الخميس 13/10/1444 هـ الموافق 04/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
نحن وموازين العقل والقوى والعدل ...محمد عبد المحسن العلي

 قال تعالى ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) ) الحديد . إن اللهَ عزَّ وجل بعد ما يرسلُ الرُّسلَ والأنبياءَ بالهدى والبيِّناتِ من أجلِ إعادةِ النَّاسِ إلى جادةِ الصَّوابِ بعد انحرافِهم والارتقاءِ بهم بعد انحدارِهم يعودُ النَّاسُ بعد فترةٍ زمنيَّةٍ للانحرافِ عن الصّراطِ المستقيم، والمجتمعاتُ تسيرُ نحو الانحدار، والسَّببُ في ذلك هو ( اختلالُ أو فسادُ موازينِ العقول ) مما يجعلُهم يفقدون القُدرةَ الَّتي يتمتَّعُ بها أصحابُ العقولِ الرَّاشدةِ السَّليمةِ الذين لم تفسدْ عقولُهم وثبتوا على الصِّراطِ المستقيم، ولهذا السّّببِ تميلُ ( موازينُ القوى ) لتكونَ في صالحِ الطُّغاةِ وأهلِ الباطلِ الَّذين تحرَّروا من القيودِ الَّتي تقيِّدُهم عن الممارساتِ الظَّالمةِ الخاطئةِ ليتَّجِهوا نحو الإثراءِ غيرِ المشروعِ واستعبادِ النَّاسِ و استغلالِ المستضعفين منهم، وذلك التَّحررِ من القُيودِ الشَّرعيةِ الحافظةِ والمحصِّنةِ لهم من الشياطين يجعلُ الشياطين تتسلَّطُ عليهم بعد ما يفقدِوا التَّحصين، وتتمكَّنُ منهم لتقومَ ببناءِ أفكارهِم ومفاهيمِهم وتصوراتِهم وتخريبِ موازينِ عقولهمِ، ولتصيغَهم روحيّاً ونفسيّاً صياغةً شيطانيَّةَ فاسدةَ لا تليقُ بإنسانيَّةِ الإنسان . وكذلك تفعلُ الشياطين بالمستضعفين الَّذين استأْنَسُوا من حالةِ الاستضعافِ واسْتَمْرَؤوها وألفوها لتجعلَ منهم خطَّ الدِّفاعِ الثَّاني عن الطَّغاةِ بعد ما أصبح علماءُ السُّلطةِ خطَّ الدِّفاعِ الأوَّلِ الَّذي تتمرَّسُ خلفه الشَّياطين، وبعد اختلالِ موازينِ القوى يختلُّ ميزانُ العدلِ في المجتمعات.

وبعد ما يصلُ الظُّلمُ مداه يُرسلُ اللهُ عزَّ وجل مرةً أُخرى أحدَ رُسلِه بالبيِّناتِ وينزِّلُ معه الكتابَ الَّذي به ما يصلحُ ويعدِّلُ موازينَ العقولِ الَّتي اختلتْ أولا ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) إنَّ الآيَةَ الكريمةَ تبيِّنُ بأنَّ ( الكتابَ به الميزان العام للعقل ) أي الكتاب الَّذي يُنزِّلُه اللهُ مع رسلِه يُقدِّمُ أفكاراً ومفاهيماً وتصوراتٍ تجعلُ موازينَ العقولِ موازيناً مُنضبطةً بعد ما كانتْ موازينُها مختلةً فاسدة، وإذا ضُبِطَتْ موازينُ العقولِ أصبح بالإمكان إقامةُ القِسْطِ، أي يمكنُ إقامةُ العدلِ الجميلِ وإيصالُ كاملِ الحقوقِ لأصحابِها، فإذا ضُبِط ميزانُ العقلِ ضُبِط ميزانُ العدل، وضَبْطُ ميزانِ العقلِ ينتجُ عن التَّمتُّعِ بالأمنِ الفكري والرَّوحي وهو الأمن الذي تكون محصلته ونتيجته ( الهُدى ). ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82) ) الأنعام . )، والكتاب الذي به الميزان العام للعقل هو القرآن الكريم .

