يبدأ الكاتب روايته أو مذكراته إن صح التعبير، وكما عبرت عنها الكاتبة فيحاء عبد الهادي، وهو على سرير المرض يكتب ذكرياته عن فترة الثلاثينات وقد كتبها في عمر الستينات، وهي المخطوطة التي احتفظت بها ابنته دينا لفترة طويلة ثم نشرتها عندما سمحت الظروف.
استهل الكاتب روايته عام 1960 بينما هو على سرير المرض لا يعرف النوم من شدة الأوجاع، وبسبب المورفين الذي حرمه النوم، تذكر رواية (عودة الروح) لتوفيق الحكيم.
تعبر الرواية عن واقع الحال في فترة (الانتداب) الاحتلال البريطاني فيقول في صفحة 19 (وفي أوائل الصيف كان الفلاحون يبدأون بجمع محاصيلهم وإعدادها للبيع، ولم يكونوا يفيدون شيئا من وراء بيع محاصيلهم، فلقد كانت الأسعار متدنية تنفيذا لسياسة الانتداب الجائرة التي كانت ترمي الى إفقار الفلاحين وتجويعهم، لكي يهجروا أرضهم وقراهم إلى المدن وبذلك يصبح من السهل بيعها للشعب الآخر الذي كان يعد العدة للعودة ليحل محلهم، وكانت أكثر أثمان المحصولات تذهب إلى جيوب المرابين من أهل المدينة الذين كانوا يقرضون الفلاحين أيام الشتاء لكي يستردوا قروضهم في الصيف أضعافا).
يتحدث الكاتب عن اسم بطل الرواية الذي ولد يصرخ، فاعتقد أهله انه ولد ميتا، فأسموه باسم نزار لأنه جد العرب.
ويعبر الكاتب عن دور الفلاحين في فلسطين كما بصفحة 29 (وفي سنة 1936 اشترك الفلاحون للمرة الأولى بالدفاع عن بلادهم وكانت الاضطرابات السابقة مقتصرة على أهل المدن، ومن يومها حمل الفلاحون لواء الدفاع عن الوطن حتى ضاع الوطن).
وينتقل الكاتب للحديث عن القدس فيصفها كما في صفحة 28 (القدس في ذلك الوقت كانت مقر المندوب السامي البريطاني صاحب الأمر والنهي، ومقر زعماء الأحزاب العرب وكلهم من أبناء العائلات الإقطاعية الذين كانوا يعتبرون العمل في السياسة مغنماً لا مغرماً، ولم يكونوا يرون أمامهم أبعد من أرنبة أنوفهم).
تعتبر رواية (سلمى والوطن) دعوة من الكاتب الذي يمكن ان نصفه بعاشق الحرية والوطن والمخلص لحب الحبيبة والوطن، الى الفلسطينيين لكي يوثقوا تاريخهم.
فكريمته التي جمعت الرواية واحتفظت بها فترة زمنية، ثم قامت بنشرها، ما هي إلا تقدير حقيقي لهذه الرواية التي يختلط فيها الخيال الأدبي بتوثيق لتجربة إنسانية وانتماء للوطن وبحث عن الحرية والحب كانا ملازمين الكاتب، وقد كتبت بشكل أدبي سلس، مشكلا في آن معا وثيقة تاريخية عن فترة زمنية عاشها الكاتب.
ومن الحقائق التي سلط الضوء عليها في روايته حقيقة نتجاهلها ولا نكتب عنها وهي قطاع الطرق واللصوص فيقول عنهم (ومن هؤلاء الأشقياء تكونت النواة للثورات الفلسطينية المتعددة التي أزعجت الانتداب). وكيف بهؤلاء اللصوص المغامرين يتحولون الى الانتماء للثورة؟ فيقول في صفحة 18 (كانت الثورات بحاجة إلى رجال مغامرين وقد وجدتهم وكانوا هم بحاجة الى مغامرات نزعاتهم البطولية وقد وجدوها).
