السبت 11/10/1445 هـ الموافق 20/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
بينَ المُتَنبّي والدكتور أيمن العتوم وسماح خليفة (قولٌ على قولٍ، فيهِ الفصلُ)....سماح خليفة

قال المتنبّي:

إذا اشتبهَتْ دموعٌ في خُدودٍ       تَبيّنَ مَنْ بَكى مِمّنْ تباكَى

وقال الدكتور أيمن العتوم معقّبًا على هذا البيت (في صفحته الفيس بوك): حينَ حفظتُ قول المتنبي، قُلت: "لماذا لا تكون إذا اشتبكتْ دموعُ في خدودٍ؛ فالاشتِباك، الّذي يتضمّن الاشتِباه فيما يتضمّنه أفضل، ناهيكَ بصوت حروفها الّتي تكاد تسمع فيه تدافعًا وطِعانًا، أضِف إلى تجانسها مع كلمة تباكى الّتي في آخر البيت في ثلاثة حروف هي التّاء، والباء، والكاف. ثُمّ لم يُعجبني رأيي، فقلتُ لماذا لا تكون: "إذا اشتعلتْ دموعٌ في خدودٌ"؛ فقولنا جرادٌ مُشْعِلٌ، إذا انتشر وجَرى في كلِّ وجه، فتعني القوّة والكثرة والانتِشار، وقولنا غُرَّةٌ شَعْلاءُ يعني أنْ تأْخذ الغُرّة وهي الشّعر الكثيف إِحدى العينين حتى تدخل فيها، وهذا يُناسب امتلاء العين بالدّمع حتّى تفيضَ المقلتان به فتتدفّق على الخدود، والاشتِعال يعني فيما يعني الاحتِراق الّذي يتناسب مع حرقة الدّموع وحرارتها، ولكنّنا سنصطدم بقوله (تبيّن)؛ فالتّبيُّن أو التّباين يكون بين مُستوَيَين أو بين نقيضَين كما أراد الشّاعر بين البُكاء والتّباكي، ولكنّ اشتعل تذهب إلى مستوى واحد وهو الاشتِعال الحقيقيّ لا المُصطَنَع، فالكلمة لا تفي تمامًا بما أراد الشّاعر، فعدلتُ عن أنْ أجدها مناسبةً! فقلتُ: لماذا لا تكون "إذا اشتجرتْ دموعٌ في خدودٍ"، فالاشتِجار يدلّ على مئة معنًى يزيد على الاشتِباه الّذي أراده المتنبّي؛ فاشتجر الشّيءُ تعني تداخل بعضُه في بعض، ويقال: اشْتَجَرتِ الرّماح إذا اختلطتْ لكثرتها من جهة، ولعدم معرفة مَنْ كان منها معك مِمّن كان منها ضِدّك من جهةٍ أخرى، ويقال كذلك اشتجرت الأصابع إذا تشابكتْ، واشتجر القوم تخالَفوا وتنازَعوا. وأعجبتْني هذه الكلمة أكثر. لكنّني أيضًا قلت: لماذا لا تكون: إذا اشتهرتْ دموعٌ في خدود؛ أي إذا ظهرتْ بوجهٍ جليّ فَرُئِيتْ لكثرتها، وهذا يتناسب مع قَفْلة البيت بكلمة (تباكَى) إذْ إنّ مَنْ يبدو هنا باكِيًا يريد لدموعه الاشتِهار، فهو لم يبكِ بل تباكَى... وهكذا..."

وتقول سماح خليفة: تكمنُ بلاغة المتنبي في اختيار كلمة (اشْتَبَهَتْ) دونَ غيرِها، وذلك بالنظر في دلالة الكلمة النّفسية، والمعجمية، والصّوتية.

اتّفقَ الخبراء النفسيون على وُجود خمس مراحل للحزن، يمرُّ فيها الإنسان عندما يتلقّى خبرًا محزنًا قاسيًا، مثل تعرُّضه لخسارة أحد الأشخاص المقربين، على سبيل المثال. واتُّفق على تسميته بـ "نموذج كوبلر"، الذي تمثّل في كتاب كوبلر الأخير، الذي أصدرته قُبَيل وفاتها (عن الحزن والأسى 1969 ).

وإن أولى المراحل تتمثّل في تلقّي الصّدمة، حيث يُصاب المتعرِّض للصدمة
(الخبر) بحالة من الشلل الفكري والعقلي، وهذا يعني السكون والهدوء وعدم إصدار صوت، ثم يتبعه نزول الدموع من العين استجابة للحالة العاطفية التي يشعر بها الشخص. وهنا يكمن الفرق بين من (يبكي) و(يتباكى) فالذي يبكي هو من أصابه حزن حقيقي ومن الطبيعي أن يكمل مراحل الحزن جميعها، وأما المتباكي فهو من يدّعي الحزن بالتقليد، لكنه لا يستطيع الاستغراق في مراحل الحزن والاستمرار فيها، لا بُدّ أن يُكشَف. فالمرحلة الأولى للباكي والمتباكي واحدة مشتَبه فيها، فالباكي يمر بـ: الصدمة السكون الهدوء وشلل العقل ثم الدموع الطبيعية، والمتباكي سكون وهدوء ناجم عن إعمال العقل في التفكير لخلق حالة مشابهة للحزن والبكاء الحقيقي، تتمثل في افتعال الدموع، ثم تتبين الأمور واضحة فيما بعد، لتكون حالة الفصل بين (من يبكي)؛ لأنه سيستمر في حالة الحزن والمرور في مراحل الحزن والفقدان الخمسة، وبين (من يتباكي) حيث أنه سيتوقف ولن يستطيع الاستمرار في الادعاء والتمثيل، لعدم وجود مشاعر حقيقية وتأثر صادق، وهذا ما ذهب إليه المتنبي في انتقائه لمفردة (اشتبهت) حيث المرحلة الأولى للحزن، ثم (تبيّنَ) وإيجاز الحذف (تبيّن- فيما بعد)حيث يتحقق الحزن الحقيقي من المفتَعَل، فيما بعد، من خلال الاستمرار والاستغراق في مراحل الحزن الطبيعية، من عدمه.

