اسطورة، فحكاية ومقامة، فقصة فمسرحية ورواية، فسينما؛ ترى كيف كان يمكن أن يكون عالمنا ونحن بدون سرديات!
ومن هنا، في العالم كله، كانت الدراما حياة البشر، بدءا بالدراما المسرحية، فالسينمائية، فالتلفزيونية..
انها نحن وهم، في الأمكنة والأزمة، وهي لا توثقنا بقدر ما تجعل حياتنا أكثر وعيا وجمالا، فمن يستطيع العيش دون العودة الى السرد؟ حتى تاريخنا، أحد أبعاد شخصيتنا، هو شكل سردي ضروري ومحبب، ما زال يحظى بالاعتمام والتطوير، لأنه وهو يرينا ما كان، فإنه يرينا كيف كان، وما يمكن أن يكون، ودورنا الفاعل في ذلك كله، إن كان على مستوى الفرد أو الجماعة.
كانت السينما أحد أشكال التوعية والاستمتاع، حيث كانت المعرفة متوفرة لمن يقرأ؛ فمنذ انطلاقها صارت أهم شكل جماهيري. وللعالم تاريخه السينمائي، ولنا تاريخنا، وللجميع حاضرهم، ومستقبلهم.
لقد جمعتنا الشاشة جميعا، بمختلف تكويناتنا، جمعتنا بالفكرة، والفضاء الداخلي، موفرة تأمل تشاركي للمشاعر والأفكار، وظلت كذلك تزدهر، حتى نشأ الفيديو، وما بعده، حيث خفت قاعات السينما بالمرتادين. لقد سطت تلك التقنيات على جمهور الشاشة، وإن لم تنه بقاءها، لأنها ستظل الأصل؛ فالفيلم عاش بالتلفزيون، كما عاش قبله، وبعده.
لقد نشأت مهرجانات السينما وجوائزها في أوج صناعة السينما، خصوصا في البلاد التي تنتج الأفلام، ومنحت السينما آفاقا وتطويرا من خلال التنافس الإيجابي. واليوم، ونقصد آخر عقدين أو أكثر، صارت المهرجانات مجالا لإحياء السينما، خصوصا في إعادة الجمهور لصالات العرض. والأمل معقود على الاستمرار في ذلك، لما تشكله عادة الذهاب الى السينما والمسرح من تقليد رائع يكشف المستوى الرفيع للشعوب.
في هذه الأيام، من منتصف خريف كل عام، على مدارات الثماني سنوات، تزهر فلسطين سينمائيا من رام الله والقدس الى بيت لحم والناصرة وغزة، في دلالة استعادة جسد الوطن، حيث قاد هذه الأيام السينمائية شباب وشابات، بادروا لتأسيس هذه المهرجان، في وقت ما زالت فلسطين تستوعب كل أفكار التأسيس والتأصل الجمالي والإنساني، بل ومنحه آفاقا رحبة، من خلال تشجيع إنتاج الأفلام، من خلال جائزة تحمل اسما عزيزا على قلوبنا، وهو طائر الشمس الفلسطيني للأفلام.
إنه فضاء للجمهور أولا، ثم لصناع الأفلام، وكل أشكال السرد الإنساني، كون السردية السينمائية قائمة أولا على القصص والحكايات والروايات، أكانت في شكلها التقليدي، التي يتم معالجتها وإعدادها للسينما، أو تلك الكتابة التي تعدّ في الأساس للسينما.
كادر شاب، صبور، يملك وعيا فنيا، وله خبرة مميزة في المجال الفني، كذلك في مهارات الاتصال والتواصل مع صناع الأفلام داخل فلسطين وخارجها، والوعي على ضرورة وجود الفيلم العربي.
وكما أن المهرجان شاب، فإن هناك انحياز لصناع الأفلام من فئة الشباب، الذين يشكلون الحاضر والمستقبل، لكل ما يتصل بقضايا البشر؛ فالشباب، وهم الفئة النبيلة، التي تنحاز للجماهير، هم الأقدر الآن على تلمس هموم الناس واهتماماتهم.
بنظرة سريعة على الأفلام المعروضة في أيام فلسطين السينمائية، سنجد أنها أفلام إنسانية، ذات مستوى متقدم، والأهم أنها تشكل مختبرا سينمائيا للمخرجين والجمهور، بما فيها من تطوير عبر التجريب، وإعادة الاعتبار للإبداع، والاهتمام باللغة البصرية وليس فقط المحكية.
