الأربعاء 19/10/1444 هـ الموافق 10/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
أسطرة الواقع بين الذات والوطن في قصيدة فدوى طوقان "تموز والشيء الآخر".... سماح خليفة

تقول جوليا كريستيفا: إن كل نص عبارة عن لوحة فسيفسائية من الاقتباسات، وكل نص هو تشرب وتحويل لنصوص أخرى". فلا يخلو أي نص من روح النصوص السابقة له.

كما أنه من الصّعب على الإنسان أن ينسلخ عن تراثه، طال به الزمن أو قصر، مهما حاول منذ بداية العصور الإسلامية أن يكبح جماح الأسطورة التي تلقي بظلالها على بيئته، حياته، لغته، حكاياته، تراثه بشكل عام، خوفا من أن تنال من رصيده الديني بفعل ترددها، متى وأيّنما حل.

وقد كان النثر والشعر -منذ عهد الإنسان القديم وحتى العصر الجاهلي وما بعده من عصور- هما المرآتان اللتان استطاعتا أن تعكسا بقايا الفكر الأسطوري الذي أرسته الذاكرة الجمعية بإرادة واعية، أو غير واعية. بَيْدَ أنّ الشعر كان وما زال محط أنظار المتذوقين للأدب، والكلمة، وموسيقاها العذبة، وانسيابيتها في قلب السامع قبل أذنه.

إنّ من فطرة النفس البشرية سعيها نحو الجمال، فهو نابع من داخل النفس، تجيش به العواطف، والأحاسيس، ليملأ السمع، والبصر، والفؤاد. وما المثول أمام قصيدة "تموز والشيء الآخر"؛ لقراءتها، واستقرائها وسبر أغوارها، إلا أشبه بالمثول أمام قطعة من الفسيفساء المشعة، في أحد جدران معبد الآلهة، في بلاد الرافدين.

تحاول الباحثة، في هذه الورقة البحثية، إلقاء الضوء على قصيدة فدوى طوقان "تموز والشيء الآخر" وفقا لمنهج التفكير الأسطوري، الذي لازم الإنسان في كل مراحل حياته، متخذة من تلك القصيدة ميدانا للبحث، ومن الرموز والدوال التأويلية فيها منارات لتجلية الرموز الأسطورية، والتي انطلقت من مركزية تموز وعشتار، إلى أبعاد أكثر اتساعا وحرية.

ولأنه لا لوحة بدون عنوان، و"لا نص بدون مناص" كما يقول جرار جنت، ستقف الباحثة قليلا عند عتبة العنوان "تموز والشيء الآخر".

 

عتبة العنوان "تموز والشيء الآخر":

 عنوان موضوعي لا ذاتي، إخباري، فهو جملة اسمية مبتدؤها محذوف، تقديره: موضوعنا تموز والشيء الآخر"، وبمجرد أن يحمل العنوان لفظة تموز، فإنه يحيلنا إلى قضية كونية، سؤال وجودي، قضية البعث، الموت والحياة، ثم إن التناص الأسطوري الذي يشع من العنوان، يخلق بين حناياه ثنائية ضدية، رغم المعية التشاركية التي تخلقها واو العطف بين الطرفين، بيد أن هذه التشاركية في الحكم ستتحقق بوجود طرف ثالث سيتضح فيما بعد، وأما تموز فهو أشهر من نار على علم، وأما الشيء الآخر فهو غامض لا نعلمه، ومن هنا التقى الوضوح بمعية الغموض، ولم يلتقيا عبثا، بل لحكمة بالغة، سيكشف عنها الطرف الثالث الذي جمعهما.

