حرب معلومات تدور خلف فوهات الدبابات، تتبادل فيها الأطراف الكر والفر، وتصبح فيها المعلومة أغلى من الصاروخ، والدليل أهم من الطائرة.
هذا بالتحديد ما يدور في أوكرانيا في الوقت الحالي، خاصة فيما يتعلق بمختبرات "الأبحاث البيولوجية" في الأراضي الأوكرانية، والتي كانت هجمة معلوماتية في البداية، تقهقرت أمامها واشنطن، ولو بشكل جزئي.
وفي هذا التقرير، تستعرض "العين الإخبارية" كل ما هو معروف عن الأسلحة البيولوجية، والمختبرات المتواجدة في أوكرانيا، ومواقف موسكو وواشنطن، ومدى اعتراف الأخيرة بدعم المختبرات، والموقف القانوني للشكوك الروسية.
ما هي الأسلحة البيولوجية؟
وبصفة عامة، تعتبر الحرب الكيماوية والبيولوجية والإشعاعية النووية جزءًا متأصلا في تاريخ الصراعات العالمية
ويمكن تتبع الأسلحة البيولوجية إلى ما قبل الميلاد بعشرة آلاف عام عندما استخدم مجتمع "سان" في جنوب أفريقيا سموما طبيعية من الثعابين على أطراف رماحهم لصيد الظباء.
وطبقًا لموقع "ساينس دايركت"، وهو عبارة عن قاعدة بيانات علمية وبيلوغرافية، فإن الحرب البيولوجية أو استخدام الأسلحة البيولوجية، تعرف بأنها الاستخدام المتعمد لكائنات حية، أو سموم مشتقة منها، تتسبب في الأمراض لدى البشر أو الحيوانات، أو النباتات، خلال صراع أو هجوم إرهابي. ولذلك، تشمل الأسلحة البيولوجية كائنات حية وسموما تنتجها.
وتتضمن الحرب البيولوجية الإطلاق المتعمد لمسببات الأمراض الحية سواء في شكلها الطبيعي، على سبيل المثال جثث الحيوانات المريضة، أو في شكل كائنات حية معدلة (وتعرف في هذا السياق أيضا بـ"الحرب الجرثومية")، وقد يتضمن ذلك بكتيريا أو فيروسات، أو أي مسببات للأمراض.
ويكون الهدف إما قتل وإما إعاقة الأشخاص الذين يفتقرون للحماية من الوصول إلى منطقة ذات أهمية تكتيكية.
تاريخ طويل
وتاريخيا، كانت الأسلحة البيولوجية هي الشكل الأول للحروب غير التقليدية، فخلال القرن السادس قبل الميلاد، سمم الآشوريون ينابيع مياه الأعداء باستخدام فطر الإرجوت من أجل إرباك العدو.
وخلال القرن الرابع قبل الميلاد، استخدم الرماة السكوثيون رماحا مغطاة ببراز الحيوانات من أجل أن تتلوث إصابات أعدائهم بالعدوى.
وخلال العصور الوسطى، غالبا ما كان يستخدم ضحايا الطاعون الدبلي في الهجمات البيولوجية، حيث كانت الجيوش المحاصرة تلقي بالجثث والفضلات المصابة بالمرض على جدران القلعة باستخدام المقاليع.
وبحسب موقع "ساينس دايركت"، يمكن العثور على أحد أول استخدام مشتبه فيها، للعوامل البيولوجية في الحرب بين الفرس والرومان عام 256.
وطبقًا للأدلة الأثرية، عرض الجيش الفارسي الجنود الرومان إلى غازات سامة، مما أسفر عن مقتلهم قبل مواجهتم في المعركة.
وشهدت الحرب العالمية الأولى إفراطا في استخدام العوامل الكيميائية كأسلحة هجومية، وتضمنت تلك العوامل غازات الفوسجين والكلور والخردل، خلال المواجهات بين عامي 1915 و1918.
وخلال الجزء الأول من الحرب العالمية الثانية استخدم جيش الإمبراطورية اليابانية أسلحة بيولوجية ضد الجنود والمدنيين الصينيين على حد سواء. وواجهت "الوحدة 731" سيئة السمعة اتهامات بعمليات حرب بيولوجية، بما في ذلك إلقاء براغيث ملوثة بالطاعون على مدينة تشانغده، متسببة في تفشي الطاعون.
