الثلاثاء 11/10/1444 هـ الموافق 02/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
يوم استقلالهم يوم نكبتنا ....شوقية عروق منصور‎‎

هل الذاكرة تتقاعد ، تصاب بترهل الزمن ؟؟ كان هذا هو السؤال الذي يتفجر ينبوعاً كلما اقترب يوم الاستقلال – يوم النكبة – حيث في هذا اليوم لا تنهال فقط الصور البائسة للفلسطينيين الذين رحلوا وهم في حالات الذعر والخوف ، هجروا وطردوا من بيوتهم وقراهم ومدنهم تاركين كل شيء ، فقط النجاة بأرواحهم ، وكلما شاهدنا صور الخيام والعيون التي تجمدت على جهات الانتظار ، تنتظر مجيء الجيوش العربية  التي ستعيدها الى الوطن ، نشعر أن هناك صفقة خداع  قد تمت بين وجودنا وبين التاريخ .

في هذا اليوم – يوم الاستقلال - اعلن أن ذاكرتي ترفض التقاعد ، أحاول ادخال ذاكرتي الى مؤسسة الصمت والتجاهل ، لكن ترفض وتعلن العصيان وتقوم بالتحدي ، حيث تفتح خلايا الذاكرة وتبدأ بقذف الصور المرتبة فوق بعضها البعض ، يا للعجب الصور ما زالت جديدة ، لم يأكلها العث والاصفرار والتمزق ، ها هي الصور تخرج .. تهديني عمراً عشته سابقاً !!

 اكتشفت ان كلام أبي عن قرية " المجيدل " المهجرة التي اطلق عليها بعد ذلك – مجدال هعيمق –  حيث هرب سكان البلدة  ليلاً عندما دخلت القوات اليهودية ، وعن عمي " جمال " الذي استشهد عندما رجع متسللاً الى حاكورة البيت كي يقطف بعض حبات البندورة والتي كانت قد نضجت ، لكن الرصاص كان في انتظاره ، فهو لم يتوقع أن يتحول بيته الدافىء الى لقاء مع الموت الغادر ، اكتشفت أن كلام أبي لم يكن حكاية عابرة ، كان جمرات تحت الرماد .

 في الصف الرابع المعلمة تكتب عناوين الطلاب في دفتر يوميات ، تسألني ما هو عنوانكم قلت لها قرية " المجيدل " لا أعرف لماذا قامت المعلمة ونادت مديرة المدرسة التي أخذت تصرخ ، أذكر أني بكيت وصمت خوفاً من شكل المديرة الثائر الغاضب .

 ومن يومها وضعت عنوان " المجيدل " في الذاكرة وأغلقت عليه بالمفتاح وأصبحت أحمل العنوان الجديد " الناصرة " .

فوق اللوح الأسود الذي يتوسط جدار الصف  ، تخرج من المربعات الخشبية وجوهاً ، علينا أن نتصبح بها ، نجلس وأمامنا الوجوه المقطبة تنظر الينا بحدة ، كأنها تراقبنا طوال الوقت  ، المعلمة تؤكد أن هؤلاء من قاموا ببناء الدولة ( بن غوريون ، غولدا مائير ، موشي ديان ) كنت أتعجب من هذا الرجل – موشي ديان -  الذي يضع على عينه جلدة سوداء ، وكان السؤال يحيرني كيف ينام ويغسل وجهه ويستحم والجلدة فوق عينه ؟ ولماذا هو بالذات هكذا ؟ وعندما سألت أمي عنه اجابتني ( يقطعوا ويقطع عينه ) ما دامت أمي تكرهه ؟ لماذا توضع اذن صورته في الصف  ؟ وليس فقط في صفنا توضع الصور ، بل في جميع الصفوف ، أما في غرفة المديرة فالصور أكبر والملامح أوضح ، وصورة موشي ديان تتميز بابتسامة ساخرة تشق شفتيه ، كأنه يستهزء بالمديرة هكذا تخيلت الابتسامة ، كلما كنت أدخل غرفة المديرة .

لا أعرف من توسط لجدتي كي تذهب الى الاذاعة الاسرائيلية وتشترك في برنامج ( سلاماً وتحية ) ، وقفت جدتي وقبل أن تفتح فمها ، غصت بالبكاء ، أعادوا التسجيل عدة مرات حتى صرخ المسؤول وقال لها مهدداً ( هاي آخر مرة ) مسحت دموعها ..قالت :  أهدي سلامي لأبني سعيد في لبنان ، كيفك يما انشا لله منيح ؟؟ ها يما اوعى تتزوج لبنانية ، تزوج بس فلسطينية ..!!  قام المسؤول بقطع التسجيل .. وقال لها هذا مش وقته ، ولم يقم بإذاعة التسجيل.

قبل يوم الاستقلال ، تخرج خلية النحل وتتوزع في المدرسة ، نرى  البواب المسكين ( أبو جابي ) وهو يحمل السلم ويتنقل به من زاوية الى زاوية حيث يثبت شريط الأعلام ويضيف الى الجدران الشعارات والملصقات التي تؤكد بهجة المدرسة بعيد الاستقلال ، وتنطلق أغنية ( في عيد استقلال بلادي غرد الطير الشادي ) من الجوقة التي تتمرن في البهو الواسع ، حيث تصل الينا في الصفوف ، ومما يدفعنا للغيظ أن طلاب وطالبات الجوقة لا يشاركون في الدروس ، فهؤلاء يخرجون من الدروس متى شاء معلم الموسيقى .

في يوم الاستقلال ، تكون الساحة نظيفة ، والكراسي الخشبية مرتبة ، والمنصة قد تزينت بصور رئيس الدولة ورئيس الحكومة ، وفوقهما العلم يرفرف مدقوقاً على خشبة تهتز كلما اهتز العلم ، أما نحن الطلاب والطالبات علينا البقاء وقوفاً ، فالكراسي للضيوف فقط .

عندما كبرت عرفت أن جميعهم على المنصة كان لهم الثغر الواحد واللسان الواحد ، وكانت اسرائيل الفتية هي الصبية التي تغزلوا في مفاتنها ، والمفتش الذي تعجبت من وجهه الأحمر من شدة ضغطه على مخارج الحروف ، والذي طلب منا انشاد ( في عيد استقلال بلادي غرد الطير الشادي ) رأيت صورته بعد سنوات وهو يعانق الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عندما زاره في المقاطعة ، مقر اقامته في رام الله  .

كانت مديرة المدرسة بعد العرض الرياضي والكشفي وانتهاء الكلمات والقصائد العصماء التي تبدأ بشرح واف عن الدولة من مصانع وحقوق ومزارع وعمال وتنتهي بترحيب دول العالم بها  ، تتجه المديرة الى ميدان المبارزة ، حيث يتبارز الطلاب والمعلمات والمعلمين من أفضل الصفوف في التزيين ، من قدم الأفضل في الابداع ، وجسد فرح يوم الاستقلال ، والصف الفائز تكون جائزته لا شيء سوى وضع أسم الصف  على لوحة الاعلانات وتقديم التهاني لمربية او مربي الصف على تفانيه وتفكيره في دمج الابداع مع الاستقلال  ، ثم تقوم المديرة بتوزيع حبات " البوظة الثلج " لكل طالب وينتهي الاحتفال .

صور كثيرة تتدفق من الذاكرة كانت تحلم ، لكن ما أسوأ من يوم استقلال يحل ، والانتظار ما زال في حالة انتظار ، تلوكنا السنوات و تبصقنا على رحيل يخرج من رحم رحيل .

2022-05-04