الخميس 9/10/1445 هـ الموافق 18/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الفلسطينيون في الأصل والفصل / أحمد الدَبَشْ

أحمد الدَبَشْ /كاتِب وباحِث فلسطيني في التاريخِ القديمِ

أهمل مؤرخو الغرب المتخصصون في تاريخ الشرق الأدنى القديم وحضارته دراسة تاريخ الفلسطينيين، ولم يخصصوا في دراستهم الخاصة بشعوب الشرق الأدنى القديم أي ذكر خاص بتاريخ الفلسطينيين في عمل مستقل،أو حتى في فصل مستقل من فصول الدراسة.
وهذا الإهمال مقصود لذاته بسبب سيطرة المؤرخين اليهود والصهاينة على مجال الكتابة التاريخية عن فلسطين، ولذلك فقد أخرجوا من دائرة البحث تاريخ الشعب الفلسطيني القديم بصفته شعب من شعوب الشرق الأدنى القديم، مركزين تركيزاً شديداً على دراسة تاريخ الإسرائيليين، وذلك لتأصيل الوجود الإسرائيلي المزعوم في فلسطين باستبعاد الفلسطينيين الذين سميت المنطقة باسمهم.
ويبدأ تاريخ فلسطين عملياً لهؤلاء الكتاب فقط عند بدء تاريخ إسرائيل (المزعوم)، وعندما تصبح فلسطين في وفاق وانسجام تامين مع إسرائيل (المزعومة)، والسبب في ذلك لا يمكن أن نقول بأن بؤرة التركيز هي على تاريخ إسرائيل (المزعوم)، أو الادعاء بأن سرد هؤلاء المؤرخين للتاريخ يبدأ عند ظهور ما يسمى بإسرائيل على مسرح الأحداث، ذلك لأنهم جميعاً يعالجون فترات ما قبل الوجود الإسرائيلي (المزعوم)، ولكنهم جميعاً يرفضون بثبات استعمال تعبير "الفلسطينيين" للدلالة على سكـان الإقليــم ـ المكان، حتى إن استعملوا تعبير فلسطين للدلالة على أشياء جامدة مثل: المكان المادي الاقتصادي.
إن رفض استعمال صفة واحدة لنعت سكان المنطقة هو إذن إنكار للوجود وللتاريخ الفلسطينيي، ولهذا فإن فلسطين توصف على أنها منطقة صغيرة وفقيرة ومعزولة ..وهذه أوصاف شائعة في الدراسات التوراتية، ثم يتغير هذا الوضع وتصبح فلسطين مرموقة فقط بسبب الوجود التاريخي المزعوم لما يسمى بإسرائيل فيها، وعلى هذا فإن الدراسات التوراتية متورطة في تجريد الفلسطينيين من وطنهم، ولهذا مقابل سياسي معاصر متمثل في السيطرة الصهيونية على الأرض وسلب الشعب الفلسطيني أرضه، وتصويره على أنه شعب بلا تاريخ أو تجريده من هذا التاريخ.
وهكذا نرى أن الخطاب التوراتي يجعل الفلسطينيين شعباً غير ذي أهمية، وفي نهاية الأمر غير موجود.
يختلف الباحثون والأثريون حول أصل الفلسطينيين، فمنهم من يعتبرهم مجموعة من شعوب البحر، واعتبرهم آخرون أنهم من سكان فلسطين أصلاً وامتزجوا بمجموعات شعوب البحر، الذين أثروا في حضارتهم، وأدخلوا عليها مواد وعادات جديدة أصبحت متميزة في الكثير من مواقع الساحل الفلسطيني الجنوبية، وما زال النقاش محتدماً حول موطنهم الأصلي، مع الأخذ بالحسبان بأن أصحاب الرأي الأول غالباً ما كانوا من التوراتيين أو المتأثرين بالدراسات التوراتية التقليدية.
ولهذا ستتناول الأسطر التالية أهم الآراء التي تكونت عن الفلسطينيين، وذلك بما يسمح به إطار هذه الدراسة وما يتيسر من معلومات ومصادر تتعلق بهذا الموضوع.
الفلسطينيون في المصادر القديمة:
تسود قناعة لدى علماء التوراة بشكل خاص، وبين العامة بشكل عام بأن اسم أرض فلسطين، يعود في أصوله لشعب أو لقبائل انتمت لما يعرف بـ "شعوب البحر". ويطلق الاسم الأخير في علم التاريخ القديم المتخصص بالمشرق العربي وفي علم التوراة أيضاً، على مجموعة من القبائل أو الشعوب التي يقال أنها غزت مصر في الألف الثانية قبل الميلاد. وهناك رأي بأن هذا التحرك القبلي الذي تم عبر إقليم البلقان وكذلك عن طريق البحر، لم يكن غزواً وإنما هجرات قبلية. وبغض النظر عن طبيعة هذا التحرك البشري [ سنناقش هذه المسألة لاحقاً ]. تفيد الحوليات المصرية أن تلك الموجة البشرية هُزمت في عهد "رمسيس الثالث" (1193 ـ 1162 ق.م). الذي أوقف تقدمهم عند مصب نهر النيل. وفي النقوش العائدة لذلك الفرعون، ترد تفاصيل إلحاق هزيمة بأعدائه، ومنهم (دنونا) و(فولستا) ([1]).
كما عُثر في مدينة هابو الواقعة قرب الأقصر بمصر العليا على نقوش أخرى تقول إن "رمسيس الثاني" (1290 ـ 1224 ق.م) هو الذي حقق ذلك النصر على ستة أقوام هي (فرست / ف ـ رـ ست)، و(دانونا)، و(شكلش / سكلس)، و(شردنو)، و(شش)، و(تجكر).
ويعتقد البعض، ومنهم "ألن جاردنر"، بأنه قد وصلت إلى أيدي علماء الآثار معلومات وافية عن الفلسطينيين في الكتابات والنقوش التي سجلها "رمسيس الثالث" على جدران معبد أمون في مدينة هابو غربي مدينة طيبة، وقد ملأت هذه الكتابات والنقوش آلافاً من الأقدام المربعة كلها منحوتة على الحجر، وقد احتوت على سجل كامل لحملات الفراعنة وحروبهم.
