الإثنين 17/10/1444 هـ الموافق 08/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الثّقافة و التّنمية الحضريّة المستدامة....صابر بن عالية
يعيش أكثر من نصف سكّان العالم في وسط حضري . فالمدن تمارس قوّة جذب خاصّة . بالإضافة إلى أنّها أقطاب نشيطة للنّموّ الاقتصادي فهي أيضا وجهة للكثير ممّن يطمحون إلى مستقبل أفضل . في سنة 2050 سيعيش ما يقارب 70%من سكّان العالم في مناطق حضريّة ، بدورها سوف تستقبل هذه المناطق 3 مليارات متساكن جديد . سيهمّ هذا التّوسّع الحضري أساسا البلدان النّامية . إلّا أنّه يطرح إشكاليّة ضمان تنمية حضريّة مستدامة ، ولاسيّما في البلدان ذات الدّخل الضّعيف و المتوسّط . هنا تلعب الثّقافة دورا بالغ الأهمّيّة .
تحدّد المحافظة على التّراث الحضري هويّة المكان و تعزّز الشّعور بالانتماء . فالمركز التّاريخي للمدينة و المواقع الأثريّة الأخرى بها يخلقون خصوصيّتها و يضفون عليها صورة مميّزة . تتطوّر المدن عبر الزّمن ، واهبة لكلّ مكان تراثا و هويّة خصوصيّتين . لكنّها كثيرا ما تفقد كلّيّا أو نسبيّا سمتها و مرجعيّاتها التّاريخيّة الخصوصيّة ، بفعل النّموّ الحضري . فالعديد منها تواجه صعوبة تحقيق معادلة توفير بنية تحتيّة متطوّرة لفائدة سكّانها مع المحافظة على تراثها . و هو ما يتطلّب أن تبنى السّياسات التّنمويّة ، خصوصا تلك المتعلّقة بالمظهر الحضري ، على فكرة أنّ البيئة المادّيّة الرّاهنة تشكّل جزءا من تجربة و بيئة الإنسان و أنّ التّراث عامل تماسك اجتماعي و رفاه و إبداع و جذب اقتصادي . بحيث تعمل هذه السّياسات على تعزيز الصّلة بين المدينة و المتساكن المواطن من خلال إدماج التّراث و توظيفه في التّنمية الحضريّة المستدامة . بهذه الصّيغة لن يقع النّظر إلى التّراث الثّقافي كعائق أمام نموّ المدينة بل كثروة يمكن استغلالها .
يؤدّي دمج الثّقافة صلب التّخطيط الحضري و التّنمية إلى خلق فرص اقتصادية جديدة . فالمدن الّتي تحشد كلّ مواردها ، لاسيّما تراثها الثّقافي ، تستجيب أكثر لحاجيّات و طموحات سكّانها من حيث فرص الشّغل و مكافحة الفقر . ذلك أنّ استغلال الإمكانيات الّتي ينطوي عليها التّراث المعماري من شأنه أن ينعكس إيجابيّا في هذا الشّأن ، في وقت وضعت فيه العولمة المدن في صميم الجدل حول تحسين الظّروف الاقتصاديّة و الاجتماعيّة لسكّانها .
يمكن أن تقدّم الثّقافة مساهمة أساسيّة في الفضاءات العامّة الّتي تمثّل مواطن حيويّة للحياة الحضريّة . فيها يلتقي الأشخاص و يتواصلون و يتبادلون ثقافيّا . من أبرزها السّاحات و المنتزهات و الحدائق العموميّة . و يمكن أن تحتضن فعاليّات متعدّدة كالمهرجانات و المعارض و العروض . كذلك من شأن المجسّمات الفنّيّة المقامة بها و المؤسّسات الثّقافيّة المحدثة على أطرافها أن تضفي عليها روعة و تعطي معنى للمكان و تساهم في جودة التّجربة المعيشة فيه و تثمين تاريخه. إنّ جعل هذا التّاريخ متاحا للجميع بفضل الفنّ العام و الخيال الإبداعي يؤدّي إلى تعزيز الانتماء إلى المدينة و يدعم في الآن نفسه إمكانيّاتها السّياحيّة .
يكتسي توفير المرافق الثّقافيّة لسكّان المدن و ضمان نفاذهم إلى الحياة الثّقافيّة و المشاركة فيها أهمّيّة بالغة . فالبنى التّحتيّة الثّقافيّة يمكن أن توظّف كفضاءات مدنيّة للحوار و شمول الجميع و تعزيز مشاركة الأفراد و الجماعات في الحياة العامّة و إدماج الفئات المهمّشة ، وهو ما يسهم في تعزيز التّماسك الاجتماعي و في الحدّ من العنف . و بالتّالي فإنّ السّياسات الحضريّة المراعية للبعد الثّقافي تدعم التّنوّع الثّقافي و تحافظ على النّسيج الاجتماعي . هي توفّر إذا حلولا مستدامة للإشكاليات المتعلّقة باستفحال الفوارق الاجتماعيّة و الشّعور بالاغتراب و العزلة و الحرمان و التّهميش .
2022-07-23