الثلاثاء 11/4/1446 هـ الموافق 15/10/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
«ذاكرة مثقوبة: كيف يعيد الاحتلال مسرحية الدماء على أرض لبنان»...مريم مشتاوي

نشعر بأوجاع الآخرين، نتألم لآلامهم ونحزن لحزنهم، ولكن حين يصبح الخبر وطننا، تتجسد المأساة في أعمق أعماقنا. نموت ألف ميتة مع كل كلمة نخطها، ونشهد ألف شهقة مع كل فاصلة نكتبها. ولا نجد في النقط نهاية للآلام، بل هي بداية لصرخة تمتد من أعماق الروح، حتى تشتق صدورنا. في تلك اللحظات، يصبح الألم شخصيًا، يغمرنا من كل جانب، ونجد أنفسنا نعيش الحكاية بكل تفاصيلها، لا كرواةٍ، بل كأبطال محاصرين في حبكتها.
في صباح موحش ترددت فيه صدى القنابل بين صرخات الأبرياء، استيقظ لبناننا على وقع الهجوم الوحشي، الذي شنته إسرائيل يوم الإثنين وكأن الزمن يعود بنا إلى تلك اللحظات القاسية التي عاشتها غزة قبل سنوات، حينما ادعى قادة الاحتلال أن حربهم ليست مع الشعب الفلسطينيّ، بل مع «حماس».
واليوم يتكرر السيناريو المرير نفسه، ليكون العنوان «حربنا ليست مع الشعب اللبناني، ولكن مع «حزب الله»، أما ما يحدث على أرض الواقع فيروي حكاية مختلفة تماماً، حكاية لا مكان فيها للإنسانية.
كيف ننسى السادس والعشرين من يناير/كانون الثاني، يومها ومع ارتفاع أصوات الدمار في غزة، أطل علينا المجرم نتنياهو، رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي، ليزعم أن حربه ليست مع أهالي غزة، بل مع «حماس». وبعد مرور ثمانية أشهر تقريبًا، في الثالث والعشرين من سبتمبر/أيلول، كرر الكلمات نفسها ببرود، هذه المرة مستهدفًا لبنان: «حربنا ليست مع الشعب اللبناني، بل مع «حزب الله». لكن ما بين الحروف الملتوية والكلمات المتناقضة، تكمن الحقيقة البشعة التي لا يمكن تغطيتها بأي ادعاء: إسرائيل تكرر نفسها، تكرر جرائمها، وتتحجج بأنها تقصف البيوت والمدارس والمستشفيات لأنها تحتوي على أسلحة، كي تبرر قتلها للمدنيين، وكأن الدماء التي تُسفك ليست إلا جزءًا من مشهد متكرر يعرض على مسرح الحروب.

شعارات زائفة وأكاذيب متكررة

خلال يومين فقط، ارتفع عدد الشهداء إلى 500، معظمهم من النساء والأطفال، جراء القصف العشوائي، الذي استهدف عدة بلدات لبنانية. إنها الحصيلة الأكبر منذ حرب تموز/يوليو، وكأن الزمان يعود بنا إلى الوراء ليعيد تذكيرنا بالخراب الذي لم ينتهِ.
اليوم عدد النازحين جراء التصعيد بين إسرائيل وحزب الله في الجنوب يقترب من النصف مليون، وما يعادل هذا القتل والتهجير إجرامًا هي الوقاحة الفريدة من نوعها التي يملكها العدو الإسرائيلي وبشكل حصري. إنه الاستهتار بذكاء الآخرين في العالم بأسره. استهتار واضح، وكأن العالم يعيش في ذاكرة مثقوبة. لا يتذكر مآسي الماضي ولا يرى وحشية الحاضر.
كيف يمكن لدولة الاحتلال أن تراهن هكذا على غباء الآخرين؟ كيف يمكنها أن تعيد الأكاذيب نفسها، التي قرفنا من سماعها، وكأن شيئًا لم يتغير؟ هل هي لا تكترث أصلاً للرأي العالمي؟ يبدو أن الإجابة تكمن في الضجة التي أثارتها مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام المرئي والمكتوب. السيناريو المكرر بات مألوفًا للجميع، لا يثير سوى المزيد من السخط والغضب.
إن هذه الجرائم، التي تتستر خلف شعارات زائفة وأكاذيب متكررة، تفضح حقيقة الاحتلال أمام العالم، وتكشف عن جرح ينزف منذ عقود دون أن يجد من يضمده. كيف يمكن لنا أن ننسى؟ كيف يمكن للضحايا أن يصبحوا مجرد أرقام في تقارير إخبارية؟ إنهم ليسوا أرقامًا، بل أرواحٌ زهقت، أحلامٌ أجهضت، وطفولةٌ سلبت منها البراءة.
في نهاية المطاف، ستبقى الحقيقة واضحة كالشمس: إسرائيل تقتل، تدمر، وتعيد المسرحية الدموية ذاتها، والعالم يشاهد بصمت، ربما لأنه لم يعد يملك ذاكرةً تذكره بأن للدماء صوتًا، وللأرواح ثمنًا.
كم هو مؤلم أن نشهد تكرار هذا المشهد الجارح، حيث يتحول قتل الأبرياء إلى حقيقة دائمة، إلى قدر لا مفر منه. كم هو قاس أن يصبح الزمن هو زمن المحتل وحده، والتعذيب والتهجير وتيتيم الأطفال هي هوايته المفضلة. إنهم وحوش القرن، هؤلاء الذين أعدموا غزة واليوم يغتصبون لبنان، والعالم يقف متفرجاً، وكأنه عقد اتفاقاً أزلياً مع الظلم.
أيها العآلم الظالم، هذا لبناننا، وهذه أرضنا، لن يسقط الجنوب أو أي قطعة من أرضنا في مصيدة المحتلين. نحن هنا، متمسكون بأرضنا، بأطفالنا، بذكرياتنا، بدماء شهدائنا. كيف لنا أن ننسى أطفال غزة الذين رحلوا قبل أن يحققوا أحلامهم الصغيرة؟ كيف لنا أن ننسى ضحكاتهم التي اختفت مع صدى القنابل؟ والآن، ها هم أطفال الجنوب، أطفال بيروت والبقاع، يلحقون بهم، ولا يزال الأفق ملبداً بالمزيد من الدماء والدمار.
أين هي نايا غازي؟ ما ذنب تلك الطفلة البريئة؟ كيف غابت ضحكتها الصغيرة عن مسامعنا؟ ولماذا قصف مسكنها العدو؟ إنها ليست سوى طفلة، كانت تحلم بمستقبل ملون بالفرح والأمل، لكنها أصبحت الآن جزءاً من مأساة تضاف إلى قائمة طويلة من الجرائم التي ارتكبها الاحتلال؟!
لا نملك إلا أن نرفع أصواتنا عالياً، أن نكتب بدموعنا وبقلب ينبض بالحزن والغضب. إن هذا الواقع المرير، الذي يُعاش تحت ظل الاحتلال، يفرض علينا أن نكون أقوى، أن نتمسك بحقنا في الحياة، بحقنا في العيش بسلام على أرضنا. لن ننسى، لن نغفر، وسنبقى دائماً على يقين بأن يوماً ما سيأتي، يوم يحاسب فيه الظالمون على كل دمعة، على كل روح أزهقت، على كل ضحكة صودرت من طفولة بريئة.

مريم مشتاوي

كاتبة لبنانيّة

القدس العربي

 

2024-09-26