وقد وصفت هذه الشعوب المعادية لمصر وصفاً رائعاً في النقوش المصرية، ونخص بالذكر الصور التي سجلت المعركة البحرية الفريدة من نوعها. وقد امتزجت النصوص المكتوبة بحديث مليء بالزهو موجه من "رمسيس الثالث" إلى أبنائه ورجال بلاطه، والمقتطفات التالية حذفت منها جمل لا نستطيع أن نخلص منها بحقائق تاريخية:
قامت البلاد الأجنبية بمؤامرة في جزرهم، وقد زعزعت المعركة وبعثرت البلاد كلها في وقت واحد، ولم تكن هناك أرض تستطيع أن تقف أمام أسلحتهم، وقد ابتدوا بخاتى وقودى وقرقميش وأرزاروا وألاسيا .. أقيم معسكر في مكان في أمور وقضوا على شعبها وأرضها فأصبحوا كأن لم يكن لهم وجود من قبل .. ثم جاؤوا، واللهب معد أمامهم متقدمين نحو مصر وكان حلفهم مكوناً من بلست وزكار وشكلش ودانو ووشش متحدين جميعاً، ووضعوا أيديهم على البلاد جميعاً إلى محيط الأرض كلها وقلوبهم تردد في ثقة " لقد نفذنا خطتنا "! ولكن قلب هذا الإله، سيد الآلهة، كان مستعداً ومجهزاً لاقتناصهم كالطيور، لقد دعمت حدودي في زاهي وأعددت أمامهم الأمراء المحليين وقواد الحاميات والماريانو وأمرت بأن يجهز مصب النهر، كسور قوي بالسفن الحربية والغلايين والزوارق التي كانت معدة إعداداً تاماً من قبل ومن بعد بالشجعان من الرجال الذين يحملون أسلحتهم ومن المشاة من خيرة المصريين الذين كانوا كالأسود المزمجرة فوق الجبال، أما العربات فكان بها المحاربون الأكفاء وكل الضباط الممتازين ذوي الأيدي القادرة، وكانت خيولهم ترتعد كل مفاصلها مستعدة لسحق الجيوش الأجنبية تحت حوافرها.ويستطرد "رمسيس الثالث" قائلاً: أما عن أولئك الذين وصلوا إلى حدودي فليست فيهم بذرتهم .. قلوبهم وأرواحهم انتهت إلى الأبد .. أولئك الذين تقدموا من ناحية البحر ..كان اللهب الكامل أمامهم عند مصاب النهر وكان سياج من الحراب يحيط بهم على الشاطئ. أما عن تفصيلات الهزيمة البحرية فإن النتيجة هي: جهزت لهم شبكة لاقتناصهم، فكان من دخل منهم إلى مصاب النهر يحصر ويسقط في داخلها ثم يقيدون في أماكنهم ويذبحون ثم تقطع جثثهم ([2]).
وانطلاقاً من حقيقة أن قدماء المصريين لم يوظفوا حرف اللام (ل) لكتابة الأسماء غير المصرية، واستعاضوا عنها إما بحرف الراء (ر)، أو حرف النون (ن)، فقد اقتنع معظم العلماء بأنه وجب كتابة الاسم (فرشت) على نحو (فلشت). وبعد أن لاحظ العلماء التشابه اللفظي بين الاسمين (فرست) و (فلشت / فلست) الوارد في العهد القديم كاسم قوم وإقليم جارين بني إسرائيل، رأى أهل الاختصاص أن المقصود واحد، وبضرورة نطق الاسم الأول بصيغة (فلشت). وفي الوقت نفسه الذي لا يجوز علمياً نبذ هذه الإمكانية كاحتمال، إلا أنه من غير الممكن قبولها على أنها حقيقة غير قابلة للنقاش ([3]).
ومن ناحية أخرى فقد عُثر على الاسم (فلست) في نصوص عائدة إلى ملك مصر "رمسيس التاسع" (1134 ـ 1117 ق.م) تشير إلى اثنين من أقوام البحر هم (شردانا)، و(تجكر)، وإلى ثلاث مدن (فلستية / فلسطية) هي عسقلان، وأشدود، وغزة ([4]).
وفي التعريف بـ "فلسطين" و"الفلسطينيين" في المصادر اليهودية نجد تعتيماً شديداً وإيهاماً بأن الفلسطينيين شعب غريب ليست له أصول في المنطقة، ففي دوائر المعارف اليهودية يرد الحديث عن فلسطين والفلسطينيين مقتضباً وغامضاً يوحي للقارئ بعدم أهمية المكان وسكانه، ويؤكد عدم أصالته وأنه كان شعباً غريباً!.
"الفلسطينيون من شعوب البحر الأبيض المتوسط تعود أصولهم إلى مواقع في آسيا الصغرى واليونان، وأتوا إلى فلسطين في موجات متعاقبة. وقد أتت إحدى هذه الموجات قبل عصر الآباء، واستقرت جنوب بئر السبع، حيث دخلوا في صراع مع إبراهيم وإسحاق، وأتت موجة أخرى من كريت بعد طردها من مصر على يد رمسيس الثالث في 1194 ق.م، فاحتلت المنطقة الساحلية من جنوب فلسطين، حيث أنشأوا خمس مدن هي: غزة وعسقلان وجت وأشدود وعقرون، ولأنهم شعب محارب بالفطرة فقد تسيدوا أجزاء أخرى من يهوذا زمن العصاة وهزموا شاؤل لكن داود هزمهم ووضع نهاية لسيادتهم، وبعد سقوط المملكة الإسرائيلية استعاد الفلسطينيون استقلالهم، ولكنهم لم يصبحوا أبداً عاملاً رئيسياً في المنطقة. وفي العصرين الفارسي واليوناني تغلب مستوطنون أجانب من جزر البحر المتوسط على المدن الفلسطينية، وأطلق اليونان منذ هيرودوت اسم فلسطين على هذه المنطقة نسبة إلى الفلسطينيين (فلسطين السورية)، وفي عصر هادريان أطلق الرومان هذا الاسم رسمياً على إقليم يهوذا" ([5]).