انتقل الكاتب للدراسة في الجامعة الامريكية في بيروت وهناك كان لقاؤه الأول بسلمى التي ارتبط بها كما ارتبط بالوطن، وهي عنوان روايته، فتحدث عن اللقاءات مع سلمى منذ بداية الدراسة، ثم الانتقال إلى المحاضرات والاختبارات في المعمل، حتى وصلت العلاقة إلى الأمور العائلية والشخصية فقامت سلمى بدعوته لزيارة بيتها والتعرف الى والدتها.. وقد عبر لسلمى باعتراف المحب لحبيبه في لقاء جمعهما (هل تذكر اجتماعنا الأول؟ من الذي فتح صدره للآخر أنت أم أنا؟ ألا تذكر أنني دعوتك إلى بيتي حتى قبل أن أعرف حقيقة شعورك نحوي؟ ولكنك صدمتني عندما رفضت الدعوة، ولقد كنت أظن أثناء وجودنا في المختبر معا أنك تميل لي، فلذلك وقفت في حيرة، ....) ص 43 وعلى القارئ أن يقرأ الرواية لمعرفة باقي اعترافات المحبين من خلال الرواية.
يعبر الكاتب في صفحة 48 عن بريطانيا (بالشريفة جداً) عندما رأت بوادر الحرب الثانية في الأفق فقررت أن تضحك على ذقون العرب لكي تأمن شرهم كعادتها، فدعتهم إلى مؤتمر لندن لحل القضية الفلسطينية، وأطلقت سراح جميع المعتقلين المنفيين في سيشل ودعتهم الى المؤتمر، وكذلك بعض عملاء قلم استخباراتها في فلسطين مسمية إياهم بالمعتدلين.
وتحدث الكاتب عن صداقته مع عبد اللطيف قائد القطاع الأوسط وعن لقائه به في بيروت حتى استشهاده في فلسطين وهو يقاوم الاستعمار، فقد حملوا السلاح من سوريا الواقعة تحت الاحتلال الفرنسي إلى فلسطين، (وقد بدأ يزودهم بالنصائح الثمينة التي لا تخرج عن الحذر من فلان، وإزهاق روح علنتان)، (قلت يا سيد عبد اللطيف هذا وأمثاله هم مصدر الضرر على قضيتنا ويسمون أنفسهم مجاهدين، وهم لا يجاهدون إلا في الشام وبيروت ومرابعها، ويدعون أنفسهم بالوطنيين وهم لا يعرفون من الوطنية إلا سيطرة فلان على فلان، وتصنيف الناس الى خراف سوداء وبيضاء). ويقول (خذ عني يا صديقي إذا سلمنا من هؤلاء فإن كل شيء سيسير على ما يرام، وسننجح بعون الله وتوفيقه) ص 62.
ثم يتحدث كيف تحولت أعمالهم المقاومة بزعامة عبد اللطيف ورفاقه بعد الظلم والقتل والاستبداد والخاوة والسرقة باسم الثورة، فيقول عن هذه المرحلة (وكان الفلاحون ينظرون إلينا نظرة ود وإخاء، فالمظالم القديمة اختفت، وأخذوا يشعرون بأننا نعمل لبلادنا حقا، وأننا نضحي بأرواحنا في سبيلها لا في سبيل أي شيء آخر. فوثقوا بنا واطمأننا إليهم، ولم نعد نحس بالقلق الذي كنا نحس به في بداية حركتنا) ص73.
ويتحدث عن حرب النكبة 1948 ومعارك حيفا والناصرة وما حولها، وما رافقها من تهجير ومذابح ومقاومة شرسة، وعن الجيوش العربية، وعن اعتقاله في السجن بعد إصابته في الحرب ونقله للمشفى تحت الحراسة التي أدت بعد الشفاء الى السجن، ولا ينسى الحديث عن السجان والحارس والممرضة، في تجربة طويلة توثيقية مهمة بلغة أدبية سلسة ومشوقة فلا يمكن أن تترك الكتاب إلا باستكماله.
