الخميس 9/10/1445 هـ الموافق 18/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
رواية سافوي...علاء ابو النادي

رواية سافوي رواية جديدة للكاتب مهند طلال الاخرس، تقع على 240 صفحة من القطع المتوسط، صدرت عام 2022 بالطبعة الأولى عن دار اليازوري العلمية في الأردن.

يروي فيها الكاتب قصة ووقائع عملية “سافوي” البطولية التي نفذتها مجموعة فدائية تنتمي لحركة التحرير الوطني الفلسطيني – فتح، في آذار- 1975، داخل أرضنا المحتلة منذ 1948.

أما “سافوي” فهو اسم الفندق، هدف العملية النهائي.

تبدأ الرواية برؤية الغضنفر للقائد خليل الوزير في المنام، يُحرضه كما في الواقع على المزيد من العمل الفدائي ضد الاحتلال، وبالرغم من تكرار الحلم إلا أن الغضنفر لم يتمكن من تجميع وتركيب صور الحلم المترامية والضبابية، فكلما اقترب من الامساك بتلابيب الحُلم وإكتمال الصورة يستيقظ من النوم، إلى أن جاء يوما وبدا كما لو ان شيئا من تفاصيل الحلم يأخذ دور الحقيقة الماثلة للعيان؛ وتمثل سبب ذلك عندما طلب أبو جهاد من الغضنفر الحضور لقاعدة جبلة البحرية في سوريا، حيث يتم تدريب أربعة عشر فدائيا مكلفين بالقيام بعملية ما.

ومن ثم تأخذنا الرواية في طريق الاعداد والتجهيز للعملية الفدائية عبر احداث شيقة غاية في الجمال والروعة وعبر حبكات فنية متقنة تحبس معها الانفاس، ومع مضي صفحات الرواية وتصاعد وتشابك احداثها، تبدأ رحلة تجميع وترتيب صور وأحداث الحُلم ومعه تبدا احداث العملية الفدائية بالاتضاح رويدا رويدا، كل ذلك بأسلوب ادبي ذي رونق وجودة عالية غاية في التشويق، تتملك القاريء وتستحوذ عليه منذ البداية وحتى النهاية.

قُسمت الرواية على مدار 40 فصلا، وبحيث يصعب على القاريء التوقف في نهاية كل واحدة منها إلاّ بإكمال ما يليها، حيث تجد نفسك متشوقا ومشدودا بنهم للاستمرار في متابعة الأحداث الشيقة والمتتابعة، بهدف فك طلاسم الحلم ومعرفة ماذا جرى؟ وماذا سيجري لاحقا.

هذا طبعا بالاضافة لنهم المعرفة المتولد والمتزايد عبر صفحات الرواية، والذي يتتابع ويتصاعد ويتكاثر بهدف الاستزادة من المعلومات القيمة والاحداث والمواقف التاريخية الواردة في صفحات الرواية الأنيقة، والتي وُفِقَ الراوي بتوظيفها على ألسنة بعض شخصياتها، مما اضفى على الرواية جوا من التعايش والتفاعل مع احداثها قلما نجده في اعمال ادبية من هذا النوع. الحلقة الأولى وصفت ذلك الحلم الذي لم يتمكن الغضنفر من فك طلاسمه او تجميع صوره المترامية. وفي الثانية شاهدنا قاعدة جبلة الفدائية، في اللاذقية، وكيف صنعها قائدها أبو نزار من لا شيء.

وعبر حكاية اختيار أحد الفدائيين لاسمه الحركي، نتوقف عند أهمية هذه الأسماء التي لا تقتصر على الضرورات الأمنية، فهي تحافظ على سيرة ومسيرة الشهداء.

ومن خلال الاسم الحركي، مصالحة خليل الهزاع، تُمرر الرواية أمامنا مشاهداً من عملية “ميونخ” الفدائية، التي كان أحد أبطالها محمد توفيق مصالحة، صاحب شهادة الدكتوراه، الذي ترك كل شيء وراء ظهره كالكثير من الفدائيين تلبية لنداء الوطن الجريح. وقد عرفت أيضا، ولأول مرة أن “الدول العربية” رفضت استقبال جثامين شهداء عملية “ميونخ”، وأن أجسادهم الطاهرة ظلت بالانتظار إلى أن وافق القذافي على دفنها في ليبيا !!. في الحلقة الثالثة، نشاهد سارية المعسكر، ونتعرف على مهامها المتعددة وعلى كيفية توزيع المهام على الفدائيين، وعلى صور من تدريباتهم. وفي الرابعة يسلط لنا الكاتب الضوء على الجدلية الدائمة للعلاقة بين المقاتل والسياسي من خلال توظيف جميل لسيرة المناضلين، المفوض السياسي محجوب عمر وأبو الطيب وأبو نائل، والجدل بينهم وبين القائد العسكري أبو نزار.

