الفلسفة، كما عرّفها سقراط، ليست مجرد مجموعة من الأفكار العميقة أو النقاشات المجردة، بل هي أسلوب حياة يهدف إلى تحسين الذات وتوجيه السلوك البشري نحو الفضيلة. ومن هذا المنطلق، يمكننا استخلاص درس عميق من القصة الشهيرة التي جمعت بين سقراط وأحد معارفه، وهي قصة تدور حول قيمة الكلام الذي نتبادله مع الآخرين.
في القصة، كان سقراط على وشك أن يسمع شيئًا قد يثير الشكوك والضغائن حول أحد تلاميذه. لكن قبل أن ينصت لما يُقال، أوقف المتحدث وطرح عليه ثلاثة أسئلة أساسية، أو كما يسميها الفلاسفة "معايير سقراط الثلاثة": الصدق، الطيبة، والفائدة. هذه المعايير ليست مجرد أدوات لتقييم ما يُقال، بل هي طريقة تفكير تُعلّمنا أن نتروى قبل أن ننقل أي معلومة، وأن نفكر في تأثير كلماتنا على الآخرين.
أول سؤال طرحه سقراط على المتحدث كان عن معيار الصدق. فهل ما ستخبرني به صحيح؟ هذا السؤال يضعنا أمام مسؤولية كبيرة تجاه ما ننقله من معلومات. في عصرنا الحالي، حيث تنتشر الأخبار بسرعة البرق عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، أصبح من السهل أن ننقل معلومات قد تكون غير صحيحة أو حتى مضللة. هنا يأتي دور معيار الصدق ليذكرنا بأن نتحقق من صحة المعلومات قبل أن نشاركها، لأن الكلمة الكاذبة يمكن أن تؤدي إلى أذى كبير.
السؤال الثاني الذي طرحه سقراط كان عن الطيبة. هل ما ستخبرني به شيء طيب؟ هذا السؤال يوجهنا إلى التفكير في نوايانا وكيف يمكن لكلماتنا أن تؤثر على الآخرين. إذا كان ما ستقوله سيلحق الأذى بالآخرين، حتى لو كان صحيحًا، فهل يستحق أن يُقال؟ في بعض الأحيان، يمكن أن يكون الصمت أكثر حكمة من الكلام، خاصة إذا كان الكلام سيؤدي إلى زيادة الكراهية أو النزاعات.
السؤال الثالث الذي طرحه سقراط كان عن الفائدة. هل ما ستخبرني به سيفيدني؟ هذا السؤال يوجهنا إلى التفكير في جدوى ما نقوله. إذا كان الكلام لا يحمل قيمة حقيقية أو لا يقدم أي فائدة، فلماذا نقوله؟ في عالم مشبع بالمعلومات، من المهم أن نختار بعناية ما نشاركه، وأن نركز على ما هو مفيد وبنّاء.
من خلال معايير سقراط الثلاثة، نتعلم أن نقل الكلام ليس مجرد فعل عادي، بل هو مسؤولية يجب أن نتحملها بحكمة وتروي. في كل مرة نفكر في نقل معلومة، يجب أن نتوقف ونسأل أنفسنا: هل ما سأقوله صحيح؟ هل هو طيب؟ وهل له فائدة؟ إذا كانت الإجابة عن أي من هذه الأسئلة بالنفي، فإن الحكمة تقتضي أن نحتفظ بالكلام لأنفسنا.
إن الفلسفة الحقيقية ليست مجرد نظريات وأفكار، بل هي أسلوب حياة يساعدنا على العيش بسلام وتناغم مع أنفسنا ومع الآخرين. ومن خلال تطبيق معايير سقراط في حياتنا اليومية، يمكننا أن نصبح أكثر حكمة في تصرفاتنا وكلماتنا، وأن نساهم في بناء مجتمع قائم على الصدق والطيبة والفائدة.