وردًا على تطوير الأسلحة البيولوجية في ألمانيا واليابان، بدأت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا برنامجا لتطوير الأسلحة البيولوجية، أسفر عن تحويل التولاريميا، والجمرة الخبيثة، وداء البروسيلات، والتسمُّم السُّجقي إلى أسلحة خلال فترة الحرب.
وتوقف تطوير وإنتاج وتخزين الأسلحة البيولوجية بفاعلية مع معاهدة حظر الأسلحة البيولوجية عام 1972، التي وقعت عليها حتى الآن ١٣٧ دولة وما زالت سارية المفعول.
ومنذ ذلك الحين، تابعت عدة دول أبحاثًا "دفاعية" عن الأسلحة البيولوجية (للتطبيقات الدفاعية أو الوقائية)، وهو أمر لا تحظره اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية.
وتكمن المشكلة العسكرية الرئيسية في الهجوم البيولوجي أنه، وعلى عكس الهجوم النووي أو الكيماوي، قد يستغرق أياما حتى يصبح فعالا وبالتالي لن يوقف قوة معادية فورًا.
"قنبلة الفقراء"
وإذا وضعت في مقارنة مع إنتاج الأسلحة النووية، فإن الأسلحة البيولوجية أقل تكلفة بشكل كبير، ولا تتطلب إلا معملا مجهزا وفريقا متخصصا، لكنها أكثر تكلفة في مراحل الإطلاق.
كما أن هذه الأسلحة فتاكة للغاية، إذ يمكن أن يقتل الجرام الواحد من السم ما يزيد على مليوني إنسان، وفق تقديرات علمية.
وعلى خلاف الإنتاج الرخيص، فإن إطلاق الأسلحة البيولوجية أكثر تكلفة وصعوبة، على سبيل المثال عندما يُطلق صاروخ يحرك درجات حرارة عالية في محيطه ما يمكن أن يتلف الأسلحة البيولوجية نفسها، لذلك لابد من تزويد الصاروخ بنظام تبريد كامل.
ولضرب مساحة ما من أراضي الخصم تبلغ كيلومترا مربعا واحدا، تحتاج إلى ألفي دولار مع الأسلحة التقليدية، أو 800 دولار من الأسلحة النووية، فيما تبلغ تكلفة استخدام الأسلحة البيولوجية في نفس المساحة، دولارا واحدا، لذلك تلقى الأخيرة رواجا في الدول الفقيرة.
الاتهامات الروسية بأوكرانيا
بداية القصة كانت في الأسبوع الثاني من الحرب بأوكرانيا، حين قالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، في أحد المؤتمرات الصحفية، إن القوات الروسية اكتشفت وثائق في أوكرانيا تفيد بأن وزارة الصحة الأوكرانية أمرت بإتلاف عينات من الطاعون والكوليرا والجمرة الخبيثة ومسببات الأمراض الأخرى قبل بداية الحرب.
ووجهت المتحدثة الروسية، اتهامات إلى حكومة كييف بأنها تدير بالتعاون مع الولايات المتحدة، مختبرات في أوكرانيا بهدف إنتاج أسلحة بيولوجية.
وطالبت روسيا، الإدارة الأمريكية، بأن تقدم تفسيرا للعالم عن سبب دعمها ما وصفته بأنه "برنامج بيولوجي عسكري في أوكرانيا يشمل مسببات لأمراض فتاكة مثل الطاعون والجمرة الخبيثة عن طريق الطيور المهاجرة بين البلدين".
وعلى الفور، خرج كل من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، والبيت الأبيض والبنتاجون ووزارة الخارجية الأمريكية، ببيانات منفصلة تنفي وجود مختبرات "أسلحة بيولوجية" في الأراضي الأوكرانية.
اعتراف أمريكي!
لكن في 10 مارس/آذار الماضي، خرجت نائبة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون السياسية، فيكتوريا نولاند، بتصريحات مختلفة عن بيانات الرفض القاطع التي صدرت قبل هذا التاريخ بأيام.