ولكن ماذا يعني مصطلح "فلسطيني" للإنسان الغربي ؟! تجدر الإشارة إلى أن مصطلح (Philistine) يستعمل لوصف الشخص المادي النزعة الفج المعادي للثقافة الرفيعة، كما يعرفه قاموس أكسفورد، وهو تعريف ينم عن تأثير التفسير التوراتي للتاريخ لمصلحة اليهود.
وقد بلغ التشويه إلى حد أن الدعاية الصهيونية روجت للقصة التوراتية عن جليات وداود إذ تصور انتصار داود الصغير بالمقلاع على جليات، وكان من جبابرة الفلستين إذ بلغ طوله أكثر من تسعه أقدام، وكانت أدواته الحربية مناسبة لطوله وقوته، ويرى "د. عبد الوهاب المسيري" في » موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية « أن الدعاية الصهيونية نجحت في ترسيخ صورة داود رمزاً لإسرائيل، الذي يستخدم ذكاءه ومهارته في هزيمة عدوه، مقابل صورة جليات رمزاً للعربي الذي يتسم بضخامة الحجم وكثرة السلاح، ولكنه لا يستخدم عقله فيمنى بالهزيمة ([6]).
نحن إذن أمام خطأ شائع يتمثل في أن أسلاف عرب فلسطين ـ الفلسطينيين ـ كانوا يمثلون البربرية بكل مظاهرها، وبذلك تم تغييب الحضارة الفلسطينية، وهذا ما حدا بـ "روبنسون" إلى الانتفاض والتقريع؛ تقريع من كتب الكذب في جامعات أوروبا، ومن صدق ذلك في جامعاتنا، فيقول: يجب ألا نظن أن أسلاف عرب فلسطين كانوا يمثلون البربرية بكل مظاهرها؛ لأنهم كانوا فلاحين، ولأنهم أقاموا على الوثنية أمداً طويلاً .. لقد كان الفلسطينيون يملكون ثقافة متقدمة وعريقة! ويضيف قائلاً: إنها لسخرية عجيبة من سخريات القدر أن كتب على لفظة فلسطيني أن تكون مرادفة لكلمة بربري، وقد نشأ هذا الاستخدام اللفظي؛ لأن تاريخ أيامهم وصل إلينا عن طريق الإسرائيليين الذين لم يكن في ضميرهم إنصاف لأعدائهم ([7]).
الفلسطينيون.. تغريب الأصيل:
يؤرخ "ج‍. ل . مايزر" لأصول الفلسطينيين قائلاً: إن الزائرين المينيين معروفون زهاء قرن من الزمان في البلاط المصري، وقد كان المصريون يدعونهم كيفتو حتى عهد أمنحتب الثالث، وكانوا يقدمون مصر زائرين وتجاراً وعلى رؤوسهم تلك الجدائل من الشعر التي كانت إحدى مميزاتهم، كما كانوا يلبسون جلابيبهم ذوات الألوان الزاهية، كما كانوا يجلبون معهم أنماطاً من مصوغاتهم الفنية من الذهب والفضة. ولكن قدوم الكيفتو Kiftiu انقطع منذ تربع أمنحتب الثالث على عرش مصر وحل محلهم الشاردانا Shardana والدانونا Danauna وهؤلاء هم رجال حرب سواء كانوا مخاصمين أم مأجورين، وبعض هؤلاء ألحقوا بالجيش المصري وعهد إليهم أن يمنعوا أبناء جلدتهم من دخول البلاد، وإذا ما اعتمدنا على رواية "مانتيون" أحد المؤرخين الوطنيين، فإن أحد هؤلاء الحراس أنفسهم جعل نفسه ملكاً بعض الوقت إبان الفوضى التي كانت سائدة في البلاد عقب وفاة إخناتون نحو سنه 1365، ولم تنقطع شاردانا Shardana عن شن الغارات، حيث ظلت تقوم بغارات متوالية بين الفينة والفينة إلى سنة 1200. ولم يكونوا منفردين بالإغارة بعد سنه 1300، بل أسهم فيها معهم عدد من الشعوب الأخرى، أخذ في الزيادة، فضلاً عن أن غاراتهم كانت أوسع مدى وأبلغ ضرراً، وأكبر اعتداءين وقعا في عامي 1230 و1200، وكان الاعتداء الأول في عصر مرنبتاح وكان يصحبه غزو من طريق الساحل قام به الليبيون على غرب الدلتا،ولم ينفرد الليبيون والشاردانا بالغزو،بل قام بالغزو كذلك الإخيفاشا Akhaivasha والشاكلشا Shakalsha والتورشا Tursha واسم الأول من هؤلاء أصبح منطبقاً في العصر الحاضر على الآخينين Acheans وأواخر هذه الأسماء تشبه النهاية التي في آخر كنوس Cnossus وسجالاسو Sigalassus وبعض أسماء بلاد أخرى إيجية،والاسمان الأخيران وهما لا يزالان موضع تحقيق وبحث قد زادا الاعتقاد الآن بأنهما مشتقان من أصل إيجي.
وليس من شك في أن هناك اتجاهاً قوياً إلى اعتبار التورشا Tursha هم التورسيني Turseni الذين استوطن بعضهم إترويا Etruria وأن الشاكلشا Shakalsha والشاردانا Shardana أطلقوا أسماءهم على أوطانهم الحديثة كذلك في صقلية وكردينيا.
ووقع اعتداء ثان في السنة الثامنة من حكم رمسيس الثالث اشتركت فيه قوة برية وقوة بحرية، وكان مصدرها هذه المرة الجانب السوري، وكان من بين المعتدين الدانيونا Danauna والشاكلشا، وقد اعتدوا على مصر من قبل وشاركهم التكراي Tikkarai وقبائل أخرى حديثة بعضهم فيما يبدو من الإيجيين وبعضهم من شمال سورية، ومن آسيا الصغرى، وكان منهم قوة من الحيثيين، ولعل الباعث هذه المرة أكثر وضوحاً منه في المرة السابقة.