كما تحضر سيرة أحرار آخرين مثل الأمير الكويتي أبو الفهود، والصحفي الفرنسي جان جينيه. وهكذا تتوالى الحلقات الأربعين زاخرة بالمعلومات والوقائع التاريخية، تنبعث منها حيوية التعبئة الوطنية التي تنحسر في أزمنة الضياع؛ وتستمر بتسليط الضوء على القيم الثورية، وعلى شخصيات مجاهدة ومناضلة، من أهمها باجس أبو عطوان، إلى أن تكتمل أمامك لوحة “سافوي” البديعة. والحقيقة أنك تشعر وكأنك موجود روحا وجسدا، مع أبطال العملية منذ اللحظة الأولى لوصولهم إلى معسكر التدريب وحتى اللحظات الأخيرة التي خرج فيها الحلواني ومصالحة كطائري فينيق من تحت الركام، ومن ثم استشهادهم، الحلواني بعد إطلاق قذيفة الإنيرجا على قوات العدو، ومصالحة الذي سقطت فيه شرفة الفندق بعد أن تمكنت رصاصاته من تصفية الحساب مع (يعقوب بائيري) قائد عملية فردان التي اغتالوا فيها القادة أبو يوسف النجار والكمالين عدوان وناصر؛ على أمل أن نحفظ العهد والقسم، ونكمل المسيرة من بعدهم لنصفي كل الحساب الطويل والمرير مع هذا الاحتلال المارق البغيض، فطائر الفينيق لن يكف أبدا عن الخروج من تحت الرماد والركام لاستئناف المسيرة. وتحاشيا للإطالة أكثر، وحفاظا على حق الرواية بعدم الإفصاح عن كل أحداثها هنا، أكتفي بذكر بعض أجمل المشاهد التي شعرت بها خلال قراءتي للرواية، منها، مشهد الحاجة سرحانة التي تبحث عن ابنيها ذيب وباجس، فتصل إلى مكتب القائد أبو جهاد – الذي أطلق عليه الكاتب لقب البدر، وكم كان موفقا الأخ مهند في منح القائد أبو جهاد هذا الوصف الذي يليق به وبمكانته وعمله وتضحياته من أجل فلسطيننا والفكرة التي تركها أمانة بين أيدينا، فنعم، هو بكل استحقاق واقتدار بدر الثورة الفلسطينية- وهناك يقوم أبو جهاد بكل ما تطلبه مكانة القائد الناجح والكبير، في سبيل مساعدتها بالبحث عن أبنائها، فيأخذها إلى قاعدة جبلة، لنشاهد ونعيش مع شخصيات الرواية قصة في قمة البلاغة والألم، حيث تكتشف سرحانة أن ذيب لا زال على طريق الشهادة، ونرى كيف طلب منه أبو جهاد العودة مع أمه إلى أهله في مدينة الرصيفة قائلا لذيب: “بهما فجاهد”؛ بينما تجد أن ضناها الآخر باجس قد ارتقى شهيدا مع أخيه ورفيق دربه عائد بانفجار عرضي للغم أثناء التدريب على اقتحام “تل أبيب”.

ومن أجمل ما في هذه القصة حبكتها المشوقة، والمتمثلة بكيفية توصل سرحانة لمعرفة أن فلذة كبدها استشهد أثناء التدريب، فالقصة بُنيت على سماعها أحد الفدائيين، الملازم خضر، يردد مقاطع من أغنية “مديلي ايدك .. يلا تنروح .. مديلي ايدك” التي رددها سابقا أهلنا في مخيم البقعة بالأردن، حيث سكنت الحاجة سرحانة لفترة، تلك الاغنية التي كتب كلماتها ابن المخيم الشاعر أحمد أبو سعدون، وكان باجس يرددها في المعسكر على مسامع إخوة الدرب والسلاح. وأجمل المشاهد برأيي، هو ذلك الأثر الذي تركه التغني بفلسطين وثورتها على إحدى نقاط التماس في بيروت، عندما كانت بيروت مشتعلة بفعل الحرب الأهلية القاسية على الجميع، حيث بدأ الكل، في الشارع والبنايات، بالتركيز مع صوت خالد الهبر، الوطني اللبناني الذي غنى للثورة ولبنان وفلسطين، فكلما غنى ورفع صوته أكثر كلما ازداد حشد الجماهير وبدأت شبابيك الشقق والبنايات المحيطة بالموقع بالإضاءة المتتابعة بمشهد لا أجمل ولا أعمق.