وبوضوح، أكدت نولاند أمام لجنة استماع في الكونجرس، وجود "منشآت أبحاث بيولوجية" في أراضي أوكرانيا، قائلة إن بلادها تعمل على منع وقوع هذه المواقع في سيطرة روسيا.
وقالت نولاند، ردا على سؤال حول ما إذا كانت في أوكرانيا أسلحة كيميائية أو بيولوجية: "تتوفر لدى أوكرانيا منشآت خاصة بالأبحاث البيولوجية. نحن قلقون من أن القوات الروسية يمكن أن تحاول بسط السيطرة عليها".
وتابعت: "لهذا السبب نعمل مع الأوكرانيين على تمكنهم من منع وقوع أي من هذه المواد البحثية في قبضة القوات الروسية حال اقترابها".
كما أكدت نولاند خلال الجلسة أن الولايات المتحدة ستسعى إلى إلحاق "هزيمة استراتيجية" بروسيا في أوكرانيا.
فيما نقلت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية عن مصادر مطلعة قولها "توجد مختبرات بيولوجية داخل أوكرانيا، ومنذ عام 2005، قدمت الولايات المتحدة الدعم لعدد من المؤسسات لمنع إنتاج أسلحة بيولوجية".
الأمر لم يتوقف عند ذلك، إذ أصدرت الخارجية الأمريكية بيانا توضيحيا، قالت فيه إن نولاند كانت تشير إلى مختبرات التشخيص والدفاع البيولوجي الأوكرانية خلال شهادتها، والتي تختلف عن منشآت الأسلحة البيولوجية.
وقالت الوزارة في بيانها: "معامل الدفاع البيولوجي هذه تتصدى للتهديدات البيولوجية في جميع أنحاء أوكرانيا".
جدل كبير
لكن تصريحات نولاند والتقارير والبيانات اللاحقة عليها، حركا حالة من الجدل حول هذه "المختبرات"، داخل الولايات المتحدة نفسها، إذ استخدم تاكر كارلسون، أحد مذيعي قناة "فوكس نيوز" الأمريكية، وآخرون، تصريحات المسؤولين الأمريكيين، كدليل على أن هذه المختبرات تنتج أو تجري أبحاثًا حول الأسلحة البيولوجية.
قال كارلسون في برنامجه منتصف مارس/آذار الماضي: "أكد مسؤول في إدارة جو بايدن، القصة"، موضحا "فيكتوريا نولاند، وكيلة وزارة الخارجية، ذكرت عرضًا في جلسة استماع لمجلس الشيوخ يوم الثلاثاء أن إدارة بايدن تمول بالفعل سلسلة من المختبرات البيولوجية في أوكرانيا".
ووصف النائب الجمهوري عن ولاية كنتاكي، توماس ماسي، ملاحظات نولاند بأنها "اعتراف جاد". وغرد دونالد ترامب جونيور، نجل الرئيس السابق دونالد ترامب، أن تعليقات المسؤولة الأمريكية، حولت "الادعاء من نظرية المؤامرة إلى حقيقة".
الأكثر من ذلك، استعانت قناة فوكس نيوز، بتصريحات روبرت بوب، مدير برنامج البنتاجون للحد من التهديدات، والذي يساعد دول الاتحاد السوفيتي السابق على تأمين أو إزالة الأسلحة النووية والكيميائية، حيث قال "العلماء علماء، ولا يريدون تدمير كل الأسلحة البيولوجية"، متابعا: "بدلاً من ذلك، فهم يستخدمونها لإجراء أبحاث جديدة حول الأسلحة البيولوجية".
لكن استعانة فوكس نيوز بتصريحات بوب في فبراير/شباط الماضي، لم تكن كاملة، إذ إن المسؤول الأمريكي قال أيضا، إن العملية العسكرية الروسية، قد تلحق الضرر بالمختبرات التي تجري أبحاث وتراقب الأمراض، وتدعمها الولايات المتحدة.
وأشار في المقابلة التي نشرت في 25 فبراير/شباط، إلى أن بعض المنشآت قد تحتوي على مسببات الأمراض التي كانت تستخدم في السابق في برامج الأسلحة البيولوجية التي تعود إلى الحقبة السوفيتية، لكنه أكد أن المعامل الأوكرانية لا تملك حاليًا القدرة على تصنيع أسلحة بيولوجية.