تموز إله النباتات والخصب والشباب في أساطير الشرق القديم، وهو باللغة السومرية "دموزي" وتموز بالاكادية، كان في الأصل إلهًا للشمس ابن "إيا" والإلهة "سيدوري" وكان زوجًا أو عشيقًا للإلهة عشتار (أو الإلهة إنانا)، رويت قصة حبه وموته في قصيدة بعنوان "عشتار تهبط على العالم السفلي"، وكيف قدمت عشتار حبيبها نيابة عنها، وتراجعها فيما بعد. تموز يجسد قوى الخصب في الطبيعة وبفقدانه يعم الجفاف ويفتقد الحب والخصب، ويحل الجدب والموت(4).

إن هذه اللوحة "القصيدة" تحتضن في داخلها ثلاث لوحات جزئية، أو ثلاث مقاطع، وإن نظرة سريعة خاطفة أو متأنية، سيان، في هذه اللوحة، سيجذبها قطعةٌ صغيرة تتكرر في اللوحات أو المقاطع الثلاث، تسبب خللا في التوازن النفسي الوجداني للناظر (القارئ) وتربكه، ألا وهي "يطاردني"، والتي تتكرر في اللوحات الثلاث، مما يضاعف حجم هذا الإرباك.

المطاردة تكون للإمساك بالشيء المطارَد، تكون بين طرفين، المطارَد هاربٌ من المطارِد، فهي لم تقل "يَتبعني"، التابع يكون منقادًا لشيء ما في المتبوع، كان حسيًّا أو ماديًّا، فالمسيطِر هو المتبوع، والمسيطَر عليه هو التابع، وأما مطاردة الشيء تكون للإمساك به والسيطرة عليه، فالقوة والسلطة والسيطرة تكون للمطارِد وليس للمطارَد، وهذه المطاردة كما سنرى ستكون في مستويين في القصيدة، في مرحلتين، والمطاردة بطبيعة الحال تخلق الخوف وعدم الاتزان النفسي والعاطفي لدى المطارَد، وهذا الخوف يولد ثقل في النفس، وهذا الثقل يولد الآه، والآه بدورها تخرج هواء زفيريا، يخفف من حدة هذا الثقل، بيد أن الشاعرة خبأت الآه وكتمتها، مما ضاعف من حجم الألم، ولشدة حجم الخوف والألم، خبأت الكلمات، كذلك،  بين هلالين!

 

"(أخبئ ما يثقل النفس، آه... يطاردني الظل)"

فمن هو المطارِد المسؤول عن حالة الرعب هذه؟ ومن هو المطارَد؟

المُطارِد هو "الظل"، والمطارَد هو ياء المتكلم في "يُطاردني". فمن هو "الظل" ومن هو "ياء المتكلم"؟

عملية المطاردة من قبل الظل في القصيدة تتنامى، وتتعقد بتنامي مستويات ومقاطع (لوحات) القصيدة.

 

اللوحة الأولى (المقطع الأول)

قبل أن تكشف الباحثة قناع "الظل" الذي يعتم وجه الحلم، ستتبع (ياء المتكلم) الحالمة لتحل لغزها وتكشف قناعها. ياء المتكلم ستعود على ما سبقها، في الجزء الأول من كل لوحة، في "الأمل":

اللوحة الأولى(المقطع الأول) - أمل:

جسد الأرض راحت أنامله الخضر تنقلها
تقيم طقوس الحياة، تجوس التضاريس، تتلو صلاة المطر
وتستنبت الزرع ريان الحجر
تبدل كل القوانين، تلغي أوان الفصول -
تغير في دوراتها.

اللوحة الأولى (المقطع الأول) - ألم:

أخبئ ما يثقل النفس، آه ... يطاردني الظل يعتم وجه الحلم
أخبئ ما يثقل النفس، من أين يأتي العذاب؟ من أي كهف يجيء الألم؟(

 

 