فإن القوة البرية قدمت تصحب جنودهم أسرُهم ومتاعهم على مركبات كبيرة ذوات عجل والقوة البحرية في سفن شراعية كبيرة، وفي أعلى صواريها علامة الحرب، وكانت أسطح السفن ملأى بأبطال في عدة طيبة من الأسلحة، على حد تعبير أعدائهم الشجعان، فمن الواضح إذن أنهم قدموا للاستقرار، ومع أن ملك مصر حال دون دخولهم على إثر معركة حامية وقعت في جنوب سورية ومعركة أخرى بحرية، فقد كان عليه أن يتصرف في أمر من لم يقتل من المحاربين، وفي أمر من لم يشترك في القتال كذلك، وكان يقيم بالسهول الساحلية في فلسطين خليط من الوطنيين والأجانب، فارتباط هؤلاء بالفئة الحديثة القادمة يجعل هؤلاء الأهالي المحبين للحروب المدينين بالولاء لمصر حائلاً دون أي اعتداء على مصر مستقبلاً، وهذه هي السياسة عينها التي جعلت مصر تتخذ من الشاردانا حراساً لها قرناً من الزمان.
وكان اسم أشهر هؤلاء النزلاء البولشتا Pulishta، ولا يبعد أن يكون هذا اللفظ من الأصل اللغوي للاسم الغامض البلاسجيين Pelasgi، وهو اسم نقله الكتاب الإغريق من شعب قديم من القراصنة في المنطقة الإيجية، ولا ريب في أنه اسم ينطبق على اسم الفلسطينيين وعلى لفظ فلسطين الذي انتقل من الساحل حتى أطلق على سوريه الجنوبية كلها ([8]).
ويفترض "جي ـ إي ـ رايت" افتراضاً على منوال تأريخ "مايزر" لأصول الفلسطينيين، فيذكر أن "شعوب البحر المهاجرين قد وطدوا أنفسهم على الساحل الفلسطيني كمستعمرات مرتزقة، حيث أصبحوا وكلاء ثم خلفاء للسلطة المصرية في فلسطين" ([9]).
ويذكر المؤرخ المصري "سليم حسن" في كتابه الموسوعي » مصر القديمة، الجزء السابع « أن "بلست أو بلستي (فلسطين). قد جاء ذكرها أولاً في النقوش التي من عهد رمسيس الثالث، وقد جاء ذكر البلد على تمثال مغتصب في عهد غير مؤكد. ويظن "ستايندورف" أنه عهد الأسرة الثانية والعشرين، وقد اغتصبه شخص يدعى "بيتز" رسول "كنعان " إلى فلسطين.
وقد ذكرها في نقوش "رمسيس الثالث" حيث نجد أن القوم الذين يحملون هذا الاسم من أقوام البحار الذين غزوا مصر وسورية من الجزر .. فإننا لا نكون قد حدنا عن جادة الصواب إذا اقترحنا أن "بلستي" أي (الفلسطينيين) كانوا يسكنون على الساحل من جهة الجنوب بعد "دور" حتى إذا لم يكن هناك براهين تعضد هذا الزعم. يضاف إلى ذلك أن قرن "بلست" بكنعان على التمثال السالف الذكر يمكن أن يعضد هذا الزعم بعض الشيء.
والآن يجب أن نحاول هنا تلخيص البراهين التي ترمي إلى تحديد موطن الفلسطينيين الأصلي قبل ذلك العهد، فالتقاليد اليهودية تتفق مع التقاليد الإغريقية على أن الفلسطينيين من جنس أجنبي، وقد كانوا لا يختنون، وهم في ذلك يختلفون عن الساميين [ الجزريين ]، ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن الأدلة القليلة التي تشير إلى أن "بلستي" أو فلسطينيي عصر "رمسيس الثالث" لم يهاجموا مصر من جهة البحر وحسب،ـ بل تدل الشواهد كذلك على أنهم قد ساروا براً مخترقين آسيا الصغرى على ما يظهر قاصدين شمالي سورية. والظاهر أنه في هجرتهم هذه كانت نساؤهم وأولادهم يستعملون العربات التي تجرها الثيران المسمنة التي نراها مصورة في الموقعة البرية في نقوش مدينة هابو.
وأخيراً لم نجد أي شيء يتعارض مع ما جاء في متون مدينة هابو عن أن الفلسطينيين كان مثلهم مثل حلفائهم قد بدؤوا غزواتهم من جزر البحر الأبيض، هذا إضافة إلى أننا لم نجد ما يدحض التقاليد التي وردت في التوراة أو فيما كتبه الإغريق من أن الفلسطينيين قد جاؤوا إلى فلسطين عن طريق كريت. ولكن فروق التسليح التي بين المنويين كريت والفلسطينيين مضافاً إليها قرص فياستوس الذي كانوا يلبسونه قد جعلت من المحقق أن كريت لم تكن الموطن الأول للفلسطينيين مهما كان طول مدة إقامتهم هناك في طريقهم إلى مصر وفلسطين. أما موطنهم الأصلي فيمكن أن يبحث عنه في مكان ما في شمال بحر ايجه، ومن المحتمل كذلك أن احتلالهم للجزر هناك كان إحدى مراحل هجرتهم. وقد أخذ بعض المؤرخين حديثاً يربطون اسم بلستي باسم بلاسوي لما بين الاسمين من التشابه اللفظي، غير أنه من المستحيل إعطاء رأي قاطع في هذا الأمر([10]).
أما العالم الأثري الأمريكي "ج. ه‍ . برستد" فالرأي عنده أن أهالي "بلست" وهم الفلسطينيون ـ إنما أصلهم من جزيرة كريت ([11]).
ويشير "هول" إلى أن الفلسطينيين قد أتوا مع الشاردانا وجموع من شعوب البحر من زواية جنوب غرب آسيا، وهناك ما يدعو إلى الاحتمال بأن القبائل الكارية، ومن بينهم الفلسطينيون، قد احتلوا نهاية شرق كريت، وذلك عند سقوط قوة كنسوس وانهيار الحضارة المينوية. ثم يقرر "هول" بعد ذلك أن موطن الفلسطينيين إنما كان في حقيقته في ليسياوكاريا، ويقرر"بونفايت" بعد دراسة لغوية لتغير اسم الفلسطينيين أن الفلسطينيين شعب "هندوأوربي" أتى من كريت، ولكنه لم ينشأ بها أصلاً.