ومضى قائلا: "لا يوجد مكان في أوكرانيا، لا يزال لديه أي نوع من البنية التحتية للبحث أو إنتاج أسلحة بيولوجية"، موضحا "نظرًا لكون العلماء علماء، فلن يفاجئني إذا كانت بعض هذه المختبرات الأوكرانية لا تزال تحتوي على سلالات مسببة للأمراض تعود إلى أصول ذلك البرنامج" في الحقبة السوفيتية.
وفي مقابلة لاحقة مع رابطة لعلماء الطاقة الذرية "غير ربحية" في منتصف مارس/آذار، أيد بوب، مخاوف نولاند بشأن وقوع المختبرات في أيدي روسيا، وتحدث بشكل خاص عن دعم البنتاجون لـ 14 مختبرًا بيطريًا تزود أوكرانيا بقدرات أخذ العينات والتشخيص للكشف عن الأمراض المعدية.
ومضى قائلا "إذا احتلت القوات الروسية مدينة بها إحدى هذه المنشآت، فإننا نشعر بالقلق من أن روسيا ستختلق أدلة على نشاط شائن في محاولة لإضفاء المصداقية على معلوماتها المضللة المستمرة حول هذه المنشآت"، على حد قوله.
الموقف القانوني
وفي أوائل مارس/آذار الماضي، عقد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة اجتماعا حول الاتهامات الروسية المتعلقة بالأسلحة البيولوجية في أوكرانيا، وقالت إيزومي ناكاميتسو، الممثلة السامية للأمم المتحدة لشؤون نزع السلاح، خلال الجلسة، إن الأمم المتحدة "ليست على علم بأي برامج أسلحة بيولوجية" في أوكرانيا.
وكل من أوكرانيا وروسيا موقعتان على معاهدة دولية تحظر الأسلحة البيولوجية، جرى تدشينها في سبعينيات القرن الماضي، وتوفر آلية دولية لمنع انتشار هذه الأسلحة الخطيرة.
وبينما لا توجد هيئة مستقلة تتحقق من امتثال البلدان للمعاهدة المعروفة باسم اتفاقية الأسلحة البيولوجية، أشارت ناكاميتسو إلى أنه يمكن لأي بلد معني أن يتعامل مع الشكوك حول الدول الأخرى بعدة طرق، مثل مراجعة التقارير السنوية للأمم المتحدة، ومن خلال تقديم شكوى حول الانتهاكات المحتملة إلى مجلس الأمن للتحقيق فيها.
وأشارت المسؤولة الأممية إلى أن آلية الإبلاغ هذه "لم يتم تفعيلها قط"، منذ تدشين المعاهدة التي وقع عليها 165 دولة، لكن غياب نظام رسمي قوي للتحقق من التزام الدول الأطراف بالمعاهدة، حد من فاعليتها.
ليس أول اتهام
بصفة عامة، فإن اتهامات روسيا للولايات المتحدة ليست الأولى من نوعها، فقبل سنوات، اتهمت موسكو، دولا برزت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، بتصنيع أسلحة بيولوجية في مختبرات تمولها الولايات المتحدة.
وفي عام 2018، ذكرت فيليبا لينتزوس، الخبيرة في التهديدات البيولوجية في كينجز كوليدج لندن، أنها وخبراء دوليون آخرون مُنحوا حق الوصول الكامل إلى مركز لوغار لأبحاث الصحة العامة، وهو مختبر في دولة جورجيا يتلقى تمويلًا من الولايات المتحدة. .
وتابعت لينتزوس: "لم تلاحظ مجموعتنا أي شيء خارج عن المألوف".
إلا أنه لم تحدث عملية تفتيش رسمية تحت مظلة الأمم المتحدة لأي من المختبرات الممولة أمريكيا في دول الاتحاد السوفيتي السابق، في السنوات الماضية، ولم تطلب موسكو تفعيل آلية الإبلاغ التي ذكرتها إيزومي ناكاميتسو، لذلك ليس هناك أي موقف حاسم حول الشكوك الروسية في هذا الإطار، ولا يمكن الجزم بشكل نهائي حول طبيعة عمل هذه المختبرات، ومدى صحة الاتهامات الروسية، أو الدفاع الأمريكي.