تفتتح الشاعرة مقطع (الأمل) بـ استحضار "جسد الأرض" الذي تمارسُ الأنامل الخضراء معه: طقوس الحياة، ترتيلة المطر، استنبات الزرع والخصب، هذه الطقوس الأسطورية، طقوس الحب والعشق والتزاوج والخصب، يمارسها تموز مع محبوبته عشتار/الأنثى، ولكن بطريقة راقية جدا ورومانسية، تليق بذات الشاعرة الحالمة، فتموز لم يشرع بطقس التزاوج والإنجاب والإنبات دفعة واحدة، بل وظف أنامله التموزية "بأنامله"؛ ليجوس تضاريس هذا الجسد الأسطوري، فيوقظ فيه شهوة الحب والحياة، وهذا ما حلمت به ذات الشاعرة المحرومة من فعل الحب المتحرر الذي اشتهته في حياتها، فعبرت عنه من خلال عشتار وحبيبها تموز، فأرادت من حبيبها تموز أن يروي في داخلها "الحجر" الذي شكلته البيئة والمجتمع المحيط، بل أرادت منه أن يبدل كل القوانين المستبدة التي أحاطت بها، وحرمتها لذة الحب، أرادت لهذه الطقوس الأسطورية الإلهية أن تبقى، ليبقى الخير والحب والعشق والإخصاب والتزاوج والاخضرار، بل أرادت أكثر من ذلك، أرادت أن تُلغى الفصول، وتغير دورة السنة، دورة الموت والحياة، ليبقى تموز (الربيع) في عالمها بعيدًا عن العالم السفلي، أرادت له الخلود برفقتها، طقس البعث في أسمى تجلياته.

ولكن هل هناك ما يمنع عشتار "ذات الشاعرة" من ممارسة هذه الطقوس بحرية مع حبيبها تموز؟

إنه "الظل" الذي يطاردها فيمنعها من ذلك، إنه الألم الآتي من الكهف، ولكن أي كهف؟ تتساءل الشاعرة، وفي هذا التساؤل دلالة على وجود أكثر من كهف، ومن ثمّ وجود أكثر من دلالة يحملها الظل، كذلك. إن رمزية الظل والكهف في هذا المقطع يمثلان المرحلة الأولى من حياة الشاعرة، والتي ربما تمثلت في "رحلة جبلية صعبة"، بفارق الرمزية في الديوان والتصريحية في السيرة.

لم يفارق الشعراء ظلالهم، برمزياتها ودلالاتها لكل منهم، فدرويش أرهقته ظلاله في "مديح الظل"، وسميح خاض معركة في "غياب الظل"، وأمل دنقل لم ينفك عنه عندما "تلاشى به الظل شيئا فشيئا" في "الجنوبيّ"، ونحو ذلك من شعراء الظل.

الظل            روح

الكهف         ظلام عتمة

ظِل الشخص الحي يبقى تابعًا له، ملاصقًا له، هو روحه، فإذا مات، لا ظل له، لأن الروح تغادره، والأصل في الإنسان الحي أن يكون متصالحًا مع ظله مع روحه، متلازمان، وأما إن شعر بملاحقة الظل، ملاحقة الروح، فهنا يحمل دلالته السلبية، وهو الموت ومفارقة الحياة، وهذه الدلالة السلبية تخرج من الكهف المعتم المظلم. إن القيود التي فرضت على فدوى طوقان في بيتها وبيئتها "الكهف" كانت تعمل على تكبيلها وخنقها، حتى شعرت بموتها بالظل/الروح تلاحقها، فـ "يعتم وجه الحلم"، وجه الأمل، وجه الحياة، وجه الحرية، وجه الحب الذي حلمت فيه مجسدًا في تموز حبيبها، ليحيله الظل إلى وجه للألم، للقيد، لللاحب، للموت. فهذا المقطع لدى فدوى طوقان أثار تساؤلا حول الذات/ الأنثى، هو سؤال وجودي، مقلق، سؤال محمّل بالإدانة لكل القيود الأسرية والمجتمعية التي تكبل المرأة، وتحجب عنها حريتها، بل تلاحقها كظلها، كالشبح، حتى خنقتها أو كادت، في محاولة لمحو تاريخ عشتار الأنثى الإلهة العاشقة الجميلة الخصبة، كما حاولت محو دور تموز في حياتها، مما جعلها تطلق الآهات؛ لتخفف من الألم الذي أثقل صدرها، كشكل من أشكال المقاومة النفسية التي تلجأ إليها نفس كل فرد يشعر بالاضطهاد النفسي، أو الاجتماعي، أو السياسي.