ويذهب "وينرايت" إلى أن الفلسطينيين من كفتور، ولكنه يرى أن كفتور ليست كريت، ذلك لأن فكرة أن كفتور هي كريت لا تعتمد على شيء أكثر من ترجمات التوراة التي تتحدث عنها على أنها جزر كفتور، ثم وجد بعد ذلك أن جزيرة بـ (كريت) هي جزيرة مناسبة وكبيرة تصلح للغرض، ورغم ذلك فإن الكلمة العبرية التي ترجمت جزر إنما تعني أصلاً الأرض الساحلية، وتستعمل مثلاً لشاطئ فلسطين، وهناك أدلة أثرية تجعل الإصرار على الاعتقاد بأن كفتور هي كريت، يجرنا إلى اضطراب لا نهاية له.
ويرى "وينرايت" بعد ذلك أن الفلسطينيين قد أتوا من كفتور، وأن كفتور هذه إنما كانت بلداً عند نهر كاليكادنوس، كما يظهر ذلك من ترجمة كفتور بقبادوقيا في الترجمة التوراتية سبتواجنيتا مرتين، ذلك لأن المترجمين ربما كانوا في عمل بمملكة قبادوقيا العظيمة، كما أن كابديرس إنما كان لقباً لملك كفتور، والتي تعادل هنا "سليسيا"، ومن ثم فمن الواضح أن الفلسطينيين كانوا قد احتلوا "سليسيا" الغربية، والأكثر احتمالاً أنَّ المنطقة أعلى وأسفل نهر كاليكادنوس إنما كانت من "سليسيا ـ تراشيا" وسواحلها.وينتهي "وينرايت" إلى أن مجموعة قبائل الفلسطينيين ثيكر ودنين إنما يكونون مجموعة من القبائل في سليسيا، الفلسطينيون والثيكر في الجزء الغربي من البلاد، بينما دنين في الجزء الشرقي منها([12]).
ويرى العالم الأثري التوراتي "أولبرايت" أنه في أوائل القرن الثاني عشر استقرت أقوام جديدة من جزر وسواحل البحر الأبيض المتوسط على ساحل فلسطين، ونعرف عن الفلسطينيين أكثر مما نعرفه عن غيرهم من شعوب البحار، كما يسميهم المصريون. وقد قدم "ج. برارد" (J.Berard) و"جورجيف" (V.Georgiev) في سنه 1950 ـ 1951 الدليل على أن الاسم (فلسطين / Philistine) هو نفس الاسم (فلاسجيان / Pelasgian) يؤيد دليل الفخار أنهم جاؤوا من البحر الإيجي ([13]).
ويذكر المؤرخ الدكتور "فيليب حتى" متأثراً بخطاب الدراسات التوراتية: أن مما يساعد في الدلالة على أن الفلسطينيين كانوا أوروبيين ـ الرسوم التي وجدت على البناء التذكاري الذي أقامه رمسيس الثالث، كما يدل على قدومهم من جزر اليونان وخاصة كريت نموذج الخزف الذي أدخلوه، وبما أنهم أتوا معهم نساؤهم، فإنهم ظلوا مترفعين في أول الأمر يشكلون طبقة عسكرية أجنبية تقيم في الحاميات، وتمثل حضارة أجنبية، وقد نظمت مدنهم الخمس بشكل ممالك مدن كل منها تحت حكم سيد، ولكنها جميعاً كانت تشكل اتحاداً، ويبدو أن السيادة كانت لمدينة أشدود([14]).
نتساءل ههنا: كيف توصل باحثونا الأجلاء إلى هذه الفرضية؟ الجواب ببساطة أنهم اعتمدوا على ما ذكره محرّر العهد القديم في سفر التكوين (10: 13 ـ 14): "ومصرايم ولد لوديم وعناميم ولهابيم ونفتوحيم وفتروسيم وكسلوحيم. الذين خرج منهم فلشتيم وكفتوريم". وما جاء في سفر صفينا(2: 4 ـ 5): "لأن غزة تكون متروكة، وأشقلون للخراب. أشدود عند الظهيرة يطردونها، وعقرون تُستأصل. ويل لسكان ساحل البحر أمة الكريتيين! كلمة الرب عليكم: يا كنعان أرض الفلسطينيين، إني أخربك بلا ساكن". ويضاف لذلك ما ذكره سفر حزقئيل (25: 16): "هكذا قال السيد الرب: هأنذا أمد يدي على الفلسطينيين وأستأصل الكريتيين، وأهلك بقية ساحل البحر". وعلى ما ذكره في سفر صموئيل الأول (30: 14): "فإننا قد غزونا على جنوبي الكريتيين، وعلى ما ليهوذا وعلى جنوبي كالب وأحرقنا صقلغ بالنار".
أما عالم الآثار"سير ألن جاردنر" فيذكر أن: البلست هم الفلسطينيون، وهم من منحوا اسمهم لفلسطين والذين تتناولهم أحاديثنا اليوم بطريقة تدعو إلى الانتقاص من قدرهم بغير حق، ومن المتواتر أنهم جاؤوا من كفتور أو كريت، ولكن ربما كانت هذه مرحلة فقط من مراحل تجوالهم في هجراتهم ([15]).
عـرب لا أوروبيـون:
يذكر "روبرتسن سميث" أن الفلسطينيين يوصفون أحياناً بأنهم شعب غير سامي(*)، إلا أنه ثبت عدم كفاية الأسانيد التي تؤيد هذا الرأي، ورغم دخولهم إلى فلسطين عبر البحر ربما من كريت، إلا أنهم كانوا إما من أصل سامي أو كانوا على الأقل يصطبغون بالصبغة السامية بالفعل، سواء في اللغة أو في الديانة لدى هجرتهم ([16]).