بصراحة، فإن كل فيلم هو حكاية، فالفيلم من حياتنا، وحياتنا مهمة، يصعب المرور عليها سريعا، لذلك نتمنى أن يصل الجمهور لقاعات العرض في المدن الفلسطينية كما نود أن يواكب المهرجان كتابات أكثر فأكثر، بل وإنتاج جريدة خاصة بالمهرجان، كتقاليد باقي المهرجانات، لتعميق تواصل الجمهور هذا العام والأعوام القادمة، بل وعمل جائزة للمنابر الإعلامية والكتاب، بل وأن يسعى المهرجان لتطوير أدوات الكتاب في مجال الكتابة عن السينما ولها.
في فيلم الغريب، فيلم الافتتاح لأمير فخر الدين، القادم من الجولان المحتل، وفيلم إلى أين يا عايدة؟ للبوسنية يازميلا تشبانيتش، وأفلام أخرى، سنجد أنفسنا متأثرين خلال المشاهدة، مندمجين إنسانيا، وصولا الى تعميق الوعي لا على السينما فقط، بل على الأدب والفنون، بما فيهما طاقة التغيير. لذلك سنجد أنفسنا متشجعين فعلا لمتابعة الأفلام، متمنين تشجيع الجمهور على ارتياد قاعات العروض، لأن أيام سينمائية هو للجمهور.
الغريب، لفخر الدين أخذنا لا للتفكير فقط بمضمون الفيلم الوطني والإنساني فقط، بل بأسلوب المخرج الشاب، الذي استطاع إدخالنا ماديا في الفيلم، وليس معنويا؛ فقد عمل على حواس المشاهد جميعها، من خلال السفر مع الكاميرا الى أرض التفاح. اعتمد على الحياة المحلية، من خلال كشف العمق الإنساني للشخصيات، في ظل واقع معقد، يعاني من نزاعات وصراعات، دون أن يغفل عن رابطة الإنسان بالأرض، التي ينتمي اليها، من خلال العائد المصاب، حتى ولو ولد خارجها لوالدين لاجئين، حين يساعده عدنا على اجتياز الحدود. ثمة كشف نفسي واجتماعي وسياسي، وكولينيالي، يرينا كيف ان وعي المخرج على هذه المنظومة متقدما، مؤكدا ذلك بمؤثرات الصوت واللون، حيث تكون يوقع الدم الأحمر على الحليب الأبيض، بدلالات تأخذنا كل الى أحاسيسه، بأن ما يحدث هنا من البداية، غير عادي، كأن الناس هنا يشربون حليب الحياة معكرا. ثمة منطلق نفسي واجتماعي، في نظرة الشخصية لنفسها ومحيطها، والذي يزيد الأمر توترا، هو اختلاف الأجيال في التعامل مع هذه الحياة، في ظل واقع غريب، ما بين احتلال هنا، وبين نزاعات في الوطن يتم الاستماع لأصوات إطلاق النار داخل الوطن، هناك، حيث يصبح الوطن المحرر بجاجة لتحرير آخر، لوقوعه في الفتنة وتصفية الحسابات الدولية.
في فيلم زميلته البوسنية يازميلا تشبانيتش، إلى أين يا عايدة؟ الذي شاهدناه ونحن ما بين التوتر والحزن العميق، حد البكاء، فإننا مرة سنقول "تعيش السينما"، لما تقدمه من دور هام، باتجاه مناهضة الشرور والعنصرية، ومنح الأمل، حيث تشكل المشاهد الأخيرة لأطفال سيربرنيتسا بمثابة مسح الدموع في ظل فقد الأحباء، وأن هناك أملا لاستمرار الحياة.
" إلى أين يا عايدة؟"، صوت رمزي وواقعي ضد الاحتلال والظلم والهمجية، التي وجد الناس في ظل طغاة سطوا على أحلام الناس ونسيجهم الاجتماعي المسالم. والمثير في المذبحة، أن الناس يعرفون بعضهم، وأنهم كانوا يعيشون في سلام معا، فإذا بذابح ومذبوح.
بالفن والأدب، نقاوم كل أشكال الاضطهاد والظلم والاحتلال، من خلال التوعية والتربية الإنسانية بعيدا عن الموعظة. وستظل السينما على رأس هذه الفنون، ولنا في فلسطين بشكل خاص، حاجة للفنون، للتأثير من خلالها، فلعل الأفلام عنا، التي تقدم مهنيا وإنسانيا بعيدا عن الخطاب المباشر، ستكون مقدمة مهمة في زيادة التضامن مع قضيتنا العادلة.
إنها فرصة للتأكيد على ضرورة دعم الإنتاجات السينمائية في فلسطين، ودعم الفنون والأدب، لما سيظل للسرديات من دور في البقاء الأكثر جمالا.