وما ذهبَت إليه فدوى في هذا المقطع لربما عبرت عنه نثريا، كذلك، في رحلتها الجبلية الصعبة. فالقضية واحدة وإن اختلفت أبعادها.

إذن في هذا المقطع ما زال الظل في المرحلة الأولى من حياة فدوى طوقان، فماذا عن اللوحة الثانية/المقطع الثاني؟

اللوحة الثانية (المقطع الثاني) - أمل:

على جسد الأرض راحت تمر أنامله الغضة السندسية
طيورا تحط هنا أو هناك، فكل المساحات أوطانها
وراحت أنامله السندسية تلقي تمائمها فتذوب جبال الجليد
ومن آخر الأفق تطلع الغروب بصبح جديد
ترد الدماء إلى جسد الأرض، ترجع أعيادها.

اللوحة الثانية (المقطع الثاني) - ألم::

أخبئ ما يثقل النفس، تعصف ريح الكوابيس ...
أسقط بين الرؤى والحقيقة
يطاردني الظل آه .. يضرج قلبي السؤال الجريح،
يسد عليه طريقه!)

هنا استطاعت فدوى طوقان أن تعمق تجربتها الفردية، التي تعكس، بدورها، تجربة أنثوية جمعية إلى حد ما، وأن تمزجها بالتجربة الوطنية، وتغوص أكثر فأكثر؛ لتكشف عن أعماق تجربة إنسانية عامة تتعلق بمبدأ الكون، وقضيته الأساسية، وحقه في الوجود، هي قضية حياة وموت، فهي تكشف عن عذابات الإنسان الفلسطيني المقهور الميت الحي، ولهذا نجد الحلم في هذا المقطع يكبر، وتكبر الأسطورة، ويتنامى العشق الأسطوري، ويتسع حلم الحرية، إنه الوطن الحلم فلسطين.

جسد الأرض الذي افتتحت به الشاعرة هذا المقطع هو جسد عشتار/فلسطين، التي تحلم بأنامل تموز/الشهيد البطل المخلص، الذي يرويها بدمه، في علاقة أزلية مقدسة تجمع بين الفارس/الإنسان الفلسطيني، وبين حبيبته الأرض.

مستلهمة في ذلك النماذج البدئية الأولى التي تجعل من هذا الإنسان إلهًا ذكرًا، ابنًا وزوجًا وحبيبًا للأم الكبرى/الأرض، تنجبه ليتزوجها، ويعيد إليها قوتها الإخصابية، شأنه في ذلك(5) "شأن تموز ابن عشتار البابلية، وأدونيس ابن عشتارت الإفريقية، وأوزوريس في شكل حورس ابن ايزيس المصرية، وآتيس ابن سبيل، وزيوس ابن رحيا الكريتية(6)".

وفي هذه القوة الإخصابية التي ستنزرع في رحم عشتار الوطن، يعيدها فارسها إلى زمن التكوين الأول، الزمن البكر، حيث الطبيعة الأولى، فتتكاثر وتنجب "طيورا تحط هنا وهناك" هي طيور الحرية "فكل المساحات أوطانها"، ولشدة قوة تموز، الكامنة في أنامله السندسية الخضراء، أذاب جبال الجليد التي غطت جسد الأرض، وقضت على الحياة، لتخلق زمنًا جديدًا، زمن التجدد والحياة والزرع والخصب، وتعود الأعياد ويحتفل بتموز وعشتار، الأرض وحبيبها الفارس.