فآخر الدراسات التاريخية تشير إلى أنَّ سكان كريت الأول ـ على ما يبدو ـ الذين أقاموا الحضارة المينوية الزاهرة فيها، وصلوا إليها ما بين الألف الرابع والثالث من آسيا الصغرى، وأغلب الظن أن حضارتهم تأثرت بالحضارة السومرية، ولقد أصبح الآن معروفاً أن أهل كريت كانوا يتحدثون لغة سامية إلى جانب اللغة اليونانية في صورتها البدائية، بالرغم من أن الوثائق سجلت اللغتين مكتوبتين بطريقة مقطعية واحدة.أما من ناحية الجنس، فقد قام بعض العلماء بفحص جماجم الكريتيين، وتبين أنها مستطيلة الشكل، وأنها تدل على جنس البحر الأبيض المتوسط، ولكن بعضها كان مستديراً، ويبدو أن الجنس الألباني اعتاد التردد على الجزيرة ([17]).
ويشير العلامة "طمسن" إلى أن كلمة فلسطين لا تستعمل لوصف مهاجرين من بحر ايجه وكليكا، كما أنها لا تستعمل لوصف العناصر المشاغبة في الإمبراطورية المصرية الأخيرة، فقد استعملت في وقت متأخر جداً اسماً لشعب السهل الساحلي الجنوبي ولجماعة تنتسب إلى سكان الدول المدينية في فلستيا. أما سكان السهول الساحلية الفلسطينية وكانوا من أصول مختلفة ومعظمها من الساميين الغربيين الأهليين في فلسطين، من حيث ثقافتهم المادية ولغتهم وديانتهم. وتعبير (فلسطين) يشير مبدئياً إلى حقيقة جغرافية، وفي القصص التوراتية يكتسب سمة إثنية محدودة خيالية، كمناهض رئيس لظهور شعب إسرائيل، كما في قصص القضاة وصموئيل 1 ـ 2. الفلسطينيون لم يوجدوا بوصفهم شعباً إلا في المنظور العرقي التوراتي اللاحق، وإشارات النصوص الآشورية إلى (بي ـ ليس ـ تي) مثل الإشارات إلى ( آ ـ يو ـ دي) جغرافية تناقض الإشارات الإثنية ([18]).
والكلام ما زال لنفس العالم: "والقول بأن الفلسطينيين يمثلون شعباً غريباً متطفلاً على فلسطين، يجب إنكاره. التأثير الوارد من بحر إيجه جزئي، وعلى أساس البينات المعروفة كان هذا التأثير هامشياً وسطحياً في اللغة والديانة والأشياء المادية حتى في أقدم أشكال الفخار المدعوة فلسطينية. كانت ثقافة المنطقة الساحلية وطنية تماماً ويمكن القول بأنها متأثرة بحضارة بحر إيجه ولكنها سامية تماماً وذات طابع حضاري فلسطيني ([19]).
والحقيقة أن المخلفات الحضارية الفلسطينية في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد وبضمن ذلك الساحل الفلسطيني، تعتبر استمراراً لحضارة العصر البرونزي الأخير. ومن أهم المكتشفات التي تنسب عادة للفلسطينيين فخار ملون بأشكال هندسية وطيور، وتظهر أيضاً أشكال حلزونية ومجموعات من أنصاف دوائر متشابكة،أما أشكال الأواني نفسها فمشابهة للأواني التي عثر عليها في جزيرتي رودس وقبرص، ولكنها غير مطابقة لها،ومن الصعب اعتبارها مستوردة، بل على العكس فإن طينة الفخار محلية وصانعوها محليون أيضاً رغم تأثرهم بصناعة الفخار المعروفة في الجزر الإيجية.
وظهرت التأثيرات الكنعانية [ الفينيقية ] المحلية على مخلفات الفلسطينيين من خلال أسماء آلهتهم أمثال داجون وعشتروت، كما أن العمارة من مبان عامة ومنازل مستمدة من التقليد المعماري للعصرين البرونزيين الوسيط والأخير، والحياة الدينية عند سكان الساحل الفلسطيني كنعانية [ فينيقية ] الأصل، وكذلك المباني الدينية وأهمها: سلسة المعابد المتعاقبة في تل القصيلة التي أنشئت على غرار المعابد الكنعانية / الفينيقية مع ما يظهر عليها من تأثيرات مصرية وإيجية.
وبذلك يصعب على الباحث التفريق بين ما يمكن نسبته إلى المجموعات البشرية التي سكنت فلسطين في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد، فوجود هذا الصنف من الفخار أو ذاك في منطقة معينة لا يدل بالضرورة على سكنى هذه المنطقة من مجموعة إثنية مختلفة، ولكنها غالباً ما تعني أن هذه المنطقة وقعت تحت تأثيرات خارجية ([20]).
وبالإضافة لضعف أدلة علماء التوراة والآثار ومنطقهم، فإن النقطة الأساسية التي ترغمنا على إهمال الرأي بأن الفلسطينيين يمثلون شعباً غريباً، تكمن في تجاهل أهل الاختصاص لمسألة جوهرية تتعلق بتاريخ المنطقة، ألا وهي أن ما من شعب ينتمي لخارج بوتقة الإقليم الحضارية تمكن من فرض اسمه على منطقة أو إقليم. فالإغريق والرومان قاموا بتغيير أسماء بعض المدن والأقاليم في المشرق العربي، ومنها مدينة عمان التي أضحت فلادلفيا في عهد الرومان، لكن هذه المناطق سرعان ما استعادت أسماءها الأصلية بعد رحيل الغزاة. برأيي إن الحال نفسه ينطبق على فلسطين إذ أستبعد أن الاسم فلسطين يعود لشعب مجهول الهوية والأصول ، لم يترك لنا أي أثر عن نفسه أو ثقافته ، حتى عبر طرف ثان.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن التوراة تذكر "الفلسطينيين / فلشتيم" بالعلاقة مع إبراهيم، الذي يربط إيضاً بالفترة الزمنية الواقعة بين القرنين العشرين والسابع عشر ق.م، أي خمسة قرون قبل ورود أي إشارة لـ"شعوب البحر" في النقوش المصرية القديمة.