إنَّ الطُّغاةَ وأهلَ الباطلِ وأصحابَ المصالحِ الضَّيِقةِ والمفسدين في الأرضِ يستغلون اختلالَ موازينِ العقولِ ويستعملون أصحابَ العقولِ الفاسدةِ المُختلَّةِ في العدوانِ والإفسادِ في الأرضِ وفي تحقيقِ مصالحِهم غيرِ المشروعة، فالقدراتُ والإمكاناتُ الجسديَّةُ والماديَّةُ والفنيَّةُ والعقليَّةُ والفكريَّةُ والاجتماعيَّة ...الخ، أي ما أُعبِّرُ عنه بالقوى النَّاعمةِ والقوى الخشنةِ يُسَاء توجيهُها من قِبَلِ الطُّغاةِ وأهلِ الباطل، ولذلك يميلُ ميزانُ القوى لصالحِهم، وعلى هذا الأساسِ بدلاً من أنْ يكونَ الحديدُ الَّذي أنزلَه اللهُ لينتفعَ من ورائِه النَّاسُ نجدُ الطُّغاةَ يصنعون منه الأسلحةَ ليستعملوها ضد المستضعفين الذين يرفضون الظُّلمَ ويقاومونه، كما يستعملونه الطغاةُ في البِغْيِّ والعدوانِ وفي إشاعةِ الظُّلمِ وفي حمايةِ عملياتِ الإفسادِ في الأرض . فبسببِ اختلالِ موازينِ عقولِ النَّاسِ يوجَّهُ البأسُ الشديدُ للحديدِ نحو نصرةِ الباطلِ وأهلِه وإشاعةِ الظُّلمِ وهَضْمِ الحقوق، والآياتُ البيِّناتُ تُبَينُ لنا الخَطَوَاتِ الَّتي يجبُ أنْ تُتَّبعَ من أجلِ إقامةِ العدلِ والقسطِ كما أراد اللهُ عزَّ وجل، والخطواتُ هي تعديلُ موازينِ العقولِ أولا، وذلك يُؤدِّي إلى تعديلِ ميزانِ القوى ثانيا، فحينئذ توجَّهُ القوى نحو ما يُؤدِّي لتعديلِ ميزانِ العدلِ المائل من صالحِ الطُّغاة والظَّالمين ليكون من صالحِ المستضعفين وحتَّى نحسمُ الصِّراعَ مع أهلِ الباطلِ ليكونَ النَّصرُ حليفَنا بإذن اللهِ عزَّ وجل، علينا بالسَّيرِ على خُطَى الحبيبِ قدوتِنا رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم، فعلينا بعد التَّوكلِ على اللهِ استعمالُ قوانا النَّاعمةَ الاستعمالَ الفَعَّالَ المؤثِّرَ الأمثل، فذلك يجعلُ أعداءَنا ( محتاسين وفي حيص بيص ) فهم ليس أمامُهم إلَّا خيارين للتَّعاملِ مع قوانا النَّاعمةِ إنْ أحْسَنَّا وأَجَدْنا استعمالَها، أمَّا استخدامُ القتلِ أو محاولةُ التَّشويشِ، فذلك حَتَّى لا تصلُ الأفكارُ والمفاهيمُ والتَّصوُّراتُ الصَّحيحةُ النَّيرةُ وأفكارُ الرِّسالةِ إلى أسماعِ النَّاس، فخشيتُهم من النَّاسِ أشدُّ من خشيتِهم من اللهِ عزَّ وجل، فهم يخشون أنْ يفيقَ ويَعْيَ ويستيقظَ النَّاس، فحينها سيتولَّى أمرَهم النَّاس، وكُلٌّ بفنِّه، حيث ستضيقُ عليهم الأرضُ بما رَحُبَتْ. علينا أن نثق باللهِ عزَّ وجل ثقةً مطلقة، وأنَّ النَّصرَ سيكونُ حليفَنا فإذا ما قرأتَ ( فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) ) الفرقان ) والسِّرُ في ذلك ( إنَّ الهُدى هدى اللهِ عزَّ وجل ) سواء ما يَرِدُ من خواطرٍ وما توهبُ من إلهاماتِ وأفكارٍ نيِّرةٍ وتصوراتٍ لنا نقدمُها للنَّاس، كما أثقُ أن هدى الطَّرفِ المرادِ تعديلِ موازينِ عقلِه وإنارةِ بصيرتِه ورفعِ مستوى وعيِِه وإحياءِ شعورِه وتوسعةِ أفقِه ومداركِه بيد الله عز وجل، مما يجعلُه قوةً مضافةً مع أهلِ الحقِّ بعد ما كان قوةً مضافةً مع أهلِ الباطل فإنَّ اللهَ عزَّ وجل هو الفتَّاح الَّذي سيفتحُ ما أُغْلَق من عوالمٍ فكريَّةٍ أمام هؤلاءِ النَّاس، وهو المُصَّورُ الَّذي سيصوِّرُ للنَّاس تصوراتِهم التي تجعلُهم يتجهون نحو ما ينفعُهم ويصلحُ من أحوالِهم الفكريَّةِ والرُّوحيَّةِ والنَّفسيَّةِ والماديَّة وهو الهادي الودود جل شأنه .

إنَّ الرَّسولَ صلى اللهُ عليه وسلم قد استعمل القُوَى النَّاعمةَ أثناء صلح الحديبية قبل فتحِ مكةَ، أي كانتْ هي السِّلاحُ الإستراتيجي له، فالقوَى النَّاعمةُ جعلتْ فتحَ مكةَ أشبه بالفُسْحة، فهو قد بعث من يعدل موازين عقول القبائل مما جعل ميزان القوى يميل من صالح المسلمين، وهذا ما سيحدثُ إذا ما استعملنا قوانا النَّاعمةَ كمقدمةٍ لاسترجاعِ أرضِ فلسطينَ الَّتي جُعَْلتْ بؤرةٌ رئيسيَّةٌ للشياطينِ ومطاياهم، وفي مقالِ ( فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ) أُبَيْنُ دُورَ القُوَى النَّاعمةِ في فتحِ مكةَ .

المفكر الإسلامي/ محمد عبد المحسن العلي- الكويت

2022-05-14