وأمّا معجميًّا فالاشتباه (مفردة المتنبي) فيه التباس وشكّ واختلاط للأمور بين الباكي والمتباكي، لكن بهدوء المشتَبِه المفكّر بالأمر، وأما (مفردات الدكتور أيمن العتوم) نستعرض كل واحدة على حدة: اشتَبَكَتْ: الاشتباك فيه تدافع وصوت وحركة وضجيج، وهذا لا يتفق مع حالة الصدمة والسكون والهدوء المتمثلة في المرحلة الأولى للحزن، وأما (اشْتَعَلَتْ) الاشتعال فيه مستوى واحد هو يقين الاشتِعال الحقيقيّ لا المُصطَنَع، ثمّ إن الاشتعال فيه حركة وصوت، وكلاهما لا يتفق ومرحلة الصمت حيث السكون والهدوء، أمّا (اشْتَجَرَتْ) فالاشتجار فيه تشابكٌ وكثرة يفوق المستويين اللذين أرادهما المتنبي، وأمّا (اشْتَهَرَتْ) ففي الاشتهار مزيدا من الإشهار الذي تنجلي فيه الأمور من تحقق الدموع ومن ثمّ الحزن الحقيقي وهذا يخالف حالة عدم اليقين الذي أراد المتنبي إيصالها لنا من خلال الالتباس في حالة الحزن من ادّعائه (البكاء والتباكي).

ولو أمعنا النظر في أصوات الحروف، لوجدنا أصول الكلمات على النّحو الآتي:

اشْتَبَهَتْ – شَبَهَ       (المفردة للمتنبي)

اشتَبَكَتْ – شَبَكَ      (المفردات الأربعة الآتية للدكتور أيمن العتوم)

اشْتَعَلَتْ – شَعَلَ

اشْتَجَرَتْ – شَجَرَ

اشْتَهَرَتْ - شَهَرَ

نلاحظ أنّ الأصول الخمسة اشتركت في الابتداء بحرف الشين (فاء الفعل)، وبالتالي يبقى الحسم في الدلالة الصّوتية لعين الأصل ولامه، ولو نظرنا في عين الفعل منفردة (الباء، العين، الجيم، الهاء) لوجدنا العين والجيم والهاء احتكاكيات، وأمّا الباء انفجارية، والانفجار خروج الهواء فجأة دفعة واحدة، وهذا يتناسب وحالة خروج الدّموع فجأة استجابة للحالة الشعورية، وهذه الباء وُجِدَت في (شبه/المتنبي، شبك/العتوم)، إذن ننظر في لام الفعل منفردة لِنَحسم الأمر (الهاء، الكاف، اللام، الراء). اللام حرف فيه استطالة لا يناسب مرحلة الحزن الأولى القصيرة التي يبدأ بها الشخص قبل الدخول في المراحل الأخرى الأعمق، والراء حرف تكراري لا يتناسب مع المرحلة المؤقتة غير المتكررة للحالة الأولى، بل منتقلة إلى مرحلة ثانية وثالثة و....، وأما الهاء والكاف فهما حرفان انفجاريان مهموسان، وهما في خياري (المتنبي والعتوم)، إذن يبقى الحسم في الكلمة الأنسب بين (المتنبي والعتوم) (اشْتَبَهَتْ، اشْتَبَكَتْ) في اجتماع الأصوات وتأثيرها على بعضها، ولنحسم الأمر نحلل كما يأتي:

المقطع الأخير في (اشْتبَهَتْ) هو (الهاء + التاء)

               (صوت احتكاكي خفيف ضعيف مهموس + صوت انفجاري خفيف مهموس)

المقطع الأخير في (اشْتَبَكَتْ) هو (الكاف + التاء)

               (صوت طبقي انفجاري قوي شديد مهموس + صوت انفجاري خفيف مهموس)

إنّ الانفجار الخفيف المتمثل في صوت التاء في خروج الهواء اللثوي الأسناني، يتناسب مع خروج الدموع الوجدانية اللاإرادية في المرحلة الأولى للحزن، ويعزز هذه الحالةَ، الوجدانيةَ الضعيفةَ الهادئةَ الساكنةَ، خفّةُ وضعفُ صوتِ الهاء عند اجتماعه بصوت التاء (المتنبي). وأمّا قوة وشدّة الكاف الطبقية الانفجارية (العتوم) سيطغى على خفة التاء وسيربك الحالة الشعورية الوجدانية اللاإرادية عند الإنسان، ولو افترضنا إن الحالة الإنسانية (تباكي) وليست (بكاء حقيقي)، فإنّ هذه القوة والشّدة الطبقية الانفجارية ستربك لحظة الاتزان العقلي المفكر لحالة الاصطناع في التباكي. وبالتالي نلحظ عدم تناسب الكاف في اجتماعها مع الهاء، في الحالتين (البكاء والتباكي).

ومما سبق نستدل على عبقرية المتنبي في انتقاء (اشْتبَهَتْ) وملاءمتها العميقة للحالة النّفسية الشّعورية الشاعرية التي تلبّست المتنبي، واستطاع التعبير عنها بكل دقّة.

سماح خليفة/ فلسطين

[email protected].

2022-11-10