ولأنَّ قناعتي تنطلق من أن اليمن ومحيطه، هي التي احتضنت تجربة بني إسرائيل، فإن البحث عن "فلشتيم / فلسطينيي التوراة" يجب أن يتم هنا. وفي الوقت نفسه لا يجوز علمياً نبذ إمكانية أن يكونو الفلسطينيون ضمن الشعوب التي أطلق عليها في النقوش المصرية "شعوب البحر" كاحتمال. قد يثير هذا الرأي استغراباً، بل وانتقده بعض الباحثين العرب، الذين يبيعون التاريخ لمن يدفع أكثر. مما يثير التساؤل الأتي: كيف يكون الفلسطينيون ذاوي أصول يمنية، ومهاجرين من شعوب البحر في آن واحد؟ والجواب بمنتهي بساطة: وهو أنه من المثبت تاريخياً أن جزيرة كريت قد شملتها عمليات استيطان بواسطة اليمنيين [ فينيقيون أو معينيون ]، وقاموا بتأسيس الحضارة المينوية (Minoans) في كريت، فقد أشارت المصادر والدراسات إلى علاقاتهم باليمن منذ وقت مبكر، إذ يذكر "د. بافقيه"، نقلاً عن المؤرخ الروماني "بليني" (Pliny) أن المعينيين قد انتشروا في أرجاء العالم القديم. وربط بعضهم بين المعينيين والمينويين سكان كريت القدامى، وقالوا برابطة دم بين الفريقين ([21]).
ومن الجدير ذكره أيضاً أن الكثير من المدن قد استعمرت يوماً بواسطة الفينيقيين [ ذوي الأصول اليمنية كما أثبتنا في مؤلفنا السابق "موسى وفرعون في جزيرة العرب"] ضمن "الهجرات العربية" القديمة فيما قبل التاريخ التي "امتدت على أفريقية الشمالية والبلقان وإيطالية وأسبانية، وعرفت بأسماء موجات أقوام البحر المتوسط"، كما صرحت به المراجع الأثرية الحديثة. ومن المحتمل جداً أن بعضهم [ الفينيقيين أو المعينيين ] بعد أن اتصلوا طويلاً بالقبائل اليونانية رجعوا ثانية شرقاً إلى موطنهم الأصلي فلسطين، فبغض النظر عن أسماء بلدانهم، فإنا نرى عدداً من أسماء أشخاصهم سامية / جزرية، ومنهم أبيمالك، دليلة، عبيد أيدوم ـ وربما أيضاً أشبي، صاف، جوليات، رفح.
ويظهر أن ديانتهم تطبق الأساليب السامية نفسها في تقديس معبودين اثنين ذكر وأنثى، فلداجون آلهة من الأسماك بجانبيه، والأسماء داجون وبلعزبوب آلهة كنعانية [ فينيقية ] أصلاً، ولا ينفي هذا كون الفلسطينيين لا يمارسون عمليات الختان، فربما أبطلوا إجراءها عندما هاجروا إلى كريت.
ومن الأمور الواجب أخذها بعين الاعتبار في هذا المقام أن المؤرخ "هيرودوتس" (484 ـ 425 ق. م) سجل في مؤلفه » مكتبة التاريخ «، قوله: "والفينيقيون كانوا يسكنون سابقاً سواحل بحر إريتريا ( البحر الأحمر ) كما يقولون هم أنفسهم، إذ اجتازوا من هناك إلى سواحل سورية فقطنوها. والقسم من سورية مع كل البلاد التي تمتد إلى تخوم مصر يسمى فلسطين" ([22]).
ونتساءل ههنا ما الذي يجبرنا على أن نجعل من الفلسطينيين شعوباً مختلفة من الوجهة القومية عن شعوب المنطقة؟ فهل هم حقاً غرباء إلى هذا الحد؟ وهل هناك فرق صوتي بين "فينيقيين" و"فلسطينيين"؟ ألسنا هنا، أيضاً، الضحايا الراضين بأفكارنا المسبقة التوراتية؟
ويؤكد البحاثة الأثري الفرنسي "هيلير دو بارانتون" (Hilaire de Baranton) في كتابه » الايتروسكيون في غربنا وفي أصولنا الفرنسية « (Les Etrusques en Notre Occident et nos Origines Francaises ) ما انتهينا إليه، قائلاً: إنَّ "الإيتروسكيين" هم فرع من الفينيقيين السوريين، وإن "الفلسطينيين" هو أحد أسمائهم، وأن معنى "الإيتروسك" في اللغة المصرية القديمة هو "بحارة النيل"، وأن معنى "الفلسطينيين" هو الجنود المحاربون. وزاد الباحث على ذلك فقال عن هؤلاء الفينيقيين السوريين إنهم يحملون أسماء كثيرة مختلفة، وذلك تبعاً لمهنهم أو لعقائدهم، ثم أخذ يعدد هذه الأسماء ومنها "الفلسطينيون" عملاً بمهنتهم الحربية ([23]).
وفي عام 1980، كتب باحثً آخر هو الأستاذ "مايكل غرانت" (M. Grant) كتاباً عن الإيتروسكيين وكانوا عنده، في خلاصة القول، ينحدرون من أصل كنعاني [ فينيقي ] ([24]).
لذلك ولكل ما مر بنا، فإني مضطر للاستنتاج بأن "الأصول الأجنبية لفلسطينيي الحقبة الآشورية وأصولهم المزعومة من (كفتور) مجرد خيال خلقته الروايات التوراتية قريناً لأصول يهوذا أنفسها، فيهوذا والفلسطينيون كلاهما كيانات ثقافية أهلية في فلسطين، وناتجة عن حضارة العصر البرونزي وسكانه، الذين كانوا خلال العصر الحديدي الثاني، متمايزين في مجموعات شبه إثنية، على شكل دويلات تحت حكم إمبراطورية خارجية" ([25]).
بهذا نكون قد تمكنا من استعراض الآراء الأساسية بخصوص الفلسطينيين، وبيّنا وهن الأدلة التي وظفها أهل الاختصاص لتثبيت آرائهم بأن الفلسطينيين أقوام طارئة على فلسطين ضاربة بجذورها في بحر إيجة، أو جزيرة كريت أو أي موطن أخر بعيداً عن المشرق العربي، اللهم إلا لغرض مشبوه هو استبعاد الفلسطينيين من العناصر القاطنة بالمشرق العربي، وحسبانهم غرباء على فلسطين، لتسويغ اعتبار فلسطين سامية من الفرع العبراني؟! لكن يبقى شيء هو "أن العرب الفلسطينيين الذين مازالوا يعيشون في فلسطين هم الأبناء الحقيقيون للسكان الساميين الأساسيين، وجذورهم ليست قائمة في سورية، أو لبنان، أو الأردن، أو مصر، بل البلاد التي عرفوها ولم يعرفوا سواها قط هي بلاد فلسطين" ([26]).