ولكن هل سيكتب لسمفونية الحياة هذه أن تستمر؟ أم سيقطع طريقها، ويعكر صفوها، ويقطع فرحة الأعياد هذه "ظل" آخر؟

هو الظل يطارد عشتار/فلسطين، من جديد، لكن الظل هذه المرة أكبر وأخطر، يسعى للدمار والخراب، فكما برزت "قوى الدمار التي هددت عملية الخلق الأولى والتي تمثلت في الإلهة تعامة والتنين، فعملت على تدمير الكون الأول، كذلك ظهرت قوى الشر والدمار(7)" متمثلة بالظل المطارِد/العدو الصهيوني، الذي يثقل نفس فلسطين بأكملها ويجثم على صدرها، لتعود في وصلة من الماضي بالحاضر، فتخبئ ألمها وتكتم حزنها وتصارع الخوف والإرباك من كوابيس لا تهدأ، تخلط "الرؤى بالحقيقة"، وتعيد طرح السؤال الوجودي من جديد: هل مات الفارس الذي سيحيي فلسطين وينفخ فيها من روحه؟ أم سيبعث من جديد وتنجب فلسطين/الطبيعة، طيور الحرية التي ستموسق سمفونية الحياة على لحنها الأخضر المتجدد؟

اللوحة الثالثة (المقطع الثالث) - أمل:

وصارت خطوط يديه جداول تذوب في جسد الأرض عطر البساتين تسقي تراب الخمائل، وصارت خطوط يديه انبهار الفصول، انبهار أساطير بابل عشقناه تموز! عشقناه تموز، ينفض تل الرماد ويمنح ليلاتنا شمسه الذهبية.

اللوحة الثالثة (المقطع الثالث) - ألم:

(أخبئ ما يثقل النفس، شجرة حزني على ضفة الحلم تنمو وتكبر
يطاردني الظل، آه ...
لماذا يفتح في ظهر تموز يوليو ويلمع خنجر ؟!)

اتخذت الشاعرة من المقطع الأول منبرا؛ لتتطرق إلى قضية أنثوية أزلية، عانت منها النساء، وعانت منها هي شخصيا من عمق التجربة، قيود أسرية، بيئية، اجتماعية، نفسية، طاردت عشتار/الأنثى كظلها، حتى ضجت الروح، وانكفأت الأنثى على ذاتها، تحصي عدد أنفاسها المكتومة وتربت عليها برفق، منتظرة الحبيب/ تموز كل أنثى، ليشبع ظمأها ويتحد بها، فتورق الحياة.

سبق وانتقلت الباحثة في اللوحة الثانية إلى الأنثى الأم الكبرى/عشتار/فلسطين الوطن، معاناة الحاضر، قضية وطنية وجودية، سؤال الحق عن أعماق تجربة إنسانية عامة تتعلق بمبدأ الكون، وقضيته الأساسية، وحقه في الوجود، هي قضية حياة وموت، فكشفت عن عذابات الإنسان الفلسطيني المقهور الميت الحي، ولهذا وجدنا الحلم في المقطع الثاني كبر بانتظار تموز/الفارس/المناضل/الشهيد، الذي يروي حبيبته بدمائه، فيبعث الحياة من جديد لطيور الحرية التي ستواجه الظل/العدو الصهيوني، فتزدهر فلسطين الحياة من جديد.

في المقطع الثالث صرّحت الشاعرة بانبهار أساطير بابل نفسها بتموز الجديد الذي عشقه الجميع/تموز المخلص، الذي اجتر الماضي بأسطورته وجعلها "تتخذ مكانتها المكينة في سياق الواقعي(8)"، ليبلور مستقبلا تموزيًّا مؤسطرًا مائزًا، فيبعث الجداول والحياة والبساتين فصلا كونيا لأنثى كونية تبهر كل الفصول، وتبهر الأسطورة البابلية نفسها، بقدرة تموز الذي بعث عنقاء جديدة من رمادها/عشتار شمسنا الذهبية/فلسطين الحرة:

"عشقناه تموز، ينفض تل الرماد ويمنح ليلاتنا...شمسه الذهبية"

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه (حتى هذا المقطع الذي تم النظر فيه): هل استطاعت الشاعرة في هذا المقطع ومن خلال ما استعرضناه من رؤيا فلسفية كونية تضج بالحياة، أن تنتصر للأمل على الألم الذي كان شبحا/ظلا يطاردها؟ هل امتلكت الشاعرة الشجاعة الكافية لتنتصر لحلمها؟

 الإجابة المؤسفة: لا.

