الأحد 1/11/1444 هـ الموافق 21/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
اللامبالاة الجماعية / د. رفيق حاج

اللامبالاة الجماعيه تؤدي الى بروز قادة غير جديرين بقيادة المجتمع من ناحية كفاءاتهم واخلاقياتهم ورصيدهم الجماهيري والى اتاحة الفرصة للاعبين منتفعين وانتهازيين وضيّقي الافق ان يلعبوا وان يمرحوا في الحلبة الجماهيريه دون رادع, كما وتشكّل اللامبالاة ارضاً خصبة لنمو الانتهازيه والقيادات الهزيلة وهيمنة الوَسَطيّه والى ضياع الحق العام

لست بصدد التطرّق الى اللامبالاة الفرديه, لا لأنها لا تهُمني, ولا من بابِ المعارضةِ او التأييد وانّما من بابِ الإيمانِ بالحريةِ الفرديةِ واعتبارها خصوصية من خصوصيات الفرد, فمن اختار ان يكون لامبالياً فهذا شأنُهُ, وليتعلّم على جلده ولِيستخلص العبر لوحده, كما واني لا ارى علاقة مباشره بين اللامبالاه الفردية واللامبالاة الجماعيه, فقد نكون اكثر الناس اهتماما بانفسنا وعملنا وتحصيلنا وجمال منظرنا ونظافة ساحتنا وقد نتفانى بتوفير كل وسائل الراحة لأهل بيتنا, لكننا نختار ان نكون غير مبالين بالنظافة العامة للبلد او غير آبهين بمستوى التعليم المتدهور او غير مكترثين بالأخطار المحدقة بنا او بالروائح الكريهة المنبعثه من المزابل وحظائر المواشي او بالفوضى العارمة في حركة السير. اريد اطلاع القارئ الكريم على ظاهرة اشد خطورة وهي اللامبالاة الجماعية او العامة المنتشره كالوباء المعدي والآتيه على الاخضر واليابس. لقد سمعت مرّة مقوله لست ادري ما هو مصدرها تقول- بان العالم سيفنى يوما ما ليس بسبب الناس الاشرار او السيئين او الخبثاء وانما بسبب الناس الغير مبالين الذين يشكّلون الاكثرية العظمى من المجتمع.

خلاصة اللامبالاة الجماعية هي عدم الاكتراث بما يجري خارج اطار البيت كالحارة او البلدة او الدوله. ان من "يحترفون" اللامبالاه تجاه مجتمعهم او شعبهم لا يعبأون بهمومه ولا بفشله مقارنة بباقي المجتمعات او الشعوب, بل ويتلذّذون بتعداد مناقبه وشرح نقاط ضعفه ويعتبرون انفسهم "حالة نجاح" خاصه والتي فَرَضَت نفسها بالرغم من الانحطاط الذي يقبع به مجتمعهم. اللامبالاة الجماعية هي نتيجة مباشرة للشعور بالاحباط, فاللامبالي يؤمن من اعماق قلبه بأن لا فائده من تدخّله, ويخشى من مغبّة تصدّيه للمتجاوزين على الحق العام,  ولذا فالافضل له ان يلتزم الصمت والتنحّي جانبا وليقُم في هذه المهمة فرد آخر. لقد بات معروفاً ان الشعوب التي تعاني من التمييز على انواعه تُصاب بوباء الاحباط  حيث تشكّل اللامبالاة صورة من صوره, فاللامبالي هو انسان محبط بخصوص  قدرته على تحسين مجتمعه, والمحبط هو انسان غير مبالي بما يدور حوله. تنمو وتزدهر اللامبالاة ايضا بغياب الشعور بالانتماء وباهتراء النسيج الاجتماعي وهيمنة الفردنه على الجماعية. عندما ينعدم التواصل بين الفرد والمجموعة يزداد الفرد عزلة وانشغالا بنفسه على حساب المجموعة. وما زاد ظاهرة اللامبالاة انتشارا هو انهيار البنى الاجتماعية التقليدية للشعوب وهيمنة مظاهر العولمة وتداعي الايدلوجيات العالمية والقومية التي آمنت بها الناس.