إذن فالفلسطينيون مزيج عرقي له نواة قوية عريقة في القدم، وقد كان أجداد اللاجئين العرب الفلسطينيين، الذين يحيون اليوم في الغربة حياة بائسة، يحرثون الحقول في فلسطين قبل ثلاثة آلاف عام، ويبدو أنه مما يتصل بذلك أن اللاجئين الفلسطينيين يكنون لوطنهم حباً لا يمكن تصوره أبداً، إنهم يثيرون انطباعاً مؤاده أنهم شعب يضرب بجذوره في الأرض متعلقاً بكل بيت ريفي صغير، وبكل شجرة برتقال، وبكل حجر، فليس الفلسطينيون رعاة لا يعنيهم كثيراً أن يستقروا هنا تارة، وهناك تارة أخرى ([27]).

([1]) (منى) د. زياد، جغرافية العهد القديم بنو إسرائيل جغرافية الجذور، ط 1، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1995، ص 166.
([2]) (جاردنر) سير ألن، مصر الفراعنة، ترجمة: د. نجيب ميخائيل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1973، ص (313 ـ 316).
([3]) مقدمة في تاريخ فلسطين القديم، مصدر سبق ذكره، ص 166.
([4]) المصدر نفسه، ص 52.
([5]) (حسن) د. محمد خليفة، رؤية عربية في تاريخ الشرق الأدنى القديم وحضارته، مطبعة الوادي الجديد، 1995، ص 239.
([6]) (وايتلام) كيث، اختلاق إسرائيل القديمة. إسكات التاريخ الفلسطيني، ترجمة: د. سحر الهنيدي، مطابع  الوطن عالم المعرفة، الكويت، 1999، ص (19 ـ 20). مقدمة د. سحر الهنيدي.
([7]) جفريز، فلسطين: إليكم الحقيقة، الجزء الأول، ترجمة: أحمد خليل الحاج، الهيئة المصرية العامة للتأليف  والنشر، 1971، ص 46.
([8]) مايزر، فجر التاريخ، ترجمة: على عزت الأنصاري، مركز كتب الشرق الأوسط، 1962،  ص (187 ـ 190).
([9]) (طمسن) تومس، التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي، ترجمة: صالح على سوادح، بيسان للنشر  والتوزيع، بيروت، لبنان، 1995، ص 188.
([10]) (حسن) سليم، مصر القديمة، الجزء السابع، مكتبة الأسرة، 2001، ص (79 ـ 80).
([11]) (برستد) جيمس هنري، تاريخ مصر من أقدم العصور، ترجمة: حسن كمال، ط 2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997، ص 389
([12]) (مهران) د. محمد بيومي، مصر والشرق القديم، الجزء الثامن، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1990، ص (456 ـ 457).
([13]) (أولبرايت) وليم، آثار فلسطين، ترجمة: زكى إسكندر ود. محمد عبد القادر محمد، مطابع الأهرام، 1971، ص ( 176 ـ 177).
([14])(حتي) د. فيليب، تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، الجزء الأول، ترجمة: د. جورج حداد وعبد الكريم رافق، دار الثقافة، بيروت،1958، ص 197.
([15]) مصر الفراعنة، مصدر سبق ذكره، ص 313.
(*) يذهب بعض الباحثين إلى تخطئة تسمية السامية، وإطلاق اسم الهجرات الجزرية على تلك الموجات على  أساس أن موطنها الأول هو الجزيرة العربية. لمزيد من التفاصيل حول أكذوبة السامية يراجع بحثنا الموســوم "تفكيك التاريخ التوراتي: عورة نوح ـ لعنة كنعان ـ تلفيق الأصول"، تقرير القدس، مركز  الإعلام العربي، العدد 30، يونيو 2001.
([16]) (سميث) روبرتسن، محاضرات في ديانة الساميين، ترجمة: د. عبد الوهاب علوب، مطابع الأهرام، 1997، ص 11.
([17]) (الناصري) د. سيد أحمد، قضية التاريخ القديم، القاهرة، 1971، ص (80 ـ 85).
([18]) التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي، مصدر سبق ذكره، ص (187 ـ 188).
([19]) المصدر نفسه، ص 100.
([20]) الموسوعة الفلسطينية، ألفها نخبة من العلماء، القسم الثاني، المجلد الثاني، ط 1، بيروت، 1990، ص (112 ـ 114).
([21]) (بافقيه) محمد عبد القادر، تاريخ اليمن القديم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،  بيروت، 1985، ص 28.
([22]) هيرودوتس، تاريخ هيرودوتس الشهير، ترجمة عن طبعة لارشي الفرنسي: حبيب أفندي بسترس، مجلدين، مطبعة القديس جاورجيوس، بيروت، 1886 ـ 1887، ص 467. (مصور)
([23]) (الدواليبي) د. محمد معروف، دراسات تاريخية عن مهد العرب وحضارتهم الإنسانية، ط 2، دار الكتاب اللبناني، 1983، ص (129 ـ 130).
([24]) (خشيم) د. على فهمي، آلهة مصر العربية، المجلد الأول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998، ص 44.
([25]) التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي، مصدر سبق ذكره، ص 100.
([26]) (بيكو) وليم، سرقة أمة، ترجمة: د. سهيل زكار وعدنان برنية، دار حسان للطباعة والنشر، دمشق، 1985، ص 21.
([27]) (شايدل) د. فرانتس، إسرائيل أمة مفتعلة، ترجمة: محمد حديد، مطابع وزارة الثقافة والسياحة والإرشاد القومي، دمشق، 1969، ص 175. نقلاً عن: د. ليلي ابيغ، أسياد جدد في الشرق الأوسط، ص ( 339 ـ 340 ).

2012-12-17