الأصبع على هول ما اقترفه بريد المغرب في حق ثقافتنا الأصلية، سنقوم بمسح سيميائي مقتضب وسريع لأحد اللوحات المشهورة لدولاكروا "نساء جزائريات في شقتهن Femmes d’Alger dans leur appartement"، والتي رسمها في الجزائر العاصمة عام 1834، وأعاد رسمها عام 1849 مغيرا العنوان: "نساء جزائريات في الداخل Femmes d’Alger dans leur intérieur"، ليستطيع القارئ الكريم استنتاج العبر والإنضمام إلى صوت المفكرين الأحرار، ومطالبة بريد المغرب بسحب طابع العار هذا على الفور والإعتذار للمغاربة، وكل من طالهم ظلم وحيف وعنصرية الإستعمار الفرنسي في إفريقيا والعالم العربي بالخصوص. فهل يقدم بريد فرنسا مثلا على تكريم عبد الكريم الخطابي، أحد أقطاب المقاومة ضد الإستعمار، أو أن مؤسساتنا الرسمية تذكرنا باستمرار بأننا لاشيء وبأن بنيتنا السيكو-اجتماعية والثقافية خاضعة وستخضع للمُستَعْمِر؟

في منتصف عام 1830، احتلت فرنسا الجزائر، طامعة في جعل المغرب العربي بكامله ملحقة فرنسية، وجعله يدور في فلك الثقافة الغربية عامة، والفرنسية بوجه الخصوص، طامسة كل مقوماته الفكرية والثقافية، بكل الوسائل، بما فيها الفن التشكيلي والرسم والتصوير والرواية إلخ. وفي هذا الإطار، وبوعي أو دون وعي زار دولاكروا ما كان يسمى أنذاك "الشرق"، أي المغرب العربي. رافق الكونط دو مورناي، في مساعيه لربط علاقة حسن الجوار مع سلطان المغرب أنذاك. أي حيلة عسكرية-ديبلوماسية لتستفرد ببسط نفوذها على الجزائر، وإلهاء المغرب بأمور أخرى، لكي لا تقوم مقاومة مشتركة للمستعمر بين البلدين. وكان يهود المغرب بطنجة أول ضحايا ريشة العنصرية "الديلاكروية"، إن صح التعبير. فتحت ذريعة رفض المسلمين رسمهم من طرفهه، اشتغل على تشويه اليهودية المغربية في هويتها بلوحات جردها فيها من كل مقوماتها الإنسانية وقدمها كبضاعة فنية، تتحف المشاهد الفرنسي -ومعه المتفرج الغربي عامة-. ويبقى ما قاله في هذا الإطار شاهد إثبات على خبث ريشة ومخيلة الرسام العنصري دولاكروا: "ضحكت كثيرا على يونانيي داوود J’ai bien ri des Grecs de David"، ولا داعي لشرح أكثر، ما دام داوود من الأنبياء اليهود. وبما أنه، كالكثير من التشكيليين في عصره، كان مفتونا بالعصر القديم -والإغريقي بالخصوص-، فإنه أقحم المغرب بطريقة غير مشروعة في العصر القديم: "المغرب هو القديم الحي Le Maroc, c’est l’antique vivant"، أي أنه قام بعملية إسقاط لا تُفهم، لإرجاع الثقافة المغربية والمغاربية إلى غابر الأزمان -القرن الرابع قبل ظهور المسيح-، مؤكدا بذلك على دونية هذه الثقافة بالمقارنة مع ثقافته الفرنسية والغربية. هناك أيضا إسقاط واضح لدولاكروا لمخياله الغربي على مجموعة بشرية مغايرة تماما لبشر ثقافته الغربية. وبما أن دولاكروا لم ينجح في الإقتحام الكامل لروح المغربي والمغربية، اللذان كان يرفضان أن يرسما من طرفه، فإنه اكتفى في مقامه بالمغرب برسم استعراضات حفلات الفروسية ومواكب السلطان عبد الرحمان على الخصوص واليهوديات.

في الجزائر، تجلى العمق العنصري الإستعماري للرسام دولاكروا، ذلك أن الطريق الذي عبده له الجيش الفرنسي، فرض عليه، بوعي أو بدون وعي، رسم ما كان الإستعمار يريده، أي اختراق حرمة المرأة المسلمة، مُمثَّلة بنساء الجزائر، اللائي أجبرن إلى حد ما، بطرق مختلفة، لتكن ضحية ريشته. وتمعن اللوحة التي بين أيدينا يساعد على فهم ما نقوله.

عندما نرجع إلى كناش سفره، حيث كان يدون ما يراه ويرسمه والأحداث التي وقعت حيثما كان، نفهم بطريقة أفضل هذه اللوحة لنساء جزائريات، وهي لوحة تظهر بريئة، يقدمها الرسام كتوثيق للحريم الشرقي. والواقع، هو أنه تدخل مباشرة في حميمية المنزل العربي المسلم، ليقدم للمشاهد الغربي غذاء لمخياله للمرأة الشرقية، التي لا تصلح في نظره لشيئ آخر من غير سجنها في حريم، للمتعة الجنسية للرجل. ويتجلى خداع تقديم المرأة الجزائرية بهذه الصورة في كون دولاكروا قام بنفسه بخلق مناخ هذا الحريم، باستدعاء بعض بنات الهوى -الموجودات في كل ثقافة- ليرسمنهن مقابل مبلغ مالي معين. هذا التشويه المُحرِّض للمرأة الجزائرية هو جريمة إنسانية، على خلفية تحقيرية وعنصرية، باختزال عظمة المرأة الجزائرية ومعها المسلمة عامة، في مومسات، اضطررن لظروفهن إلى كسب قوتهن، دون علم لهن بالنية الحقيقية للرسام.