اللامبالاة في نظري هي مَنحُ موافقة غير مباشره للاعتداء على الصالح العام والاستهتار  بالملكية المشتركه ولتشجيع الفاسدين والمفسدين في الارض ان يستمروا في غيّهم وفسادهم, وبعبارة أخرى, اللامبالي هو شريك فعلي في الجريمه التي تُرتكب ضد الصالح العام وان صعُب اثبات ذلك في الاروقة القانونيه. عندما نقف مكتوفي الايدي امام صاحب المتجر الذي يقذف بالاوساخ والكراتين الفارغة واكياس النايلون في عرض الشارع, لا بل ونقوم بشراء البضاعة من محله, فنحن شركاء معه بالاستهتار بنظافة البيئة التي نعيش بها, ومثلها مثل الام التي تتغاضى عن العنف الجسدي الذي يمارسه الاب ضد ابنائه. عندما نشتري اللحوم من الاطاليز التي تقذف برؤوس المواشي او امعاء الدجاج على جوانب الطرق الزراعيه فاننا شركاء بالجريمة. عندما نقوم ببناء اسوار عالية حول بيوتنا ونزوّدها بالكاميرات والانتركومات تاركين أمن وسلامة الشارع للآخرين فنحن نعلن بشكل غير مباشر بأن أمن المجتمع وسلامته لا يعنينا وجُلّ اهتمامنا هو أمننا وسلامتنا فقط.

.اللامبالاة تهدد الامن العام وتغذي الجريمة والعنف والفساد والانحراف على انواعه وذلك لانعدام الروادع الشعبيه او كما يقولون: "سألوا نمرود مين نَمرًدًك؟"..فاجاب "ما لقيتش حد يردّني.." وقد تؤدي اللامبالاة الى انهيار المجتمعات بكاملها, والى هتك المقدّسات وفقدان الحقوق والى خسارة الاملاك واختلاس الموارد الجماعية من قبل اناس انانيين ونفعيين. اللامبالاة الجماعيه تؤدي الى بروز قادة غير جديرين بقيادة المجتمع من ناحية كفاءاتهم واخلاقياتهم ورصيدهم الجماهيري والى اتاحة الفرصة للاعبين منتفعين وانتهازيين وضيّقي الآفاق ان يلعبوا وان يمرحوا في الحلبة الجماهيريه دون رادع. كما و تشكّل اللامبالاة ارضا خصبة لنمو الانتهازيه والقيادات الهزيلة وهيمنة الوَسَطيّه والى ضياع الحق العام.

يعتقدُ من يعتقد بأن هناك قوى خفية ستأتي من آخر الدنيا لتنتشلنا من بحر اللامبالاة الذي نسبح به, ولكنهم يخطئون بذلك لاننا نحن المسؤلون المباشرون عن هذا الوضع ولن يأتي الحل الا بمبادرة منا. لكي نقضي على اللامبالاة الجماعية في مجتمعاتنا علينا ان نعمل اولاً على استعادة النسيج الاجتماعي الذي كان يسود حتى الربع الاخير من القرن السابق وان نسعى الى تعميق الانتماء الى البلد وتوطيد العلاقات بين الناس. اذا لم تكن قلوبنا على بعض فلا رجاء منّا ولا نصرة لنا. عندما نحب بلدنا وشعبنا وقادتنا وتراثنا ولغتنا سنهبّ لاسعافهم ومناصرتهم. المفروض من كل فرد في المجتمع ان يكون واعيا لخطورة هذه الظاهرة ولمدى انتشارها ويسعى لانجاح العمل الجماعي في مجتمعه- ان كان ذلك اشتراك في مظاهرة احتجاجية او تبرّع لمؤسسة خيريه او الانتساب الى لجنه شعبية او العمل من خلال رابطة مهنيه او حزب سياسي او تشجيع فرقة رياضية او حتى الاشتراك في ندوة او حضور مسرحيه او حفلة موسيقية. ان المردود من اشتراكنا في العمل الاجتماعي لن يتاخّر بالوصول وسنرى انعكاساته الايجابية على انجازات المجتمع غدا او بعد غد.

2012-12-07