كان الظل في هذا المقطع أكثر توحشًا وقسوة، حتى غدر بتموز الحبيب المخلّص، وعوضًا عن الأمل الذي سيلمع في عيني المستقبل: تموز وعشتار، لمع خنجر الغدر في ظهر الحبيب حتى أورث عشتار الحبيبة، حزنا تنامى في شجرة ظلت تكبر وتتجرع الآه والألم الذي سببه الغدر (غدر الإنسان للإنسان، غدر العرب للقضية الفلسطينية، غدر الآلهة منذ الأزل).

 

بعد هذه التراجيديا التي صورتها فدوى الشاعرة الفنانة في لوحة الفسيفساء خاصتها، تتجلى لنا هذه الرؤيا:

المقطع الأول – الماضي:

عشتار/الأنثى

 تموز/الحبيب

الظل/قيود الأسرة والمجتمع والبيئة.

المقطع الثاني – الحاضر المستمر:

 عشتار/فلسطين

 تموز/الفارس/الشهيد

 الظل/العدو الصهيوني.

المقطع الثالث – المستقبل:

عشتار/الأنثى الكونية

تموز الإله المؤسطر/المخلّص

 الظل/الغدر، غدر الإنسان/غدر الآلهة.                                      

 

عودة سريعة للعنوان "تموز والشيء الآخر":

تموز مع تطور صوره سيظل بوجه واحد، وجه الخير= الحب = العطاء = الطمأنينة.

وأما الشيء الآخر/الظل، فلا وجه له، الظلم ظلمات= خوف يتدفق، غموض، موت قسري، كره، لا استقرار.

ولهذا وجدنا الشاعرة تذكر تموزًا باسمه، وتنكر على الشيء الآخر اسمًا محددًا، وتتركه في غموضه في المجهول، فهي ترفض الاعتراف به.

إذن نجد فدوى طوقان بحسها الشعري والفني قد رسمت لوحة فسيفساء غاية في الجمال رغم حجم الألم الذي تحمله، وحجم الأمل الذي حلمت به، فهي برعت في الجمع بين الذاتي والموضوعي، وبين الوعي الفردي واللاوعي الجمعي، في أسطورة حملتها من الماضي السحيق لتلاقح الحاضر والمستقبل، حيث انتقلت من الذاتي إلى الوطني إلى العالمي أو الكوني، وما هذا إلا دليل على أهمية القضية، التي حملت على عاتقها، إيصالها للعالم، ليظل البحث عن جوهر الحياة مستمر.

 

المصادر والمراجع:

عبد الفتاح، إمام: معجم ديانات وأساطير العالم، ط1، القاهرة: مكتبة مدبولي، بدون سنة نشر. ص295.
الديك، إحسان: أسطرة الواقع في شعر وليد سيف. مجلة جامعة النجاح. مجلد 22 (5) 2008م. ص15
السواح، فراس: لغز عشتار. ط8. دار علاء الدين. 2002م. ص175.
عزيز، كارم محمود: أساطير العالم القديم. ط1. مصر: مكتبة النافذة. 2007م.

(5)الديك، إحسان: تمثيلات الخطاب في الأدب الفلسطيني. نابلس-فلسطين: دار الجندي. 2016م. ص44.

(6) طوقان، فدوى: الأعمال الشعرية الكاملة. ط1. عمان: دار فارس للنشر والتوزيع. 1991م. ص490-491

2022-04-09