وهنا يخطر في البال أن الوطني الفلسطيني لا ينشغل عن هدفه، التحرير والعودة، مهما بلغت شدة وقساوة الظروف المحيطة وتشعبت، فمع كل هذا الدمار والخراب الممنهج، إلا أن الفدائي الفلسطيني يصر على استمرار العمل ضد الاحتلال في أرضنا المحتلة، فها هم أبطال “سافوي” ينطلقون لتنفيذ مهمتهم من هناك بأمر مباشر أبو جهاد الذي قال لهم أنه ذاهب للقيام بواجب وطني آخر، إنه ذاهب للتعامل مع من “يحرك الوتد” أي يثير الفتن والقلاقل في لبنان لصالح الاستعمار. ومن الصور الجميلة أيضا، تلك الصورة التي ظل الفدائي موسى الطلالقة وفيا لها، يصحبها معه أينما ذهب، والتي علقها مقابل سريره في المعسكر، والتي تحمل ذكرى إخوته أبطال عملية نهاريا (24\6\1974)، أحمد محمد عبد العال، عبد الرحيم ناصيف ومحمد عبد الحميد حنفي. وعلى طول الرواية نجد التذكير الدائم بأن الهدف الفلسطيني هو الحافز الأهم والضابط الأوحد للعمل الثوري، فلسنا قتلة ومجرمين، وإنما أصحاب حق تاريخي ووطن مسلوب، نتحلى دوما بأخلاق العروبة والثورة والحرية؛ فالهدف من “سافوي” لم يكن القتل، بدليل تجهيز قائمة بأسماء الأسرى الذين ستطالب المجموعة بتحريرهم من معتقلات الاحتلال، وتحضير رسالة موجهة للرأي العام العالمي، حيث يهمنا أن نقول للعالم أننا نسعى لتحرير أنفسنا ووطننا من الاحتلال، وأن بندقيتنا مسيسة لصالح قضيتنا العادلة وليست إرهابية أو قاطعة طريق. من المشاهد المؤثرة أيضا، حرص أبو جهاد على رفع معنويات الفدائيين التي تأثرت باستشهاد البطلين في المعسكر، ومن ثم بمأساة سرحانة، حيث قام البدر بدوره كقائد وزعيم بكل كفاءة، فنجح برفع معنويات الشباب وتجهيزهم للعملية الواجب تنفيذها، والتي جاءت في ظرف سياسي يستدعي رد فلسطيني حاسم؛ وقد وفق الكاتب الأخرس في وضع القارئ بجو الوضع السياسي آنذاك، عبر حلقة كاملة احتوت على مقتطفات من عناوين إخبارية تساعد القارئ على معرفة وفهم الهدف الأهم من العملية، حيث كان لا بد من الرد على عملية فردان، وعلى وزير الخارجية الأمريكي الذي قال واهما: “باي باي p.l.o” أي “باي باي منظمة التحرير الفلسطينية” !، ولم يدري أن البدر وأبطال “سافوي” يقفون له ولغيره بالمرصاد. ولا شك في أن الرواية نجحت في تصوير تدريبات واستعدادات الفدائيين، ومراجعات أبو جهاد لكل شيء معهم قبل وضع اللمسات الأخيرة على العملية عبر سيناريو غاية في الروعة والتشويق ، وبحيث لا يقل سيناريو العملية روعة وجمالا عن مكان (الشقة) التي اجتمع فيها ابو جهاد مع ابطال العملية واخبرهم بتفاصيل الخطة في حينها؛ كانت هذه الشقة في شارع فردان حيث استشهد احد القادة الثلاث!؟.

والأكيد أيضا أن أبو جهاد هو سيد الرواية من أولها إلى آخرها، كيف لا وهو الذي يُطمئن الأبطال بأن أرضهم ستعرفهم، ويوصيهم بأن عليهم الإعلان في حال اعتقالهم أن أبو جهاد ( أي الثورة الفلسطينية) قد أرسلهم، وأنه سيظل يرسل ويرسل إلى أن نحقق أهداف شعبنا كاملة.