لم يكن باستطاعة دولاكروا تصميم فكرة هذا الحريم إلا بمساعدة القوات العسكرية الفرنسية، وبجرة سيميائية موضوعية يمكن اعتباره صاحب ومالك هذا الحريم، لأنه بالمقابل المادي الذي كان يُدفع لهم، كُنَّ مرغمات على الخضوع الكامل لرب الحريم ولريشته، ومن يدري أيضا لممارسة الجنس عليهن. هناك إذن عنف حقيقي، نفسي وجسدي، على نساء عزل. بصفة عامة تمت تعرية ما تعتبره الثقافة العربية الإسلامية "حُرمة" البيوت، التي لا يحق دخولها إلا بإذن من ملاكها. وهذا الإقتحام العنيف، كما أشار ذلك فيلم وثائقي لهوغ نانسي Hugues Nancy تحت عنوان "الإستعمار، تاريخ فرنسي" -عرض البارح في قناة أجنبية-، كان يخدم المخيال الإستعماري في البحث عن المرأة الخاضعة تماما، وإظهار أن فرنسا تتحكم أيضا في أبدان سكان مستعمراتها، وليس فقط في سياساتها واقتصادها. فإخضاع جسد المرأة الجزائرية والمغربية مثلا هو إذلال وتحقير للمُستَعمَر الذَّكَر وبيع كرامة المرأة في سوق النخاسة، تحت أعين جان دارك، من طرف "الإمبراطورية" التي كانت تدعي "جلب الحضارة والتقدم" للشعوب الأخرى.

إذا قمنا بتقشير سيميائي أكثر للوحة التي انطلقنا منها، نلاحظ على التو بأنه شهادة إثبات بأن المستعمر كان يؤمن بأن من حقه رؤية واعتبار المُستَعمر كما يحلو له (أي المُستعمِر). أما المرأة المُستعمَرة، فلم تكن إلا بائعة الهوى، ليس إلا. ولكريستل طارو كتاب مهم في هذا الإطار، نشر عام 2003 تحت عنوان "العهارة الكلونيالية: الجزائر، تونس، المغرب: Christelle Taraud, La prostitution coloniale: Algérie, Tunisie, Maroc: 1830-1962, 2003".

ما يؤكد ما سبقت الإشارة إليه هو أن الزيارة القصيرة لدولاكروا للجزائر تزامنت مع "سنوات الجوع"، يعني سنوات مصادرة الإستعمار الفرنسي للمحصول الزراعي للجزائريين وإرساله لفرنسا، يعني سياسة تجويع المستعمرات لتغذية الفرنسيين. لم يرسم دولاكروا مثل هذه الفواجع ولا المعاملة المتوحشة للجيش الفرنسي مع الجزائريين، بل عمل على تعرية المرأة الجزائرية وجعلها موضوع اشتهاء واستهلاك للجيش الفرنسي وموظفي الإستعمار، الذين استقدمتهم فرنسا لتسيير الأمور في الجزائر. ونشير في هذا الإطار أيضا إلى البطاقات البريدية التي كان هؤلاء يرسلونها لذويهم وأصدقائهم، وكانت عابرة عن صورة لنساء جزائريات عاريات أو شبه عاريات. وهناك جمل في "كناش سفره" تثبت بأن مصير الجزائري كإنسان لم تكن تهمه، كما يتضح ذلك عندما نقرأ: " لا يهتم العربي بالثروات التي سيكتسبها من خلال المثابرة على العمل. يقيس مجهوداته بمتطلبات الحاضر ... إنه كسول، قدري، مشغول بالكامل بالحياة المستقبلية، لا يهتم كثيرًا بموضوع مواجهة سوء الحظ ويتحمل دون شكوى آثار ارتجاله المعتاد". والعربي المعني بالأمر هنا، هو من طبيعة الجزائري، ومثل هذا الحكم المسبق هو الذي روجته فرنسا، لاحتلال الجزائر.

هذا هو إذن دولاكروا الذي يحتفي به بريد المغرب، ويقدمه للمغاربة كفنان كبير، وهو في العمق مروج كبير للكونوليانية الفرنسية وتحقيرها لثقافة المغرب العربي. ومن هذا المنطلق، على الضمائر الحية في المغرب إعلاء صوتها ضد مثل هذا التسلل العنصري الإستعماري في محيطنا الثقافي وتحليها باليقظة والحذر اتجاه ما تروجه إلى الآن فرنسا المستعمرة في بلادنا. يحتفي بريد المغرب بدولاكروا، في الوقت الذي تضيق فرنسا الخناق على المغاربة، الذين يودون الحصول على تأشيرة دخول للتراب الفرنسي وفي الوقت الذي تنظم فيه فرنسا عبر مؤسساتها في الإتحاد الأوروبي وبعض أحزابها إلى تضييق الخناق على المغرب في حقه ممارسة سيادته على أرضه في الصحراء المغربية. فقد اعترف الإتحاد الأوروبي، يعني فرنسا أيضا، في الأيام القليلة الماضية بأحقية البوليساريو تمثيل سكان الصحراء المغربية، كما أعاد النظر وألغى معاهدات بينه وبين المغرب لهذا السبب بالضبط. فأين أنت يا بريد المغرب من الضربات المباشرة لفرنسا لوجه المغرب وظهره، عندما قررتَ الإحتفاء برسام استعماري عنصري؟

2021-10-12