الإثنين 17/10/1444 هـ الموافق 08/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
"حياةٌ ناقصةٌ حياةً ...موتٌ ناقصٌ موتاً"....بقلم: باسمة وراد

توقظها الرائحة المنبعثة من غرفته، صوت أنفاسه، تنظر إلى المنبّه فتجده صامتا على وشك الرنين، تُعدّل توقيته لليوم التالي، شهور طويلة تضبطه على الوقت الملائم لإيقاظه، وطيلة هذه الشهور تصحو قبل أن يملأ رنينه البيت.

الوقت المتاح قبل أن توقظه تسقي فيه أزهار عبد الحميد أبو سرور أزهارها المزروعة في البيت، تلاطفها وتغدق عليها عنايتها.

تفتح باب غرفته، مستغرقاً في نومٍ عميق، تعرف كيف تفتح الباب لنعاسه بقهوتها النفاذة الرائحة.

تأخرت يا حبيبي، وكما كل الأمهات تداعب شعره متكئة على طرف سريره، هناك يشيع الحنان، فلا يتأفف، يسند ظهره للسرير، يزيح الخصلة المنسدلة على جبينها، يقبله.

يتشاركان ركوة القهوة وحديثا.

ترتب سريره بيدين تغرفان رائحة تملأ الكون، تغمر وجهها في وسادته، يلومها على ما عليه فعله، ترتيب غرفته، تدفعه مبتسمة لا عليك وتكمل ترتيب الفراش.

يغادر البيت بكامل بهائه، ترنو عيناها نحو خطواته في الشارع إلى أن يغيب. تغلق الباب وتقطف الأزهار المتفتحة، تشكل باقة بلا تنسيق تضيف اليها ريحانا وأوراق زعتر خضراء.

مشوار يومي اعتاد الجيران عليه. تسير نحو المقبرة، تجلس على حافة القبر المفتوح، ترتبه كما غرفته، حتى التراب تصفُّ ذراته، تسقيه وتلقي بالورد مكان رأسه.

طقس يومي منذ ذلك اليوم الذي رفع رأسها بخبر عاجل، حين قرأت وعرفته من قميصه أنه دفّعهم ثمنها قَهرهم.

والدها، جدّه، سبقه في بيروت، أعطته اسمه، عبد الحميد، سكنت بين شهيدين موجعين. 

رفع رأسها ثم أحناه بحزن أبدي، تشع مشاعر الفخر بالابن البطل، بطل كلمة تليق بمن سار متيقناً من طريقه، الحافظ لجغرافيتها حتى النقطة التي يخبره قلبه بأنك ستصيبني في صدرك هنا برصاصات، هناك في ذلك الشارع، يحدثه قلبه، سوف تؤلمني وتوقف نبضي، ستؤلم أمك وحبيبتك، يسير بيقين ويدب الرعب في "أمنهم وأمانهم" المحروس بالبنادق، يتفوق عليهم، يجهز على جبنهم، لا يسقط بل يرتقي.

يمعنون في الانتقام، يستبدلون اسمه برقم في قائمة المحفوظة أجسادهم في برودة عالم اسمه ثلاجة موتى رقمه كذا وكذا...

كل صباح ترتب سريره الدافيء، تشرب معه قهوتها وتكمل مهمتها في ترتيب حزنها الموغل في القبر المفتوح منذ أعوام انتظرت جسده لوداع يأخذ شكل النوم في تراب البلاد لتغلق عليه وتبقي على جرح قلبها مفتوحاً..... 

تراها واقفة في كل فعالية تطالب بالإفراج عن أجساد محتجزة، تحمل صورته، رأسها مرفوع فخراً وغضب واحتجاجا، ورأسها ينحني من ثقل الكرب واللوعة فينحني للألم. 

نظرة واحدة نحو عينيها تصلح عنوان يافطة تلف محيط الكرة الأرضية، مكتوب عليها بالدم الأحمر القاني:

هنا في هذه البقعة يسكن حزن من أمهات، في بلد سيوله دماء ولغته صراخ، وصمته دموع، وعلى أطرافه قبور مفتوحة على مقربة من أجساد اشتاقت لدفء التراب المسبّل بأيديهن وأيديهم ودموعهن ودموعهم الحارقة، أهلهم!

2022-08-20