وقد نجحت الرواية أيضا في نقل وتصوير الشجاعة والبطولة والذكريات وبراعة التخطيط والأحداث والأخطاء في التنفيذ وخصوصا في الالتزام التام بالتوجيهات والتعليمات… إلخ، منذ لحظة انطلاق مجموعة الثمانية في مساء (1\3\1975) إلى لحظة الاشتباك وتفجير الفندق في مساء (5\3\1975). وفي خضم ذلك نمر على دور خديجة، تلك الفتاة التي تركها رفيقها لحظة رؤية الفدائيين يخبطون بأقدامهم الواثقة على أرضهم المحتلة نحو فندق “سافوي”، بعد محاولة تنفيذ المطلوب منهم في “دار الأوبرا” ومن ثم في “مركز الشبيبة اليهودية”، حيث انحازت خديجة للفدائيين، أبناء وطنها، بعد أن تركها صديقها الجبان لمواجهة ما ظنه مصيرها السيء، فصارت خديجة غريفات مندوبة الفدائيين للتفاوض مع العدو المحيط بالفندق، وقامت بكل ما يمكنها في سبيل المساعدة على استيضاح موقف وأكاذيب العدو بحكم معيشتها الطويلة في الأرض المحتلة منذ عام 1948، كما ساهمت في التوصل لقرار مغادرة الفلسطينيين والعرب العاملين في الفندق قبل الوصول للحظة الصفر التي صارت وشيكة بعد التأكد من نوايا وأكاذيب الاحتلال وخصوصا بعد المماطلة بقصة حضور سفيري الفاتيكان وفرنسا لاجراء المفاوضات على تبادل الاسرى. في استدلال واضح على سرعة استنهاض الفلسطيني والفلسطينية لقيمهم الحقيقية في لحظة الحقيقة، حالهم كحال اسطورة طائر الفينيق. وهكذا تستمر صفحات الرواية بالبوح بتفاصيلها حتى النهاية، والتي سرعان ما يتضح انها حُبلى بالمزيد والمزيد من التشويق والثراء المعرفي وشحذ الروح الوطنية والمعنوية، والذي يستمر بألق وتشويق متزايد، ولا يبوح بكامل اسراره إلا مع آخر صفحة من الرواية. هذه الرواية على زخم احداثها وكثرة احداثها المشوقة من الصعب بمكان الإحاطة بكل تفاصيلها في مقال من بضع صفحات؛ حرصا على عدم البوح بكل اسرارها ورغبة في ابقاء جذوتها متقدة ومشتعلة لرواد المطالعة وطلاب المعرفة. وقبل الختام؛ لا مناص من توجيه النصيحة لكل فلسطيني وعربي وحر وغيور بقراءة الرواية بتمعن، وحثه على قرائتها واقتنائها لتتزين بها رفوف مكتباتنا الخاصة والعامة. ولا بد من دعوة الأحرار والوطنيين المقتدرين، أفرادا ومؤسسات، للعمل على تحويل هكذا نصوص وروايات، وهي متعددة وكثيرة، لأعمال تلفزيونية وسينمائية تخدم واجب بناء وحماية الوعي الوطني والعروبي السليم. وبكل ثقة أقول، إن هذه الرواية تشكل إضافة قيمة ومفيدة من الكاتب والروائي المبدع الأخ مهند الأخرس للمكتبة الفلسطينية والعربية، في المضمار الذي يتقنه ويعشقه، والذي نسير معه، فيه وعليه، درب الوطنية الفلسطينية نحو الحرية والعودة الأكيدة بإذن الله تعالى، هذا الدرب الشاق والطويل الذي ندعو الله عز وجل لأن يأخذ بأيدينا للنجاح فيه وفي إعادة سيادة مفاهيم الثورة، كالتي تحدث عنها باجس أبو عطوان، عندما قالوا له، في احدى حلقات الرواية، إن العدو قد اعتقل أمك وأختك مطالبا إياك بتسليم نفسك، فقال للعدو والجميع، إن الزمن قد تغير والمفاهيم كذلك، هذا زمن الثورة والفداء، لن أسلم نفسي وسأستمر في الهجوم. وفي النهاية، كم هو مؤلم ومفيد مشهد البطل،الغضنفر، الواقع في الأسر برفقة البطل موسى طلالقة، الناجي الوحيد من مجموعة الثمانية.

وكم هو عميق ذلك المشهد الذي تمكن فيه العدو من القبض على السفينة الأم التي اقتربت من النجاة فعليا، لولا أن لصورة الرمز أبو عمار التي يضعها قبطان السفينة المصري فوق المقود في غرفة القيادة وقعاً مختلفاً على الصهيوني الذي قال للقبطان العربي، ما دمت تعلق صورة ياسر عرفات فلا بد أنك مع مجموعة “سافوي”.

عند قراءة الرواية في فصلها الاخير تجد نفسك ملزما لاعادة قراءة الفصل الاول مجددا؛ فثمة تفاصيل في الحُلم لا تُفك طلاسمها ولا تكتمل صورتها إلاّ بالعودة لمطالعة الفصل الاول مرة اخرى، وهو ما يتسبب لك بجمال وتشويق لا ينتهي، وبحيث تتمنى معه لو ان ذلك الحُلم لا ينتهي. لكنها تصاريف القدر؛ فمن نحبهم بشدة يختارهم الغياب بدقة.

*علاء أبو النادي، فلسطيني في الشتات.

2022-04-26