وما أشبه اليوم بأيام النكبة، وهو يشير الى عام 1949 في الأردن (لا أود أن أطيل عليك يا قارئي في وصف العودة، وإجراءات الاستلام والتسليم، والوضع الذي شاهدت عليه البقية الباقية من فلسطيننا العزيزة. لقد تركت النكبة فيها شعبا بلا روح ولا عزيمة، همه الوحيد أن يعيش. والحروب دائما تخلف وراءها انحدارا في المستوى الخلقي، وكفرا بالمثل العليا لأن الناس من فرط ما يلاقون فيها من أهوال تصبح الحياة نفسها هي الغاية، ويزداد حرصهم عليها، ويصبح الترف المادي المسطح الأكبر لهم بدون نظر إلى الوسيلة التي يصلون بواسطتها إليه، فتراهم يهرقون ماء وجههم، ويلجأون إلى الغش والخداع في سبيل الوصول الى منصب يدر المال لأن المادة أصبحت في نظرهم الكل بالكل، ومن فقدها فقد كل شيء) ص118.
يعود الكاتب بالحديث الى سلمى التي اعتقدت أنه استشهد في المعركة التي استشهد فيها عبد اللطيف بعد رحلة العراق والشام وبيروت وذهابه للعمل في الأردن مدرسا، وعن لقائه الأول بها ومن ثم الزيارات المتكررة لسلمى بعلم زوجها وبدون علمه، وقد تفاجأ بأنها تزوجت وأنجبت أولادا، وتحدث عن تجربة الزعيم جمال عبد الناصر وخطاباته ومشاريعه وكيف تحول لزعيم اجتمعت حوله الأمة العربية.
ويختتم الكاتب روايته بدخوله المشفى وغرفة العمليات فيقول (ودخلت غرفة العمليات وخرجت منها، وقد اقتطع الطبيب جزءاً من جسدي، وبعد عشرة أيام اضطر لإدخالي مرة أخرى ليقتطع جزءاً آخر، ثم جاء بعد ذلك يهنئني بالشفاء، ولست أدري حتى الآن هل هو شفاء مؤقت، أم راحة دائمة) ص 152.
فكتب لسلمى ليخبرها بما حدث معه وانتظرها لتزوره، وكان يعد الساعات والأيام ولم تأت، بل كان يراها في المنام بوجه باك دون أن لا تكلمه، حتى أنها قريبة منه ولكنها لا تأتي.
ضاعت فلسطين بجزئها الأول عام 1948 فقطع جزء من جسده، واستكمل ضياعها عام 1967 وقطع الجزء الآخر من جسده، وبقي ينتظر الزعيم الملهم الذي يصنع الأمل، ويصدر القرار للكتائب العربية الباسلة للزحف نحو فلسطين لتحريرها، وسيكون أول من يذهب إلى الحرب، فهذا ما يصنع الأمل ويحيه في قلب الكاتب المكسور.
إنها رواية تستحق القراءة فهي توثق لتجربة الكاتب في مقاومة الاحتلال، ولحقبة زمنية نحن بحاجة ماسة لتوثيقها، إذ كشفت عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي في فترة الانتداب البريطاني، وكذلك عن التعليم الديني والثقافة والواقع الاقتصادي الذي كان مقصودا به إفقار الناس وزيادة فئة المرابين، ناهيك عن توثيقه للجانب الاجتماعي والسياسي، فهذه الفترة فيها غياب للتوثيق، وهي دعوة لتوثيقها من الكاتب للمؤرخين والمثقفين.
ولعل من أهم ما في الرواية هو توثيق الدور السياسي والاجتماعي للمرأة الفلسطينية من خلال بطلة الرواية سلمى.
وأعتقد أن هذه الرواية تحتاج لمخرج وكاتب سيناريو من أجل إخراجها في فيلم معبر عن الواقع الاجتماعي والسياسي خلال فترة الانتداب البريطاني، كالتغريبة الفلسطينية.